المعطف

روسكين بوند

قصة:  روسكين بوند*

ترجمة: عبيد الرحمن**

كان الطقس صافيًا ومتجمدًا، ومع ظهور القمر فوق قمم جبال الهيمالايا، تمكنت من رؤية بقع الثلج التي كانت تلوح على التل. لو قضيت الليل مع كتاب وزجاجة ماء ساخن بجانبي لكنت أسعد، ولكنني كنت وعدت كابادياس (Kapadias) بأنني سأذهب إلى حفلتهم، وشعرت أنه سيكون من الفظاظة البقاء في المنزل. فارتديت سترتين ووشاحًا قديمًا لكرة القدم ومعطفًا، وانطلقت في طريق يلمع في ضوء القمر. وكانت المسافة إلى منزل كابادياس لا تزيد عن ميل واحد، بعدما قطعت حوالي نصف المسافة رأيت فتاةً تقف في منتصف الطريق. لا بد أنها كانت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها. بدت هذه الفتاة قديمة الطراز، وكان شعرها طويلاً منسدلاً إلى خصرها وفستانها مطرزًا باللون الوردي والخزامي، إطلالاتها ذكرتني بالصور في ألبوم عائلة جدتي. عندما اقتربت، لاحظت أنها جميلة العينين، وكانت تعلو على شفتيها ابتسامة خلابة. قلت لها: مساء الخير، إنها ليلة باردة لا تصلح للخروج، “أنت ذاهب إلى الحفل” سألتني الفتاة، فأجبت: نعم، ويمكنني أن أرى من ملابسك الجميلة أنك ستذهبين أيضًا. تعال، نحن على وشك الوصول. فمشينا معًا، وسرعان ما رأينا الأضواء من منزل عائلة كابادياس تتلألأ عن بعد. أخبرتني الفتاة أن اسمها جولي. وكانت أجنبية بالنسبة إليَّ. وكان في الحفلة حشد كبير، وسرعان ما عرفت أن لا أحد يعرف جولي، ولكن الجميع اعتقدوا بأنها صديقة لي. وشعرت أنها فتاة تشعر بالوحدة وتريد أن تأنس بالناس. وكانت تستمتع بنفسها، لم أرها تكثر في الأكل والشرب، ولكنها كانت تتنقل من مجموعة إلى أخرى تتحدث وتستمع وتضحك. وعندما بدأت الموسيقى أخذت ترقص باستمرار، بمفردها أو مع شركاء. وكانت منغمسة تمامًا في الموسيقى. أردت المغادرة إلى منزلي بعد حلول منتصف الليل، لأن النعاس ساورني، وكنت مستعدًا للنوم. عندما قلت ليلة سعيدة لمضيفي وأعربت للجميع عن أطيب تمنياتي، وضعت جولي ذراعها في يدي وقالت إنها ستعود إلى المنزل أيضًا. عندما خرجنا للمنزل قلت لها: أين تعيش يا جولي؟ قالت: في وولفسبورن في أعلى التل، قلت: هناك تعصف الريح الباردة، على أي حال، فستانك جميل ولكنه لا يبدو دافئًا جدًا. من الأفضل أن ترتدين معطفي، لدي ما يكفي للحماية من البرد، لا أحتاج إليه.  فسمحت لي بوضع معطفي فوق كتفيها. ثم واصلنا السير إلى المنزل. لكن لم يكن بوسعي مرافقتها طوال الطريق. عندما وصلنا المكان الذي التقينا فيه قالت لي: من هنا أعرف طريقًا مختصرًا إلى منزلي. سأتسلق فوق منحدر التل لأصل في أقرب وقت. قلت لها: إنه طريق ضيق للغاية، هل تعرفينها جيدًا، فأجابت: أنا أعرف كل حجر على الطريق، وأنا دائمًا أسلك هذا الطريق، وبالإضافة إلى ذلك، الليلة مشرقة، فلا داعي للقلق من الظلام. قلت لها: حسنًا، احتفظي بالمعطف سآخذه غدًا، ترددت لحظة، ثم ابتسمت وأظهرت رضاها.  اختفت جولي في أعلى التل، وذهبت لوحدي إلى المنزل.

