القصة القصيرة بقلم إشراق النهدي*
سأجلس في هذه البقعة من البيت ولن أتحرك من هنا. سأسترخي وآخذ قيلولة ثم أصحو وأتمشى في أرجاء البيت، وبعدها أعود للبقعة نفسها وأنام مجددًا. ستكون هذه فسحتي. نعم فسحتي في التحرر ومتسعي من الحرية، فالحمد لله أنا بيتوتي ولا أشعر بالكمد ولا أواجه كبتًا على الإطلاق. وولدي حاله أفضل مني بكثير فهو بالكاد يخرج للتنزه، ويرفض أي نشاطات بيتية لأنه ببساطة مدمن إنترنت وأحيانًا أفلام أجنبية. عدا ذلك، فهو قلّما يخرج من غرفته أو إنه نادرًا ما كان يرافقنا في رحلاتنا العائلية والتي كانت. وكنتُ أضطر قبل كل نزهة أن أهدّد بقطع مصروفه أو أُمثل الغضب عليه، وأظل أعاتبه ومن ثم أكيل له بتهديدات أخرى واهية لا أنفّذها مطلقًا. وهو من فرط التعود على ذلك كان يتملص مني ويعلم مسبقًا أن كل وعيد يصدر عني إنما هو عبثٌ وغير مقصود.
بينما زوجتي فهي أفضلنا حالاً. فلم تعد ترغب في الخروج أبدًا ولم يعد الحظر يضايقها. بل بالعكس تمامًا؛ فقد أعجبتها فكرة لزوم البيت والعمل الإلكتروني منه بدلاً من قطع مسافات مزدحمة لمركز العمل وتكبد صرف البترول الذي ارتفع سعره مؤخرًا بسبب الكساد الاقتصادي. كما أنها تآلفت مع روتينها اليومي وخلقت لنفسها متعةً جديدةً. فبعد عدة أشهر من الحظر تعرفت على تطبيق الزُّوم الذي يجعلها تلمّ بالساعات كامل عائلتها وأخواتها المغتربات في الدول الأخرى والتحدث إليهن في غرفتهن الإلكترونية الخاصة. وكان يتناهى لي من البعيد: قهقهة ضحكاتها، صدى تعليقاتها وأحاديثها التفصيلية المملة. فهن يتحدثن عن كل شيء ولا يبقين على ذكر شيء. فقد سمعت حوارهن عن الطبخ والكتب الإلكترونية المنتشرة في مجموعات الواتساب وأمور فلانة والإشاعات المطلقة عن علاّنة، ويعرجن على مسألة الزيجات الرخيصة في ظل كورونا. حيث لم تعد هناك دعوات أعراس باهظة الثمن ولا حجز قاعات مكلفة أو تحضير بوفيهات طعام فاخرة؛ فقد أصبحت المناسبات السعيدة والحزينة على حد سواء كلها في نطاق ضيق من أفراد الأسر المقربة فحسب، عدا حالات الطلاق التي تراجعت وغدت معظم النساء حوامل. فهن من خلال الأحاديث التي تلتقطها أذناي؛ كن يشعرن بالرأفة على العروسين اللذين لا يمكنهما السفر وقضاء شهر عسل سعيد وفي مكان بعيد. وفي الوقت نفسه يشعرن بالامتنان لقلة تراكم ديون الزواج على العريس بعد انتهاء مراسمه. كن يتحدثن عن إيجابيات كورونا المفيدة وسلبياته المحبطة.
بينما أنا لم أحظ بإخوة أو أخوات، وأخفقت مرارًا في تكوين صداقات مستمرة ومستقرة أو الاحتفاظ بمعارف مقربين؛ إذ يمكنني في حالات كهذه أن أقضي معهم حوارًا عميقًا يطل على مواضيع عدة. طالما كنت خجولاً ولا أنجح في فتح حوار مشوق أو سرد قصة ماتعة أو إلقاء كلمة منمّقة. فقد كنت منعزلاً عن الجموع ومنزويًا في التجمعات ومختصرًا في التصرف، موجزًا في الكلام. كنت شغولاً ومنجزًا وجادًا جدًا. ولا أمتلك من عالم الخيال إلا شرفة كبيرة الحجم بجانب شجرة ضخمة في فناء بيت الجيران الملاصق لبيتنا؛ ومنها كنت أتخيل الجنة وأتذوق ثمارها وأمرر يدي في نهرها. وما فتأت عصافير ملونة ترفرف حولها وتزقزق طوال النهار فوق أغصان تلك الشجرة وتخلق لي جسرًا يعبر منه الضوء إلى قلبي، وفي الفجر تصبح منبهي وتوقظني في موعد الصلاة، والآن أمست لي منبهًا دائمًا يذكرني بعدم مقدرتي على مغادرة البيت.
تضخمت حالات المصابين بفيروس كورونا؛ خاصةً بعد توافد السياح. ومنهم من توفي جراء تلك الإصابة رغم الترند الذي نُشر وتم الإصرار عليه من قبل الشعب وهو: “غلق منافذ المحافظة”، ولكن الزوار توافدوا باجتياح في موسم الخريف الماطر بعد تجاهل الترند من الجهات المعنية. وكنت أُعيد التغريد مرارًا وتكرارًا تحت مسمى “عصفور يغرد بصمت”. فلم أجرؤ على الكشف عن هويتي. وذات يوم ضقت ذرعًا وانسللتُ عن نفسي فتساقط شعري ونبتت لي أجنحة مكان أطرافي بينما تحول فمي إلى منقار برتقالي اللون، وانكمشت ساقاي إلى أرجل نحيلة، وبرز من أسفل ظهري ذيل رمادي اللون واكتسي سائر جسدي بالريش. فطرت من الشرفة وحلقت عاليًا. وبدأت أغرّد وأزقزق بصوت عالٍ على رأس الشجرة، بدت السماء رحبة والمدى في غاية الاتساع، وعندما اقتربت من السرب الطائر قربي وجدتني بينهم أنتمي لهم وشبيه بهم.
* كاتبة وقاصة من سلطنة عمان. هي رئيسة مجلس إشراقات ثقافية، ونائبة رئيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء فرع محافظة ظفار. ولها عدة إصدارات ومجموعات قصصية: الأحمر (2016م)، وروزيشيا (2017م)، وخرفجت (2017م)، وحائط مموج (2018م)، وأمواج ريسوت (2019م)، وأيام من مكونو وكورونا (2022م). ولها عدة قصص منشورة للأطفال والناشئة. إنها شاركت في كتب جماعية عربية عديدة. فازت بالمركز الأول في جائزة راشد بن حميد للثقافة والعلوم في مجال القصة القصيرة لعام 2021م الدورة 38.
تحميل القصة