حين أمارس الإقصاء

لتحميل القصة انقر هنا

 

 

قصة: ليندة كامل*

يا لمفارقة الحياة! قيل عنها بأنها عاهرة تجوب الملاهي وتتجول في الأزقة ليلاً.. وعند الصباح، تنام مع الفقراء تؤانسهم وتسرد عليهم قصص الصبر..

ها هي تمارس عهرها معي! في تلك الطلبات الكثيرة التي تردني ممن يرغبون بالثرثرة، ها قد صار لي عشاق بالآلاف رسالة واحدة جعلتني أتذكر تلك الصديقة التي أدرع معصمها ونحن نتجه إلى الثانوية كيف يتغزل بها الشبان ويسيرون خلفها فيهمسون لها: يا ذات الخمار الأسود، همسا رقيقا ترتجف له أساريري، تلتفت إليهم بابتسامة مثيرة..

فأتسمر في مكاني وينزل عرق الخجل على جسدي “أي جرأة تلك التي تمتلكها” أحاول أن أخفي ملامح الارتباك وأستمر في طريقي، أغلق الباب خلفي وأتجه إلى المرآة، أتصفح ملامحي وأجزاء جسدي قطعة قطعة أنظر إلى عينيّ الخضروين ووجنتي الورديتين، وشفتيّ الزهريتين وأرفع الخمار عن رأسي فينسدل شعري الأشقر إلى عاجيتي بابتسامة وضاءة أطرح السؤال: لم هي وليس أنا!

ما الذي لم يره فيّ! ووجده عندها!

جدتي التي كانت تراني بدرًا هل أخطأت؟.

وكيف لنظرات ستينية أن تخطأ!

رغم محاولاتي لكشف سر تلهف الشبان عليها وإعراضهم عني

حين خفق قلبي حبا كغيري من البنات

كنت أحتضن قلبي بين يديّ، وأنا أراه ينظر إليها يغمزها يبتسم لها

فيغرقان في بحر الوله ووحدي أغرق مع قلبي في بركة من الوحدة والوجع

تحدثني عنه وعن كل كلمة قالها لها، تخرج هداياه التي كانت من المفروض لي، وهي تلوح لآخر خلفنا…

أعود منهكة مما يحدث حولي وأقنع نفسي أنه طيش المراهقة، فأرمق أمي وهي تخبز الخبز، وكيف تردد على سمعي قولها “الله يزين سعدك، اقراي بنت باش تخرجي من الغرقة”

فأغرس رأسي في الدراسة أمحو كل الهزائم التي تصدع لها جدار قلبي وأعوض خسارات الحب بنجاحي

تفوقت على زميلاتي ولم ينفع تفوقي جلب انتباهه لي، للحظة شعرت بكينونتي التي تلاشت في عالم العشق

كنت أنظر إليهما وهما يتبادلان رسائل وهدايا الحب، وحدي أحتضن اللاشيء، أتوسد دمعي وأنتظر هلال كلمة “أحبك” لعلها تخطئ الطريق فتصيبنا

طلبت مني أن أعطيها سجل المحاضرات في كافتيريا التي يتوافد عليها العشاق، رحت وحيدة بجناح واحد عكس الوافدون إليها، ذهلت لحجم الحب الذي يلفهم وحجم الصقيع الذي يسكنني

وجدته معها، ينظرني كأنه قرأ ملامحي التي ترددها “أحبك”

سلمتها السجل في ارتباك فاضح وخرجت من فوري وسط إلحاحها بالمكوث معهما “ألم تفهم أني غارقة في الوجع”…

عدت إلى غرفة باردة، أطل من النافدة ألمحهما معا يكبشان أصابع أيديهما لمحنى من بعيد دون أن يشعر بهذا الاحتراق الذي يعتليني

أحشر جسدي المهزوم وأدفء قلبي الزكوم ببرودة حب مؤجل

رغم محاولتي دس ورقة في السجل، كتبتها بالبند العريض “أجمل  ما في الحياة قلب صادق يحبك” وانتظرت ردة فعله في اليوم الموالي جاء رفقتها أجلسها في موضع يقابلني يراني هو ولا تراني هي وأطلق بصره نحوي، كأنه يقولها “أعرف حقيقة مشاعرك، لكني أتلذذ بتعذيبك”.

نظرات استفزاز تصلني منه، تأبطت قلبي كحقيبة سفر وانصرفت وضعته في براد حتى لا أمارس الحزن

ها أنا في عالم الافتراض يتوافد العشاق عليّ تماما كما كان يتوافد على صديقتي وها أنا الآن أمارس الإقصاء، وأجبرهم على حمل قلبهم في حقائب ووضعها في البراد.

* كاتبة وشاعرة وقاصة من دولة الجزائر، تعمل حاليًا مستشارة توجيه بأحد مراكز التكوين المهني. صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان “الجثة المشوهة” ومجموعة قصصية قصيرة جدا بعنوان “هواجس”، وعدة روايات منها: “المطاردون”  و”الغمريان” و”زر الاعتراف” و”لم أنجبتني أنثى”.