سائق الركشة

لتحميل القصة انقر هنا

 

قصة: فهيم أختر *

ترجمة: د. ولاء جمال العسيلي**

كان “هريا” ينتمي إلى عائلة متواضعة من القرويين. وحين تقدمت السن بوالده، تحمل مسؤولية إدارة المنزل. كان “هريا” يعمل طوال اليوم في الحقول والمزارع، ويعود إلى المنزل في المساء، ويقضي الوقت مع عائلته.

ولد “هريا” في منطقة “هَارِيْبُور” بمديرية “دَرْبَهانْغَا”. كان الفقر والبؤس قد جعلا حياة أسرة “هريا” صعبة، ظل يدير المصروفات المنزلية لعدة أيام، ولكن مع مرور الوقت ازدادت مشاكله المالية؛ فقد كان يعول أربعة أطفال وزوجته، وكان معظم الشباب في قريته قد غادروها إلى المدينة للبحث عن فرص العمل.

كان “هريا” قلق المزاج عند دخوله المنزل اليوم.

“يا أم “بُهْولِيْ” اسمعي!”

“ماذا حدث بك! لِمَ تصرخ هكذا؟”.

“احزمي كل الأغراض، لن نبقى هنا في هذه القرية”.

“إذن أين سنذهب ونرتحل؟”.

“سنغادر إلى كُولْكَاتَا”.

“هل فقدتَ عقلك؟”.

“نعم فقدتُ وعيي وطار عقلي، لقد ضاق بي ذرعا بما اعتراني من العسر وأصابني الفقر وحل بي البؤس. سأزور غدًا محطة السكك الحديدية من أجل الحصول على معلومات عن موعد القطار المتجه إلى مدينة “كولكاتا”.

انشغلت الزوجة امتثالاً لأمر زوجها في حزم بعض أمتعة المنزل.

خرج “هريا” وعائلته وهم يتدافعون في الزحام من رصيف محطة “هَاورَا” المكتظ بالمسافرين، ما إن وقعت عينا “بُهْولَا” ابن “هريا” على جسر “هاورا” حتى طار فرحًا وتهلّل وجهه وبدت عليه السعادة فسأل أباه:

“يا أبي! انظر ما هذا؟”.

ينظر”هريا” أيضا إلى ذلك الجسر بدهشة وتعجب: ويقول “ما هذا فعلاً؟”.

وفي هذه الأثناء يخاطب سائق ركشة “هريا” الذي كان مندهشا مما رأه:

“يا صاح! هذا هو جسر “هاورا”.

قالت زوجة “هريا” بعفوية: “يا إلهي! هل هذا جسر، كم أكبر الجسر!.

استفسر سائق الركشة: “هل أنتم تزورون هذه المدينة لأول مرة؟”.

قال “هريا”: “نعم يا أخي، لقد وصلنا إلى المدينة منذ قليل”.

سأل سائق الركشة: “أتتقن أي مهنة؟”.

أجاب “هريا”: أجيد الزراعة”.

“أين الزراعة هنا يا أخي؟ يعيش هنا أسياد أو عُمال مثلنا، لكن يا أخي إن هذه المدينة طيبة جدًّا، ستقابل فيها الناس من كل ديانة وطائفة”.

اشتغل “هريا” وعائلته بتجاذب أطراف الحديث مع سائق الركشة إلى حد أنهم لم يشعروا بمرور الوقت.

“ياااه! لقد تأخر بي الوقت، ويجب عليَّ الذهاب إلى جراج الركشة، أين ستذهبون؟ ألا تودون الذهاب معي إلى بيتي؟”.

حمل “هريا” وزوجته وأطفاله الحزمة، وساروا مع سائق الركشة.

حذَّر سائق الركشة “هريا” قبل دخول بيته قائلاً: “يا أخي! اخفض رأسك قليلاً ثم ادخل”.

كان بيته في الواقع يضم غرفةً صغيرةً جدًّا، في زاوية كانت بعض أدوات الطعام، بينما في زاوية أخرى كان هناك دلو مملوء بالماء. كان “هريا” وزوجته وأطفالهم الأربعة ينظرون إلى ما كان في تلك الغرفة بنظرة ثابتة، حتى سأل سائقُ الركشة:

“يا أخي! كيف وجدتَ قصري هل أُعجبت به؟”.

