حكاية ملف

لتحميل القصة انقر هنا

 

 

 

قصة: نور ظهير  *

ترجمة: د. محمد قطب الدين **

ما إن وطأت السيدة “نيرجا” “التُكتُك” بقدميها حتى أدركت أنها فقدت شيئًا ما، لكنها لم تتذكر إلا بعد أن قطع “التُكتُك” مسافة أربعة كيلومترات؛ كانت تحمل معها ثلاثة أشياء؛ حقيبتها الشخصية في يدها اليسرى، وحقيبة الغداء فوق كتفها الأيمن، والتي لم يكن بها سوى تفاحتين وزجاجة ماء نصف ممتلئة، أمَّا الشيء الثالث المفقود فكان ملف التقارير الطبية الخاص بمرض السرطان الذي ينهش جسدها.

كان زوجها “سودهاكر” قد أعطاها الملف عند صعودهما الحافلة معًا في محطة “سراي كالي خان” للحافلات، قائلاً:

ــ هل تستطيعين الحفاظ على هذه الملفات؟ فأجابته دون تفكير كالعادة قائلة:

ــ احتفظ أنت بها.

كان الزوج يوبخها تارةً لمثل هذه الأجوبة المتسرعة، لكنه يطمئن على اعتمادها على نفسها. وكثيرًا ما يقوم بالعمل نفسه حينًا، ويُجبرها على العمل حينًا آخر، ولكن هذه المرة مازحها قائلاً:

ــ هل على يديك نقش الحناء؟

كان السرطان ينهش في جسدها على الرغم من أنه لم يَبدُ على وجهها أو جسدها، كانت” نيرجا” تحمل الملف في يدها، ولا تذكر سوى أنها وضعته في الشبكة خلف مقعدها الأمامي أثناء جلوسها في الحافلة.

 لقد عانت كثيرًا من التنقل من مشفى إلى آخر في “دلهي” لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وسط زخم هذه المشافي وإهمالها، وتدني الخدمة الطبية في العيادات الخارجية. كان قلبها يخفق خوفًا ورعبًا في كل مرة، حيث جثم ذلك الداء على جسدها وأرهق روحها، فكانت في كل زيارة لها للمشفى تسأل نفسها:

 ــ كم بقي لي من الحياة؟ متى يحين الموت؟

تزاحمت كل هذه الأمور في ذهنها فأرهقتها حتى تغشاها النوم، ولم تعد تدرك ما حدث. فجأة أفاقت ومسحت وجهها بيدها اليمنى، وقالت في نفسها:

 ــ لا بد أن أخبر زوجي.

 ــ اسمع! ذلك الملف……أعني هل أخذتَ أنتَ ملف أوراق المشفى؟

 ــ لماذا؟ إنني قد أعطيتك إياه.

 ــ لعله فاتني ذلك.

 ــ ماذا؟ لقد قلتُ لك”احتفظي به! أين تركته؟

ــ في الحافلة، وضعته في الشبكة خلف المقعد أمامي……

ــ لماذا؟ هل هو ثقيل حتى أنك لم تطيقي حمله؟

ــ لا، ظننت أنه ربما يسقط من يدي لو نمت.

ــ النوم! لقد أفسد نومك الدائم هذا كل شيء، لا أدري ما الحاجة إلى النوم أثناء سفر يستغرق أربع ساعات فقط؟

ــ أنا أريد الرجوع إلى الحافلة.

ــ هل هي حافلة أبيك حتى ينتظرك؟

ــ ماذا أفعل إذًا؟

ــ أنا لن أرجع إلى “دلهي” مرةً ثانيةً، وكيف يمكن الحصول على تقارير المشفى، بعد إنفاق كل هذه الأموال الباهظة من أجل الحصول عليها مرةً ثانيةً؟ وهنا سألها سائق “التُكتُك” العجوز وهو يبطئ من سرعة مركبته:

ــ ماذا فاتكِ يا سيدتي؟ فأجابه السيد”سودهاكار”:

ــ امش. أرجوك أوصلني إلى بيتي، وعد سريعًا حتى تتناول طعامك فقد أخبرتني من قبل أنك صائم.

