التقنيات السردية في القصة الإماراتية القصيرة

aljeelaljadeed

د. بديعة خليل الهاشمي*

ملخص البحث

تعد “السرديات Narratology” من الحقول العلمية الحديثة التي نهلت من مجالات معرفية أخرى كاللسانيّات والسيميائيّات، ثم أخذت تتوسع لتصبح مادة لكثير من المجالات، كالتاريخ والصحافة والقانون والمسرح والسينما وغيرها. ولا تهتم نظرية السرديّات بتاريخ النصوص السردية أو معناها أو وظيفتها، بل تبحث فيما تتقاسمه النصوص السردية واختلافاتها ونظام القواعد التي تسير عليها. كما تعنى بمعالجة الأساليب والتقنيّات التي يوظفها السارد في عمله الحكائي، مثل: الصيغ السردية، والصيغ الزمانيّة والمكانية، وبناء الشخصيات، والعتبات وغيرها. ويهدف هذا البحث إلى دراسة التقنيات السردية في القصة الإماراتية القصيرة، من خلال التطبيق على ثلاث مجموعات قصصية هي: “قبر تحت رأسي” للولوة المنصوري، و”إشارة لا تلفت الانتباه” لسلطان العميمي، و”اعتراف.. اعتراض رجل” لعائشة عبد الله. موظفًا المنهج الوصفي التحليلي.

كلمات مفتاحية: التقنيات السردية، السرديّات، الصيغ السردية، القصة القصيرة.

القصة القصيرة في دولة الإمارات العربية المتحدةالنشأة والتأصيل

قد لا يكون للتجربة القصصية الإماراتية تاريخ طويل يوازي ما للتجارب العربية والخليجية الأخرى، لكنها استطاعت مع ذلك أن تحقق وجودًا فعالاً ومؤثرًا من خلال عدد من الأصوات، التي تمثل جيل المؤسسين ومن تلاهم من أصوات شابة، أثبتت قدرتها في التعامل مع هذا الفن. وقد ارتبط ظهور القصة القصيرة في دولة الإمارات وتطورها ارتباطًا وثيقًا بانتشار التعليم النظامي وظهور الصحافة وانتعاشها وتحديدًا في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ أسهمت الصحافة بشكل كبير في تشجيع الكتّاب على الإبداع والنشر في المجلات والصحف التي تضمن لإنتاجهم الوصول إلى أكبر شريحة من القرّاء. 

ويمكن تقسيم مراحل تطوّر فن القصة القصيرة في دولة الإمارات إلى خمس مراحل تاريخية[1]، كالآتي:

أولاً: الجيل المؤسس الذي فتح الباب لتأريخ الفن، ورفده بموضوعات تنامت واستمرت، ومنهم: عبد الله صقر، وشيخة الناخي، ومظفر الحاج، وعلي عبيد، ومحمد المر، وعبد الحميد أحمد، وعبد الرضا السجواني.

ثانيًا: الجيل الوسيط الذي رفدته أسماء جديدة، أعطت القصة الإماراتية استمراريتها ودفقها الجديد، وهو الجيل الذي شهد التحوّلات الكبيرة في المجتمع، فعبّر عن سلبيات طالت بعض قيمه وثقافته، وأخذ يفاضل بينه وبين القديم، معبّرًا عن تمسكه بالثوابت والقيم الأصيلة. كما حضرت في قصصهم رموز تلك الثوابت، كالبحر والنخلة والصحراء. ومن تلك الأسماء: مريم جمعة فرج، وسلمى مطر سيف، وإبراهيم مبارك، وناصر الظاهري.

ثالثًا: جيل المِفْصل وهو جيل اطّلع على تجربة المؤسسين وعايش تجربة الجيل الوسيط. فانطلق برؤيته الفنيّة الخاصة نحو آفاق الفن، ولكنه بقي متمسكًا بإطار الشكل القصصي الكلاسيكي (بداية- عقدة-حل/نهاية)، كما بقيت المضامين تدور حول قضايا المرأة والمجتمع. ومنهم: أسماء الزرعوني، وابتسام المعلا، وسارة الجروان، وحارب الظاهري، وفاطمة محمد.