خرج “هريا” على الفور من الغرفة وقال “يا أخي! يتجسد فيك الإله، وتشعر بآلام الفقراء من أمثالنا”.

قال سائق الركشة وهو يسعل: “يا أخي! اترك هذه القصة الآن، لأذهب إلى السوق، وأحضر بعض المواد الغذائية”.

وفي اليوم التالي هب سائق الركشة إلى عمله، وخرج “هريا” أيضًا إلى المدينة ليبحث عن عمل، وحين حل المساء عاد سائق الركشة، وسأل “هريا” عن حاله، ورق قلبه لـ”هريا” وعطف عليه لما رأى من ملامح التعب والعجز والضعف على وجهه، فسأل “هريا”: “هل ستود أن تسوق ركشة؟”.

أجاب “هريا” على الفور: طبعا “لكن كيف سيكون هذا؟”.

قال سائق الركشة: “ياااه، لا تقلق سأقوم بتدريبك على سوق الركشة”.  “شف يا أخي! هذا عمل شاقٌّ جدًا، لا بد من حفظ التوازن وتجنب عدم فقدان التوازن عندما تسوق الركشة، أحيانا ستسوق بسرعة، وأحيانًا بهدوء وبطء. وعندما تجد زبونًا وهو يبدو غنيًا لا تتردد في أن تطلب منه أجرة أكثر”.

بدأت قطرات العرق تظهر على جبين “هريا” ولم يزر النوم جفنيه طوال الليل، كان غارقًا في تفكير كيف سيتمكن من سوق الركشة، مع أنه كان يتمتع بصحة أحسن وأفضل من صحة سائق الركشة.

وفي الصباح ذهب سائق الركشة بـ”هريا” إلى منزل السيد “جهوش”. كان السيد “جهوش” بَدينًا لدرجة أن عباءته لا تكاد تغطي جسده، وكان في فيه التنبول، ومعلقًا في عنقه تمثال الإلهة “كالي ماتا”.

“صباح الخير يا سيدي!”.

“يا “سُوكَها”! من هذا الرجل الذي أحضرته؟”.

“يا سيدي! هذا “هريا” وهو يريد أن يسوق الركشة”.

“جيد، هل ساق الركشة من قبل؟”.

” لا يا سيدي، سأقوم بتدريبه”.

 يا تُرى “سوكها”، أقبل ما تقوله، لكن يجب عليك إبلاغه عن كل القواعد الضرورية هنا، وأعطه ركشة عندما يتمكن من سوق الركشة جيدًا”.

” شكرًا جزيلاً يا سيدي!”.

فعاد كلاهما من منزل السيد “جهوش” فرحا ومسرورا وسعيدا بما قدم “جهوش” من اقتراح.

” يا أم “بهولا”، هل تعلمين بأنني نجحت في الحصول على عمل وهو سوق الركشة”.

“لكن يا أبا بهولا كيف ستمارس هذا العمل..”.

“يا أم “بهولا”، هل لا تودين أن نقوم بزارعة الأرز في مدينة كولكاتا؟! أنت امرأة جاهلة، تتسرب فكرة إلى عقلك وتختمر في ذهنك، ثم لا ينصرف ذهنك عنها أبدًا”.

مرت الأيام، وبعد عدة أشهر أصبح لدى “هريا” مسكن خاصٌّ به، وبدأ أطفاله أيضًا في الذهاب إلى المدرسة، وبدأت حياة “هريا” أيضًا تزدهر عن طريق رُكاب المدينة الأغنياء والفقراء.

لم تمض ستة أشهر على سوق “هريا” للركشة، حتى وقع هذا الخبر كالصاعقة على “هريا” وجميع سائقي الركشة.

يا “سوكها” هل سمعت ماذا قال كبير وزراء الولاية: إنه لن يسمح لنا بسوق الركشة من الآن فصاعدًا. كبير الوزراء هذا غبي، يصدر الأوامر دون أن يفكِّر في النتيجة. أين سنذهب نحن الآن؟”.