أوقف السائق العجوز مركبته على جانب الشارع والتفت إلى الوراء ثم نظر إلى “سودهاكار” وحدَّق فيه مليًّا، وقال:

ــ تعمدتُ أن آخذ هذا المشوار إلى منطقة “جواهرنجر”، لأن بيتي يقع في نفس المنطقة على مسافة غير بعيدة في “حي عجائب”.

ــ لقد أخبرتك أن تمضي قُدماً، امشِ، حتى لا تتأخر عن الإفطار.

وهنا قررت السيدة “نيرجا”، وفاجأت السائق العجوز قائلة:

ــ من فضلك أنزلني يا سيدي في المحطة القادمة لأستقل “تُوكتُكًا” آخر وأعود إلى محطة الحافلات…. واذهب أنتَ.

ــ نعم سأذهب! ولكن لم تخبريني ماذا فاتكِ؟

ــ ملف مرضي، فيه تقارير طبية خاصة بي وبحالتي المرضية، وبعض الأشعة والتحاليل، وغير ذلك، ودونها لن أستطيع تلقي العلاج هنا. 

ــ أنا رجل أجنبي بالنسبة إليكِ، ولا يليق بي أن أسألك، ورغم ذلك… اسمحي لي؛ ما طبيعة مرضك يا سيدتي؟

بدأت أوتار قلب “نيرجا” ترتعش واستحضرت ذكرى طفولتها المنسية: هذا هو “عم نظير” الذي كان يحمل رقعة الشطرنج على البغال ويتجول من قرية إلى قرية! لا أدري، أحقا كان اسمه “نظير”؟، أم سُمّي به لانتمائه إلى منطقة “نظير آباد”، وكان ضعيف الذاكرة لا يتذكر الأسماء، فينادي النساء بالألقاب: “الست الكبيرة، “الست المتوسطة” و”الست الصغرى” وفق أعمارهن.

قاومت “نيرجا” مرضها منذ فترة، وعزمت منذ شهر على ألا تبوح به لأي إنسان مهما كان، لكنها لم تتمالك نفسها في هذه اللحظة، فوجدت نفسها تجيب:

ــ السرطان.

-أصابها ذلك المرض اللعين، ولا أدري قيمة تكاليف علاجه؟، ولا أعلم مَنْ يُعالجه؟ ومَنْ يقوم على رعايتها ويساعدها على تعاطي الأدوية والعلاج، ليس ذلك فقط، وإنما ضاع الملف الذي به التقارير والفحوصات أيضًا. قال “سودهاكر” وصاح:

ــ أين أنت ذاهب؟

تراجع السائق العجوز فجأة إلى الوراء، وبدأ يسير في الاتجاه المعاكس ولا يهتم بنداء الصبية الذين يحاولون إخباره بأنه يسير في الاتجاه الخطأ، ولم يلتفت كذلك إلى سيل السباب والشتم الذي أمطره به سائقو المركبات. خفف السائق العجوز سرعته بعد أن اتخذ مساره الصحيح بعد عبوره الكوبري، وأجاب:

ــ أنا ذاهب إلى محطة الحافلات.

 فسأله السيد “سودهاكر”، ويبدو على وجهه علامات التسامح الديني:

ــ ألستَ صائمًا؟

ــ هذا بيني وبين ربي، دعني أسرع بالمركبة، ولو أردت يمكنك النزول من “التُكتُك”

ــ إنه مضيعة للوقت، أؤكد لك أن الحافلة قد غادرت المحطة.

ابتسم العجوز وأسرع إلى محطة الحافلات بأقصى سرعة ممكنة.

وخلال عشر دقائق وصل إلى حشد من عربات المركبات المنتظرة للحافلات القادمة، وصرخ:

ــ يا إخوان! أرجوكم راقبوا مركبتي جيدًا. اجلس يا “سودهاكر”، راقب أمتعتك، واشرب الشاي. وأنتِ يا سيدتي تعالي معي.

