ميلاد

مجلة الجيل الجديد الصادرة في نيو دلهي الهند

قصة  د. بلقيس الكبسي *

ثمة أحداث لا يمحوها النسيان مهما تجبر، لأنها تُنحتُ في جدار الذاكرة، وتُوشمُ في معصم القلب. الذكريات المثخنة بالألم قد تغفو لتأخذ لها قيلولة مناضل، لكنها تتقد حد العبث، والفاجعة إذا اشتدت وطأتها قد تسلب العقل وتسطو على الذاكرة، فتتناوب أحداثها المثقلة بالوجع في المخيلة برهة فبرهة.

ها هي تقف متحدية أمام ذاكرتها -منتهية الصلاحية- وجهًا لوجه، تغرز نظراتها في أحداق نسيان مستبد، استعدادًا للمواجهة، أطلتْ على ذاتها عبر مرآة كاشفة تتأمل ملامحها كشريطٍ سينمائي باهت من فرط قدمه، تأوهت في وجهها الملبد بالفقدِ، إيذانًا بعصر سحب مآقيها الحزينة، سقطت اللحظة من إطارها، كرَّت حباتها فانفرطت وتبعثرت وهي تتأمل تفاصيلها المنسية، حرثت خطاها المرهقة آلاف الأميال وهي متسمرة أمام انعكاس خيالها؛ محاولة جمع شتات أوجاعها عبر شاسعات قلبها المنهك من سنين قحطٍ شققتْ روحها ظمأ.

طيف خفي يحوم في مخيلتها لم تستطع تذكره، بدتْ ملامحه غامضة، يحفه ضباب كثيف، لكنها تذكرت حدثًا شاقًا وحافلاً، مفعمًا بالفرحة والحزن، بالسعادة والتعاسة، تذكرتْ يومًا استثنائيًا، بدا لها على الرغم من مرور سنواته كأنه البارحة، وظهر لها المشهد أكثر وضوحًا، وهي تصنعُ كعكة -غرست في وجهها فيما بعد بضع شموع- وتُعد فطائر وحلوى وعصائر متنوعة، وتعلق زينة مضيئة، وتطلق بالونات سابحة في الهواء، تحضيرات جمة لا تتذكر لماذا تعدها ولا لمن؟

 في بهو يحتضن وجعها تراءت لها أحداث غامضة بين الذهاب والإياب، وراودتها عنوة خيالات لا تعي كنهها، حدقتْ في الأفق، فبدتْ لها الشمس وهي تحزمُ أشعتها عازمة على الرحيل، كان المشهد باهتًا ومؤلمًا لكنه أنذرها بأن ثمة حدث ما كانت تنتظره بعد المغيب.

ذاكرتها ممتلئة بضجيج أصوات مبهمة، ظهرَ لها في مشهد غامض طاولة يطوقها مجهولون، موسيقى صاخبة امتزجت بلغطهم، شموع تتوهجُ كجمر في حدقتيها، عدٌّ تنازلي، نبضات متثاقلة تدك هدوء المكان، متجمهرون مبتهجون، طيف ما يطفئ شموع تتقد أمام ناظريه بإغراء، تصفيق كقطرات، تهاني تتدفق، صخب حافل، ضحكات، أطباق وكؤوس، أفواه تلتهم كعكته، وأعين شرسة تبتلعُ فرحته، وساعة حائطية لا يعنيها كل هذا الصخب، تقتات دقائقها لتسد رمقها.

لا شيء يذكرها به ولا حتى باسمه سوى صور متداخلة توقظ سبات ذاكرتها بين حين وآخر تتناوب في مخيلتها، فتستنزف طاقتها وتنهك قلبها، تغمضُ عينيها، تفتحهما باتساع، تحدق في اللاشيء لعلَّ المشهد يتضح، لعل الصورة تكتمل، ينهكها التحديق في البهو الشاسع بلا جدوى؛ فتغفو ذاكرتها من فيض الإعياء، وتغرق في غيبوبة نعاس هروبًا من فشل الاستعادة، لم تعد تجدي أية استعادة؟! لا شيء تستعيده إثر حالة الاكتئاب التي ألمتْ بها، ففقدت بعدها مسار الحياة برمتها، لم تعد تتذكر تفاصيلها ولا تتذكرهُ، ولا تتذكرُ كيف وصلتْ إلى هذه الحالة ولا ما الذي أودى بها إلى غياهب هذا النسيان؟ لقد كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، وكانت ذاكرتها تتقدُ كشمعة عيد الميلاد التي اشتعلتْ فأطفأتها.

لا تعرف لماذا مشاهد عيد الميلاد تراود ذاكرتها المتعبة؟ لماذا تنهكها وتمارس العنف عليها؟ كلما حدقتْ في الأفق تراءت لها صور غامضة، وتوالت مشاهد باهتة، علها تحيي ذاكرتها من وأد النسيان، مشهد عيد الميلاد يعود في الظهور من جديد، تتوالى أحداثه، جموع تنفضُ مغادرة، أطباق وكؤوس متناثرة، فوضى عارمة، عيون منهكة، أذرع متعبة، إعياء متفشي، أجساد متهالكة، صمت غارقٌ في الكتمان، تنهيدات من الأعماق، وصوت مجهول يعارك صوتها، يعاتبها، يشاجرها، شجار ما لا تفهم سببه، يتردد صداه في أذنيها كضجيج، ولا شيء يخرسهُ سوى انطفاء الأنوار، بترت شرايينها، فقطعت حبائل الشجار، ليتم البحث عن بصيص ضوء يبدد ظلمة المكان.