رابعًا: أصوات جديدة حاولت أن تخلّص مضامين القصة من قضايا المجتمع وتنحو نحو الذات، وتعالج هموم إنسان العصر، ومشاكل العولمة وغيرها. ومنها: نجيبة الرفاعي، وفاطمة الكعبي، ومحسن سليمان، وعائشة الزعابي، وفاطمة المزروعي.

خامسًا: أسماء نحت نحو التجريب والتحديث، سواء على صعيد المضامين التي يحضر فيها الرّمز والغموض والإيحاء، أو على صعيد البناء الفني الذي امتاز بالتّكثيف والإيجاز، وأفاد من إمكانات التقنيات السردية الحديثة، ككسر الخط الزمني، وتوظيف العتبات النصيّة والفضاء البصري. وهو ما صنّفه النقّاد تحت نوع سردي جديد استطاع أن يشق طريقة وسط الأنواع السردية العربية والعالمية وهو: القصّة القصيرة جدًّا. ومن أبرز تلك الأصوات: سلطان العميمي، وعائشة الكعبي، ومحمد الهاشمي، ولولوة المنصوري، وعائشة عبد الله، ولطيفة الحاج، وأسماء الحمّادي. 

وهذا التقسيم -دون شك- ليس تقسيمًا نهائيًّا أو حتميًّا، ولكنه محاولة لتنظيم الإنتاج الأدبي في مجال القصة الإماراتية القصيرة بهدف التأصيل والدراسة، إذ قد نجد ممن ينتمي إلى إحدى المراحل وقد اكتفى بإصدار مجموعته اليتيمة ومن ثم توقف بعدها، ومنهم من نشر بضع قصص في المجلات الثقافيّة ولم ينشرها في أضمومة قصصية، ومنهم من زاوَج بين كتابة القصة والشعر أو الرواية. كما أن من بين الأسماء المذكورة من تشكّل تجربته حلقة وصل ما بين مرحلتين، سواء من حيث المضامين أو السمات الفنية.  

ومن المهم هنا أن نشير إلى أن أغلب الأصوات الأدبيّة الشابّة في الإمارات قد انجذبت نحو فن الرّواية، فالكتابات القصصيّة الصادرة حديثًا قليلة إذا ما قورنت بالإنتاجات الروائية. وقد يعود ذلك إلى تحوّل الخطاب السردي عالميًّا نحو الرّواية، وتفضيل الكتّاب لها للتعبير عن إنسان هذا العصر، فهي تمنحهم المساحة الرحبة، البناء الفنيّ المتحرر من قيود الشعر وقوافيه.

مفهوم السرد والسرديّات

“السّرد” -كما يعرفه معجم النقد الأدبي الحديث- هو: “شكل من الخطابات تروى فيه الأحداث… ويتحقّق وفقًا للمميزات الآتية:

-حضور سلسلة من الأحداث التي تشكل جزءًا من الحدث.

-حضور عدد من الروابط المنطقيّة المتعلقة بالزمن.

-حضور زمن القص.

-أفعال الحركة”[2].

فالسرد “ليس جنسًا أدبيًّا -كما يعتقد العديد من الكتّاب والنّقاد على حدّ سواء- بل السرد نوع نصيّ، تشترك فيه كخاصيّة مميّزة عدة أجناس، بعضها أدبي والآخر غير أدبي”[3]. كالخرافة والأسطورة والرواية والقصة والسينما وغيرها. 

