قصة عائشة بنور :*
تنهض جمانة كل ليلة مفزوعة من فراشها تتحسّس صدرها ثم تتفقد صغيرها الذي يغط في نوم عميق وهي تسحب الغطاء عليه، قائلة:
ـ صغيري لا ينام إلاّ والحلمة البنية في فمه..
هذا ما كانت تهذي به جمانة كلَّما استجوبها الطبيب النفسي في عيادته. كان الجميع يعتقد أنَّها أُصيبت بمرض ألزهايمــر أو أنَّه من شدَّة الألم اختَّل عقلها، لكن المرأة لم تنسَ صغيرها ولم تنس أحمد الذي سقط تحت وابل من القنابل النيوترونية التي شنتها غارات الطائرات آنذاك، مازالت تتذكره ورفاقه كلما مرّت بجانب البيت المهجور الذي ترتسم خلفه الجسور المعلقة لمدينة الضباب قسنطينة.
كانت تتخيّل شخوصا متباينة الملامح بجانب الضّوء المنعكس من النافذة المطلَّة على الجانب الأيسر من الحديقة ذات الأشجار الوارفة الظلال والمتدلية أغصانها على شرفات المنزل الكبير. البيت يبدو مهجورًا للفضولي الذي يتعقبُ سحره الخارجي. لم يكن الوقت مناسبًا للاستيقاظ حينما وجدت نفسها تدور حوله، وقد تركت خلفها باب غرفتها مغلقًا حتى لا ينتبه أحد لخروجها في هذا الوقت المبكر.
تراءت لها ثمَّة حركات خفيفة للنَّاس وكأنَّها أشبـاح هياكل تترامى على الطرقات وأخرى متخفية في زوايا العمارات، يتسربُ الخوف في هذا الوقت حتى بزوغ الفجر.
وقتها كانت أنفاسها اللاهثة تزداد قوَّةً وهي تتحسَّسُ بأناملها شفتيها الباردتين وقد صاح صوت حاد مازال صداه يرنُّ في مسمعها آنذاك وبإلحاح شديد كأنَّه صوت أحمد يأتي من شرفات البيت المهجور يقول لها:
ـ لا تقتربي من المكان؟
تطوف جمانة مرَّات ومرَّات حول البيت المهجور، هاربة من وساوسها الليلية وهي تتخيَّل وجوههم الواحد تلو الآخر، ثم يتناهى إلى سمعها همس خفيف للطبيب أثناء الفحص زعزع الأرض من تحت قدميها وهو يحدق في الأوراق قائـلاً:
ـ في انتظار التحاليـل المخبرية سوف تجرى لك عملية الاستئصال الكلي للثدي…
حدقت النظر فيه بقوَّة ولم تنبس ببنت شفة.
كان صوته بعيدًا، بعيدًا جدا، كأنها لم تسمع ما قاله، أحسّت بأزيزٍ قويٍّ، ورأسها يتصدع وكاد أن ينفجـر ثم لاحت صورة ابنها الرضيع أمامها وهو الذي لا ينام إلاّ والحلمة البنية في فمه ثم خرجت من عنده محطمة تمسح عرقًا باردًا يتصبب من جبينها وجسدها يرتعش ارتعاشًا من هول الصدمة.
ابتلعت صرخاتها وأنينها في جوفها، حاولت جمع أنفاسها اللاهثة، تذكرت لحظتها والدتها التي توفيت بالسرطان، أغمضت عينيها خشية ما قد يظهر لها في لمح البصر، تراجعت نحو الخلف بخطوات حتى كادت أن تهوى على الأرض بعد أن تعثرت قدمها بقطعة خشبية لم تنتبه لها في ظلمة الليل الحالك وسارعت الخطى في الشارع القريب من بيتها عائدةً إلى غرفتها.