بينما كان “هريا” و”سوكها” يتحدثان، إذ خاطبهما سائق آخر للركشة قائلاً:

“اسمعوا يا إخوتي! سيتم عقد اجتماع من قبل الاتحاد غدًا، فعلينا المشاركة فيه”.

في مساء اليوم التالي بدأت فعاليات الاجتماع، وأثار عضو الاتحاد بخطبته الجياشة  غضب سائقي الركشة، وأعلن الإضراب اعتبارًا من الشهر المقبل”.

لم يفهم “هريا” ما هو الإضراب. فأخبره “سوكها” بأننا سنمتنع عن سوق الركشة، ونرفع شعارات وهتافات ضد قرار الحكومة لتحقيق مطالبنا.

اليوم قد مضت على الإضراب ستة أشهر، ولم يبق في المنزل ما يسد جوعهم من الطعام، “هريا” وسائقو الركشة الآخرون يحملون الرايات ويرفعون هتافات كل يوم احتجاجًا على قرار الحكومة: “حققوا مطالبنا”، لكن ما كان لرئيس الولاية أن يسمع لهم، فما كان  من عمله إلا أن يصدر الأوامر، فقد فعل وجعل العمال أن يقوموا بالإضراب.

منذ بضعة أيام لم يكن ذلك العضو أيضًا في المدينة لمشاركته في مؤتمر، وأخذت تضعف همة “هريا” وتفتر عزيمته، حتى لم يعد قادرًا على حمل  الراية، عند عودته إلى المنزل بعد قضائه طوال اليوم في الاعتصام الاحتجاجي، كان يستر وجهه خجلا ويتمدد على الفراش.

واليوم عقد “هريا” العزم على أنه سيسوق ركشته الآن، فنظّف ركشته وخرج إلى الشارع، كان الناس ينظرون بدهشة إلى سائق الركشة ويجتنبون ركوب ركشته، فما إن قطع “هريا” مسافة قليلة حتى قبض عليه أحد أفراد الشرطة، وبقي “هريا” ملقى في السجن منذ عدة أيام، حتى  جاء “سوكها” ذات يوم للقاء “هريا”، وجعل يعرب عن أسفه على عجز “هريا”، فسأل “هريا” “سوكها”:

هل تحدثت إلى العضو بخصوص إطلاق سراحي؟”.

قال “سوكها”: إن العضو غاضبٌ منك جدًّا، وكان يقول: لا يقيم اعوجاج عقل الغبى إلا السجن.

واليوم عندما خرج “هريا” من السجن أسرع إلى بيته، وبعد أن قطع بعض المسافات، وقعت عيناه على موكب يمشي فيه ذلك العضو بعظمة وسط الرايات وضجيج الهتافات. فلم يتمالك “هريا” نفسه فجرى بسرعة إليه وشدّ بقبضتيه على عنقه، ففصله الأشخاص الموجودون في الموكب عن العضو، وضربوه بعصيّ راياتهم ضربًا مُبرحًا حتى سقط على الأرض متلطخا بالدم، ولقي “هريا” مصرعه بعد قليل.

وفي اليوم التالي قد نشرت جميع الأخبار هذا الخبر على صفحتها الأولى وكان عنوانه مكتوبًا بحروف جلية وهو أنه قد عُقد اجتماع ناجح بين سائقي الركشة والمسؤولين بالحكومة، تقرر فيه النظر في مطالب العمال. وإن الإضراب لسائقي الركشة كان قد انتهى الآن من المدينة.

* ولد فهيم أختر في كولكاتا، حصل على شهادة البكالوريوس من كلية مولانا آزاد في كولكاتا عام 1988م، وشهادة الماجستير من جامعة كولكاتا عام 1990م. كان يميل إلى الأدب منذ أن كان طالبا. كتب مقالا بعنوان “الأفق الجديد” عام 1993م، وبثت إذاعة عموم الهند هذا المقال. ارتحل عام 1993م من كولكاتا إلى لندن طلبا للرزق، ومنذ ذلك الحين يقيم في لندن. نُشرت له عديد من المقالات في المجلات والجرائد في أوروبا والهند وباكستان. كما صدرت له عدة مجموعات القصص  والمقالات.

** أستاذة مساعدة، قسم اللغة الأردية وآدابها، كلية الآداب، جامعة عين شمس، القاهرة، مصر.