أما “علم السرد” أو “السرديّات” فيعدّ من الحقول المعرفية الحديثة وأحد تفريعات البنيوية الشكلانية، وقد بدأ “يتشكّل بصفته علمًا له قواعد وأصول، في عام 1966م، العام الذي أصدرت فيه الصحيفة الفرنسية (تواصل) عددًا خاصّا بعنوان “التحليل البنائي للسرد”، أمّا مصطلح “علم السرد” فقد نُحِت بعد ذلك بثلاثة أعوام من قبل أحد المساهمين في العدد الخاص”[4]، وهو “تزفيتان تودوروف” الذي يعدّه الدارسون أول من استعمل مصطلح ناراتولوجي (Narratology) عام 1069م، في كتابه “قواعد الديكاميرون” وعرّفه بـ”علم القصّة”. ثم انتقلت السرديّات إلى الدراسات العربية في سبعينيّات القرن الماضي.

وقد تطوّر “علم السرد” ونهل من المجالات المعرفية الأخرى كاللسانيّات والسيّميائيّات، كما أخذ يتوسّع ليصبح مادة لكثير من الأطروحات في مجالات مختلفة، كالتاريخ والسياسة والتربية والصحافة والممارسة القانونيّة والفولوكلور والمسرح والسينما والموسيقى، حتى قيل: “السرد في كل مكان”.

ويعرّف بأنه: “دراسة القص واستنباط الأسس التي يقوم عليها وما يتعلق بذلك من نظم تحكم إنتاجه وتلقيه… ولا يتوقف علم السرد عند النصوص الأدبية التي تقوم على عنصر القص بمفهومه التقليدي، وإنما يتعدى ذلك إلى أنواع أخرى تتضمن السرد بأشكال مختلفة، مثل الأعمال الفنية من لوحات، وأفلام سينيمائيّة، وإيماءات، وصور متحركة، وكذلك الإعلانات أو الدعايات، وغير ذلك. ففي كل هذه ثمّة قصص تحكى وإن لم يكن ذلك بالطريقة المعتادة. ويقوم المختص بالسرد باستخراج تلك الحكايات ليستكشف ما تقوم عليه من عناصر وما ينتظم تلك العناصر من أنظمة”[5].

فالسرديّات “نظرية للنّص السّردي لا تهتم بتاريخ مجموعة معينة من النصوص السردية أو معناها أو وظيفتها، بل تبحث فيما تتقاسمه كل النصوص السردية الفعلية والممكنة، وفيما يمكّنها من الاختلاف عن بعضها البعض، وتهدف إلى توصيف نظام القواعد الذي يليق بالمقام السردي، ويحكم إنتاج النصوص السردية ومعالجتها”[6]. فهي إذن نظريّة تتناول قوانين الأدب القصصي، وفحص البناء السردي، وتحليل الأجزاء المكوّنة له، وتحديد العلاقات والوظائف فيه، ولا تعنى بتفسير النصوص والبحث في مضامينها.

لذا فالسرديّات ينصبّ اهتمامها على التقنيات السرديّة والصيغ والتعبير، وما يختص بأدبيّة النص السردي، وليس على المحتوى الحكائي أو المادة الحكائيّة والدلالة كما تفعل السيميائية. ومن تلك التقنيات: البنيات السرديّة، والإطار السّردي، والأصوات السرديّة، والرؤية السرديّة أو “التبئير”، والصيغ الزمانيّة والمكانيّة، ووظائف الشخصيات. وسنقوم بتسليط الضوء على عدد من تلك التقنيات التي وظفها كتّاب القصة الإماراتية القصيرة بشكل فعّال في بناء النص السردي.

التقنيات السردية

أولاً: السارد/الصوت

السّارد هو الصّوت الذي يعهد إليه المؤلف الواقعي بسرد الحكاية للقارئ، ويمكن الاهتداء إليه من خلال السؤال: (من المتكلّم؟) أو(من الذي يسرد النّص؟). فهو إذن “المتكلم أو الناطق بلسان أو صوت الخطاب السّردي. وهو أيضًا الوسيط الذي يقيم صلة الاتصال مع المتلقي أو المسرود له، وهو الذي يرتّب العرض، وهو من يقرّر ما الذي يجب أن يقال، وكيف يجب أن يقال… وما الذي يجب أن يترك”[7].