استرسلت في مخاوفها فقد كان يتطلب منها وقتًا طويلاً كي تنسى ما يحدث لها كل ليلة كلّما اقتربت من البيت المهجور، وبوجهها الشاحب المصفر وبعينين مغلقتين من شدّة الخوف تبقى في فراشها متسمّرة حتى بزوغ الفجر، تمسح دمعًا حارقًا وصوت الطبيب يملأ فراغ الغرفة ودويّ الانفجارات في المدينة يزيد من هلعها.
وتمر الأيام كئيبة، تذكـر صباح الأمس كان يشبه إلى حد ما صباح لقاءات العشاق بعد ليال من اللهفة والانتظار تتخيل ملامحه الممتزجة مع ابتسامته الخفيفة وهو يمد يـده اليسرى مصافحًا، فاليد الأخرى كانت ملفوفةً في ضمادة.
حينما رآها أحمد تنظر إليه بألم، هزّ رأسه قائلاً:
ـ لا عليك يا جمانة، إنه مجرد حادث بسيط .
ابتسمت غير راضية وأدركت أنه يخفي شيئًا، ثم قالت:
ـ عقلاء في هيئة مجانين!!
تذكر أحمد في لمح البصر آنذاك لحظة تعذيبه، وبإحدى زوايا تلك الغرفة اللعينة أسمالا ممزقة ومرمية على الأرض وحذاءً قديمًا، مغطس الماء به رغوة الصابون، وبجانبه حنفية ماء وحبالا غليظة، ومعدات كهربائية، وكرسيا في وسط الغرفة ولحظات مروّعة مرّت في حياته، وسره يردّد:
ـ ما أقبح الصورة التي تراها بعد ذلك اليوم!!
ثم تنهد قائلاً:
ـ … نحن إخوة!!
اقتربت جمانة وكأنها أدركت ما يشعر به، ثم أردفت، وقد نظرت إليه في استحياء قائلةً:
ـ كنت سأفتقدك؟
قال:
ـ ولكن ليس بهذه الطريقة!
قالت:
ـ وكيف؟
قال بصوت خافت وهو يتأرجح:
ـ المكان سيبقى فارغًا من بعدي..
استرسلت في مخاوفها ولسان حالها يردّد مستوحشا المكان قائلة:
لم أنتبه لقوله، كانت همساتي صامتة، لكنه كان يشعر بأنفاسي وخِلْت نفسي وحيدة في هذا المكان الموحش، ثم انفجرتُ باكيةً…
كنت أتكلم مع نفسي، أحسب أنني الوحيدة فوق هذه الأرض من تتكلم وحدها، حتى خيّل إليَّ مجنونة أو قاربت، أو أنني أتهيأ أشياء وأشياء، لم أستطع أن أتكلم بصوت عال، كل ما كنت أفعله أنني أتحاور مع نفسي بصوتين مختلفين لا أحد يسمع صوت وجعي سواي.
ردّ أحمد مازحًا ومقتنعًا ممّا يقول:
ـ أعتذر.. ولكن مازال عليك الانتظار.. أكثر، فأكثر، وأن تكوني قوية من أجل نفسك ومن أجلي ومن أجل صغيرنا.
فجأة اختفى الرجل في ظلمة الليل البهيم وبقيت وحدي أدور وأدور حول البيت المهجور كل ليلة، وكانت الحياة بيني وبينه مجرد مسألة وقت، وانتصر الموت في النهاية دون أن يعتذر مني أو يمازحني كما تعوّدت منه عند كل لهفة لقاء، متخليا في لحظة عن حلمنا معا، وأنا مازلت أثق في نفسي، وإيماني بتحقيق السعادة رغم احتراق المدينة واستئصال ثدي، ومازلت أذكر صغيري كل ليلة وهو يداعب الحلمة البنية بين شفتيه.
* روائية جزائرية. فاز هذا الإنتاج الأدبي بالجائزة الأولى دوليًا في القصة القصيرة من المنظمة العالمية للإبداع من أجل السلام بلنـدن (مسابقة الأديبة وفاء عبد الرزاق للإبداع الفكري) في دورتها الأولى 2020م.