رأت “نيرجا” أن “سودهاكار” بدأ يدير نظره إلى كشك الشاي والمأكولات. وتنفست الصعداء، علّها تستريح لبعض الوقت حين وصولها إلى البيت ولا تُضطر إلى إعداد شيء من الطعام. وهنا سأل السائق العجوز السيدة”نيرجا”:

ــ هل تتذكرين رقم الحافلة يا سيدتي؟

ــ لا. بابا، لا أتذكر شيئًا إلا أنني استقللتُ الحافلة من محطة “سراي كالي خان”.

ــ في أي وقت؟

ــ كانت الساعة الثانية والنصف ليلاً، وكانت الحافلة من طراز “وولفو!”

ــ هذا كافٍ، وتقدم إلى شباك الاستعلام.

ــ يا أخي! هل قدمتْ حافلة من “دلهي”؟ أجابه الموظف في شيء من الاستخفاف واللامبالاة حتى أنه لم يرفع عينيه عن السجل:

ــ نعم. قدمت ثلاث.

ــ إني أسأل عن حافلة واحدة من طراز “وولفو” تحركت من محطة “سراي كالي خان” في الساعة الثانية والنصف؟

ــ نعم، أتت ثم غادرت.

قبل أن ينطق السائق العجوز بالمزيد، ألقت “نيرجا” رأسها داخل الشباك، وقالت:

ــ يا سيدي! لقد فقدتُ شيئًا مهمًا في الحافلة.

أجاب الموظف وهو يرفع عينيه:

ــ لماذا لم تحافظي على أمتعتك؟

حاولت “نيرجا” التوضيح قائلة:

ــ كان ملفًا طبيًا.

ــ ألم تكن حقيبتكِ تتسع له، هكذا أنتن أيتها النساء..

 هنا قاطعته، قائلةً:

ــ لا تتحدث اليوم عن النساء والرجال، من فضلك أخبرني فقط إلى أية جهة غادرت الحافلة؟

أجابها الموظف في شيء من السخف نظرًا لأنها قاطعت حديثه، قائلاً:

ــ سبق أن أخبرتكِ، إنها غادرت.

ــ هل ابتلعتها الأرض أم طارت في السماء؟ لا بد أن تكون على هذه الأرض؟

ــ غادرت إلى المحطة الرئيسة.

ــ نعم، كل ما أرجوه عنوان هذه المحطة. أين هي؟

ــ بعيدة جدًا.

ــ دلّني من فضلك، أنا سأبحث عنها سواء بعيدة أم قريبة.

ــ دُلني يا سيدي من فضلك، عسى أن أجد متاعي وأتجنب خسارة كبيرة؟

بعد أن سمع الموظف توسل “نيرجا”، ومخاطبته بكلمة:” سيدي”، صار ليّنا، وقال دون اهتمام:

ــ في جهة أخرى، إلى الحدود، في “راجا باغ”.

رجع الاثنان معًا نحو “التُكتُك”، وراح السائق العجوز يخاطب “نيرجا”:

ــ كان الموظف يُخفي عنوان محطة الحافلات وكأننا نسأل عن عنوان زوجته المفقودة. ضحكت “نيرجا” بصوتٍ عالٍ على منظر وجهه الصارم كأنه يتجنب الكشف عن عنوان زوجته المطلقة، وابتسم الموظف أيضًا حينما رآها تضحك من قوله.

لم تتوقف ضحكتها حتى دَوَّى صوت الأذان من “مسجد ذي منارة واحدة” بالقرب من المحطة. أخرجت “نيرجا” تفاحتيْن من حقيبتها المعلقة على كتفها، وقالت للسائق العجوز:

ــ يا بابا، لدي فاكهة، من فضلك عَجِّل بفطرك!”. نظر السائق العجوز إليها نظرة خاطفة، ثم مدّ يده اليابسة الخشنة ليأخذ منها تفاحًا، وقال:

ــ سأفطر على فاكهتكِ يا سيدتي، ولكن لن أتناول طعام الإفطار إلا بعد العثور على الملف، لنَرى أيساعدنا الله أم لا؟

أوقفها على باب المحطة بإشارة من يده، ثم أسرع وجاء بالمركبة قريبًا منها. كان يتراءى لها من وجه “سودهاكار” أنه أكل ملء البطن.