وتسهل على الدارس معرفته من خلال بصماته التي يتركها على النص، ومنها “موقعه الزّمني من الأحداث التي يروي، ودرجة علمه بها وتشكيله الخاص للّغة، وما يلجأ إليه من طرائق لاستعادة أقوال الشخصيات، ومنها أيضًا ضمير السّرد ومستواه… وعلاقته بالحكاية المرويّة… وما ينهض به من وظائف بعضها إجباري وبعضها الآخر اختياري”[8].

ومن الجدير بالذكر أن ثمة تمايز تام بين المؤلف/القاص الذي يبدع العمل السّردي، والسّارد/الصّوت الذي يقدمه للقارئ، “إنه الأنا الثانية للكاتب، وعين الكاميرا المبهرة السحرية التي تكشف أسرار الحياة، فوقف عليها وعرف كل ما يدور بها من تشابك علاقات وتعقيد… إنه أسلوب صياغة أو بنية نص يختاره الكاتب أداة كغيره من الأدوات الفنية لإقامة النص الأدبي كالأزمنة والأمكنة والأحداث والشخصيات والمواقف والبدايات والنهايات…”[9] وغيرها.

وهذا العنصر شأنه شأن بقية العناصر السرديّة، إن لم يكن أهمها جميعًا؛ لأنه هو الذي يصنعها ويمنحها سبب وجودها في النص. والسّارد يكون على ثلاثة أنماط:

السارد الداخلي

يسمى كذلك “السارد الشخصي” وهو شخصيّة موجودة داخل الحكي وفاعلة فيه، تُسرد الحكاية على لسانه، فهو شاهد على الأحداث، متتبّعٌ لمسار الحكي ومتنقّلٌ عبر الأماكن. يحضر صوته معلّقًا على الأحداث ومتدخّلاً فيها بتأملاته وآرائه، ويروي غالبًا بضمير المتكلّم. يسميه جينيت (Genette) “راويًا مشاركًا في الحكاية”، ويطلق عليه دانون بوالو (Danon Boileau) تسمية “الراوي العلني” أو “الصريح”… أما ريفارا (Rivara) فيطلق عليه “الراوي السير ذاتي”[10].

ومن القصص التي وظفت في كتاب القصة الإماراتية القصيرة هذا النمط، قصة “تسكّع داخل ثقب الباب” للولوة المنصوري التي تروى على لسان فتاة، تحاول سبر خفايا القرية التي تعيش فيها، وكشف مجهالها من خلال ثقب باب متخيّل أُغلق منذ سنوات. هذا الباب الذي يرمز إلى قيود تفرضها الأسرة والمجتمع على فتاة تهوى التحليق مثل عصفور طليق، يرغب في التخلص من قضبان السجن الذي حبس فيه زمنًا طويلاً. فتبدأ القصة بصوت الفتاة يسترجع الوصايا المفروضة عليها:

يوصينا أبي دائمًا عندما نستجيب لحضور وليمة في القرية، ألا نتخذ لنا مجلسًا في موضعين مهما تكن الظروف، أحدهما عند نهاية الصف للخيط الممدود للجلساء، والآخر عند عتبة الباب أو خلف انكشافه الضارب على الحائط[11].

ثم تشرع في وصف رحلة استكشاف قريتها، التي بدأتها من ثقب الباب حينما حَشَرَت نفسها من خلاله لترى الأشياء بوضوح:

أرى عيني تحفر في الثقب نفقًا عميقًا بين الكتلة والفراغ، نحو مشوار طويل بلا نهاية…

أمشي إلى طابور طويل على مقصف مدرسي متهدّل…

أمشي إلى أب يحملنا سعداء نحو غابات النخيل وبرك الماء…

أمشي ملتحفة بتموجات الظل إلى طفل يهبط في مزرعة تاجر بخيل ليسرق النّبق…

أمشي.. وأمشي وداخل الثقب تولد أولى انقلابات جذعي المنهك، الثقب الذي يضيق في فوهة الحيز وانكشاف الزمن…. أهشّ الوصايا خارج الثقب، وباللون الأسود أطمس بعضها المعرِّج بالشماتة.