في تفشي الظلام الحالك إلا من أضواء باهتة تراءى لها خيال ما يبحثُ عن إنارة، وكأنه ظل سابحُ بلا ملامح، كما بدتْ لها الستائر والزينة كأشباح معلقة، وتراءى لها طيف مرمي على الأريكة، ما إن لمح بصيص ضوء منبعث من شمعتين ضئيلتين، حتى أسرع نحوهما بخطوات عازمة وأمطرهما زفرات، انطفأت إحداهما وظلت الأخرى صامدة، لحظة عزم على إطفاء الأخرى دوت صفعة مباغتة لم يعِ مصدرها؛ كبلته وأحبطتْ كل محاولته، وتعالى صدى صراخ صك مسامعه:

-لماذا أطفأتها.. لماذا …؟ غبي متهور بعد مشقة تمكنتُ من إشعالها تبًا لك أيها الأحمق!

تراجع إلى الوراء، وضع كفه على وجنته الملتهبة، تسمرتْ نظراته حائرة، انزوى جانبًا، تناوب كل من الألم والحيرة على صهره.

حدقتْ قدر استطاعتها علها تستبين المشهد، علَّ ملامحه تتضح، لكن محاولاتها باءت بالفشل، فسقطت مغشية عليها ليتلقفها سبات رفيق، لكن طيفه ظل يلاحقها في منامها، ليأتيها على شكل حلم أشبه بالحقيقة.

استيقظتْ مذعورة صارخة بينما أنياب مسعورة تعض ذاكرتها، تقتات الحمى جسدها، بينما تقاوم بجسارة، استنجدت بطيفه الذي التصق بمقلتيها ليمنحها الثبات، وهي تخوض معركة حاسمة وضارية، فإما أن تنتصر أو تتكبد هزيمة النسيان للأبد، قاوم رأسها العنيد الانزلاق في منحدر التيه، تشبثت بطيفه المتدلي على حافةِ ذاكرتها، وتجلى لها طيفه الغامض، الذي ظل يراودها ذهابًا وإيابًا لسنوات عجاف، إنه صغيرها (ميلاد) بدا لها منكسرًا حائرًا، يترددُ في أذنيها صدى سؤاله بحيرة مزقت نياط قلبها:

-ألم أنل حفاوة وتصفيقًا على إطفائي عدة شموع، لماذا عندما أطفئتُ شمعة نلتُ صفعة؟

اتضحتْ لها هيئته جلية ريثما خطواته تتراجع واهنة نحو الخلف، وهو يطوي ألمه في صدره، ويتخذُ سبيله نحو غرفته، يرافقه حزن يسفح ملء عينيه، ارتدى وجهه ظلمة المكان، فتوجه نحو عزلته بكآبة، في طريق مغادرته التقط إحدى الشموع، أشعلها لتستبين قدماه طريق الرحيل، بحثًا عن سريره، انزوى على حافته، تشبث بوسادته، بللها بدموع انسكبت ألمًا، ارتعشت أطرافه السفلى، قوسهما، احتضنهما كما احتضن حيرته وألمه وغفا باكيًا -في مشارف ليلة جانحة- على أطراف سرير تتقد عليه شمعة تدمع كتمساح، ظلتْ تحترق بلهبٍ ضئيل، ريثما أسدلتْ حدقتاه -الغارقتان دمعًا وحيرةً- ستارهما الأخير هب سعيرها ملء جسده، ابتلعته كأفعى ولم تبق أثرًا لحمرة صفعته.

* د. بلقيس أحمد الكبسي من مواليد اليمن، حاصلة على شهادة الدكتوراه تخصص عام التواصل وتقنية التعبير/تخصص خاص الأدب العربي الحديث/ماجستير تخصص عام مناهج وطرائق التدريس/تخصص خاص/تطوير مناهج اللغة العربية وطرائق تدريسها. ولها خبرة منذ أكثر من 8 سنوات في مجالات الإعلام والصحافة وتدريس اللغة العربية للمتخصصين وغير المتخصصين والناطقين بها، ومدربة واستشارية في التنمية الذاتية والتطوير التنموي والمجتمعي، وباحثة في مجال التطوير التربوي والتعليمي والأكاديمي. وهي شاعرة وقاصة وروائية وكاتبة مسرح، وإعلامية وصحفية. وهي عضوة في كل من: اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ونادي القصة اليمنية، وشبكة الرائدات العربيات، ورابطة كاتبات المغرب، والاتحاد العالمي لشعراء المغرب. كما هي عضوة في مجموعة من المنتديات الأدبية والثقافية الإلكترونية. فازت بالعديد من الجوائز الأدبية اليمنية والعربية، وشهادات تكريم. ولها مشاركة في العديد من المؤتمرات العلمية والملتقيات الأدبية والثقافية الدولية.

ولها 15 إصدارا أدبيًا في مجالات القصة والشعر والمسرح والرواية، وعدة مقالات صحفية منشورة في الصحف اليمنية الرسمية والخاصة وبعض الصحف العربية، ومجموعة من الدراسات والأبحاث التربوية والأكاديمية والعلمية المنشورة.

تحميل القصة