ــ لن نجد شيئًا؟ سبق أن أخبرتك، وقلت لك إن هذا مضيعة للوقت.

ــ نذهب الآن إلى محطة حافلات “وولفو”، حيث غادرت الحافلة إلى تلك الجهة، قالت “نيرجا”.

ــ فماذا إن لم نجد هناك شيئًا؟ يتحاور “سودهاكار” مع “نيرجا”.

ــ “بابو جي! لماذا ترهق نفسك. خُذ “تُوكتُكًا” آخر من هنا واذهب إلى بيتك، أنت تعبان أكثر. وافق “سودهاكر” عطفا عليه.

صرخ السائق العجوز على سائق تُوكتُك آخر:

ــ يا عارف!”، تعال هنا.

أنزل يا سيدي أمتعتك، واذهب إلى البيت واسترح، أنا سأعود بزوجتك سريعًا.

نزل “سودهاكار”، وتحرك التُكتُك، وما إن تقدّم قليلاً، فإذا بالسائق العجوز يقول في نفسه: ــ يا للعجب! الزوجة المريضة، والمُتعب هو الزوج. ابتسم الاثنان برؤية بعضهما البعض من خلال المرآة الخلفية، كأنهما نجحا في هذه الخطة.

وما إن دخلت “نيرجا” باب محطة حافلات “وولفو” حتى تعرفت على الحافلة.

 ــ مهلا يا سيدتي، قد يكون باب الحافلة مغلقًا، أنا سأطلب منه أن يفتح الباب.

أوقف السائق العجوز “نيرجا” التي كانت تتقدم بحماس، وتقدّم هو بنفسه وسأل حشدًا من السائقين والمحصلين وهم يحتسون الشاي قائلاً:

ــ يا إخوان! مَنْ سائق هذه الحافلة ذات اللون الأصفر؟ لقد فقدت فيه هذه السيدة ملفها.

وقبل أن تأتيه الإجابة منهم، إذا بصبي صغير يقف على مسافة قليلة منهم يقول:

 ــ أنا احتفظت به ووضعته تحت مقعد “سائق الحافلة”.

اقترب الصبي ذو البشرة البيضاء، والذي يبدو أنه في السادسة عشرة، واستأذن سائقه وكأن هذا جزءًا من وظيفته:

ــ هل أعطيها الملف يا سيدي؟ فأجابه السائق:

ــ يا بني، لا بد أن نرد المتاع إلى أهله، “يا أختي، اذهبي وخذي متاعك المحفوظ، لا بد أن تحافظي على الأشياء المهمة”.

نهض السائق ناصحًا وفي يده كوبٌ من الزجاج الفارغ. تعرفت “نيرجا” على ملفها وضمته إلى قلبها كأنها تذكرت ذكريات العشق المتمردة فجأة ولا تريد الانفصال عنها.

 أنزل السائق العجوز “نيرجا” أمام بيتها، وأخذ الأجرة، ثم وضعها في جيب داخلي لنصف سترة لبسها، ثم رفع عينيه بعد ما قالت “نيرجا” له:

ــ سلام بابا.

 أطفأ السائق مركبته، ثم نزل منها، وهو يردد:

ــ لقد صدق سائق “وولفو” إذ قال: “الحفاظ على الشيء المهم ضروري، والنفس أهم شيء، احفظيها”.

عاد السائق العجوز إلى مركبته وأدارها وذهب، وما زالت “نيرجا” تنظر إلى نفس الجهة لبرهة قليلة، وقالت:

ــ نعم، المحافظة على النفس أمر مهم، لا للغير فقط بل للنفس أيضًا، لأن هذا هو ما نملكه فقط.

* باحثة وكاتبة هندية. إنها تكتب باللغات الإنجليزية والهندية والأردية. وهي مترجمة وكاتبة لعديد من القصص والمسرحيات، وحائزة على جوائز وتكريمات عديدة. و”حكاية ملف” ترجمة عربية للقصة “ضروري مال” باللغة الهندية، ومأخوذة من مجموعتها القصصية الهندية المعنونة بـ”سياني ديواني”.

** أستاذ مشارك، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.