وأصرخ: (دعوني أرى ما ترون).

أرى أكثر وأكثر”[12].

ويلاحظ هنا أن توظيف الكاتبة لصوت السارد الداخلي جاء متجانسًا مع مضمون القصة وهدفها الذي يرمي إلى الكشف عن انبهار الفتاة باكتشافاتها الجديدة، وانفعالاتها بما تشاهد، ومشاعرها نحو القيود والوصايا المفروضة عليها، وهي أمور خاصة لا يمكن أن يعبر عنها أي سارد آخر بجلاء مهما كان قريبًا من الفتاة، ولو وظفت الكاتبة صوتًا آخر لما كان ذلك مقنعًا للمتلقي.

السارد الخارجي

ويسمى كذلك “السارد الغفل”، لأنه خارج نطاق الحكي، غير مشارك في الأحداث، لذا يوظف ضمير الغائب. غير أنه “يمثّل مركز التوجيه الرئيس في مستويات وجهة النظر، والزمان والمكان، وسجلاّت القول”[13]. ونجده في العديد من القصص في المجموعات، منها قصّة “صهيل الخيل” لعائشة عبد الله، وهو توظيف ناجح خدم مضمونها الذي يأخذ طابع الحكاية التاريخية أو الأسطورة أو الملحمة الشعبيّة مجهولة السارد. فالسارد يروي عن “فارس” يخوض رحلة شاقة بحثًا عن “عنترة بن شدّاد العبسي”، فيشق الطرقات ويرتحل من مكان لآخر يبتغي أن يلتقيه ويستمد شيئًا من قوته وشجاعته. ولكنه في كل محطة يصل إليها يلوح له شخص يبدو في ظاهره أنه عنترة، وما إن يمعن النظر فيه حتى يجده مختلفًا عن تلك الصورة التي في ذهنه عنه. فلا المكان هو المكان، ولا الزمان هو الزمان، ولا عنترة هو عنترة الذي سمع كثيرًا عن بطولاته، وقرأ عنه في كتب التاريخ والشعر:

كان عنترة العبسي يرقص فوق طاولة مستديرة، يرتدي ثيابًا ممزقة وتستر بعضًا من جسده العاري… ناداه بأعلى صوته… لم يسمع سوى صدى صوته الذي عاد إليه مقتولاً… ركع عنترة رافعًا يديه فتوقفت قرقعة الطبول، ابتسم وتمتم بكلمات لم يفهما ونطق بلسان لم يسمعه في باديته[14].

ونجد أن السرد بضمير الغائب هو الأنسب لهذه القصة، التي أسقطت أحداثها على أحداث تاريخيّة، واستدعت شخصيّة تراثيّة، وكأن السارد العليم يروي قصة من قصص التاريخ، أو رحلة أسطورية دوّنت في أحد كتب الأدب القديمة.

السرد المتعدد

في هذا النوع من السّرد يشرك المؤلف أكثر من صوت، فالرواة يتناوبون على رواية الأحداث كل من زاويته، ولذلك تتعدد وجهات النظر في القصة. وتسمى هذه التقنية بـ “التبئير المتعدد” وفيه يعرض “الحدث العرضي بتكرار من خلال رؤية مؤبر داخلي مختلف في كلّ مرة، ومن الناحية النموذجية، فإن ما يعرض بهذه التقانة هو ميل الناس المختلفين في إدراك أو تأويل الحدث نفسه بطريقة مختلفة جوهريًّا”[15].

كما في قصّة “مصابيح” لسلطان العميمي التي تروي ظروف التقاء صديقين قديمين (شهاب وميس) بعد عشرين عامًا من الفراق، تبدّلت فيها أحوالهما وتغيّرت ظروفهما. إذ تتكون القصة من مشاهد، كل مشهد فيها يروى بصوت أحدهما، فتدور قبل اللقاء حوارات داخليّة (مونولوغ) تكشف عن ذكريات كل منهما عن الأيام السالفة. ويبدأ كل مشهد بكلمة (بصوته أو بصوتها) لتعلن عن السارد:

بصوته: … كنت أعرف أنه صوت ميس، لكنني كذبت سمعي وشككت في أن يكون الصوت الذي أسمعه هو صوتها بعد عشرين عامًا من غيابه عنّي”[16].