في اليوم التالي مشيت إلى وولفسبورن، وعبرت جدولاً صغيرًا، ربما سمي المنزل بهذا الجدول، ودخلت من بوابة حديدية مفتوحة. ورأيت أن المنزل قد عاد إلى الخراب، ولم يبق منه إلا أطلال وكومة من الحجارة ومدخنة محطمة، وبعض الأعمدة حيث كانت شرفة ذات يوم. وفكرت لحظةً: هل كانت جولي تمزح بي؟ أم دخلت المنزل بالخطأ؟ مشيت حول التل ووصلت إلى منزل حيث يعيش آل تايلور، وسألت السيدة تايلور العجوز: هل تعرفين فتاة تدعى جولي. فأجابت “لا، لا أعرفها، أين تقيم هي؟” قلت لها: قيل لي: هي تقيم في وولفسبورن. ثم قالت العجوز: المنزل قد تحول إلى خراب، و لم يعش أحد في وولفسبورن منذ أكثر من أربعين عامًا. عائلة عرفت باسم ماكينن عاشت هناك. وهي من إحدى العائلات القديمة التي استقرت في وولفسبورن. لكن عندما ماتت فتاتهم، عندئذ توقفت العجوز ورأتني بنظرة غريبة. ثم قالت: أعتقد أن اسمها كان جولي… على أية حال، عندما ماتت، باعوا المنزل وارتحلوا. لم يعش أحد فيها مرة أخرى، ومع مرور الوقت، تدهور المنزل وتحول إلى حطام، ولكني أعتقد بأنها ليست نفس الفتاة التي تبحث عنها، ربما هي فتاة أخرى بنفس الاسم. على حد علمي، إنها ماتت بسبب مرض السل، وقبرها يقع في تلك المقبرة القريبة.

 شكرت السيدة تايلور وسرت ببطء على الطريق المؤدي إلى المقبرة، لم أرغب حقًا في معرفة المزيد، لكنني تقدمت للأمام ضد إرادتي. عندما وصلت وجدت مقبرة صغيرة تحت أشجار ديودار حيث يمكنك أن ترى الثلوج الأبدية لجبال الهيمالايا التي تبرز مقابل زرقة السماء الصافية. هنا ترقد عظام أولئك الأبطال الذين أسّسوا الإمبراطوريات، وترتاح أجساد الجنود والتجار والمغامرين وزوجاتهم وأطفالهم. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً للعثور على قبر جولي. وكان عليه حجر بسيط مكتوب عليه بوضوح: جولي ماكينون (39-1923م) عاشت معنا لحظة واحدة، ثم ذهبت إلى خالقها لترقد في راحة. على الرغم من أن الرياح قد اجتاحت المقبرة وتناثرت حجارتها، إلا أنها لم تلمس بسوء حجر القبر الصغير الذي ترقد فيه جولي. عندما كنت على وشك المغادرة، رأيت بالصدفة شيئًا مألوفًا خلف حجر القبر. فمشيت إليه، فإذا هو معطفي المطوي بدقة على العشب.

* روسكين بوند (Ruskin Bond) هو كاتب هندي مرموق من أصل بريطاني، ولد في 19 مايو عام 1934م. وهو روائي كبير، ويعرف بمساهماته الممتازة في مجال أدب الأطفال. في عام 1992م، تلقى جائزة ساهيتيا أكاديمي لإنتاج أعمال بارزة في اللغة الإنجليزية في الهند، وحصل على جائزة بادما شري عام 1999م اعترافًا بمساهماته الاستثنائية في مجال أدب الأطفال.

كتب أكثر من 500 قصة قصيرة ومقالة ورواية، بما فيها “المظلة الزرقاء” (The Blue Umbrella) و”طيران الحمامات” (A Flight of Pigeons) وأكثر من 50 كتابًا للأطفال.

هذه القصة “Overcoat” (المعطف) مأخوذة من كتاب ” The Essential Collection for Young Reader” (مجموعة من القصص الشيقة للقراء الناشئين) لروسكين بوند، الذي أصدره مطبع روبا ببليكيشن (Rupa Publication) في نيو دهلي، عام 2015م  .

** كاتب هندي.

 

لتحميل القصة انقر هنا