“بصوتها: طوال طريقي إليه في سيارتي، كنت أفكر في شكل شهاب كيف أصبح”[17]. 

وتعدد الأصوات هنا نقل للقارئ ترقب الشخصيتين لهذا اللقاء ومدى أهميّته بالنسبة لهما، كما استطاع أن يسمعه التساؤلات التي كانت تدور في ذهن كل منهما قبله.

ثانيًا: الشخصيات

تهتم السرديات بالنظر إلى وظائف الشخصيات، متأثرة في ذلك بمنهج اللسانيات الذي يرى أن الكلمة تأخذ دلالتها في الجملة من خلال الدور الذي تقوم به وسط غيرها من الكلمات ضمن نظام الجملة. ووفق هذا التصور فإنها تجد أن الأساس في النص الحكائي “هو الأدوار التي تقوم بها الشخصيّات، فعن هذه الأدوار ينشأ المعنى الكلّي للنص. وهذا سبب تحوّل الشكلانيين والبنائيين معًا (والسرديّة فرع منهما) إلى الاهتمام بالشخصية الحكائية من حيث الأعمال التي تقوم بها، أكثر من الاهتمام بصفتها ومظاهرها الخارجيّة”[18].

وانطلاقًا من هذا المبدأ فإنه يمكن تصنيف الشخصيّات من حيث أدوارها في القصة كالآتي:

الشخصية المسطّحة/الثابتة

وتسمّى كذلك الشخصيّة الضحلة وهي التي “نتوقّع أفعالها وحركاتها؛ لأنها لا تفاجئنا بشيء، فضلاً عن أنها بسيطة، غير مركّبة، ذات عاطفة واحدة في النص… لا تتغيّر ولا تتبدّل”[19] فهي تصوّر نمطًا أحادي البعد، مقيد في أفعاله وكلامه. ومثال ذلك شخصيّة موظفة المحل في قصة “نسيان” لسلطان العميمي، التي تساعد الزوجة في شراء هدية لزوجها بمناسبة عيد ميلاده. فهي شخصيّة ثابتة طوال أحداث القصة وغير متطوّرة، أقوالها متوقعة وتصرّفاتها مقيّدة.

الشخصية النامية

وتسمى كذلك الشخصية المستديرة، وهي التي لا تستقر على حال؛ “لأن عواطفها وأفكارها تتبدل بحسب المواقف… فهي تفاجئنا دائمًا بأفكارها ومواقفها وتفاعلها مع الحوادث والشخصيّات، أي أنها تتغيّر عما بدأت به”[20]، وغالبًا ما تكون هي الشخصية البطلة. كما في قصّة “أصابع الضوء” للولوة المنصوري، وهي أيضًا الساردة التي تستدعي مواقف مختلفة من حياتها، تعود إلى طفولتها وهي تداعب أصابع أخيها الرضيع، فتنهرها أمها خوفًا من أن تكسر أنامله. وأخرى مثل عقاب أمها لها حينما كانت تبكي من الجوع في الولائم، وضرب أبيها لها بجريد النخل على خطأ ارتكبته، ويوم أن ماتت ابنتها الرضيعة. فتلك المواقف العصيبة التي مرت بها الشخصية قد غيرتها كثيرًا، وجعلتها تبدو بشكل مختلف في نهاية القصة:

“أنا الآن أشبه الضياع.. كائن وحيد وحائر، يوشك على الاختفاء بلا انتساب إلى الضوء والهواء”[21].

الشخصية الثانوية

وهي شخصية تكون قريبة من البطل، تسهم عن طريق تباينها وتناقضها في إبراز مزايا شخصية البطل أو عيوبها، وهي بذلك مكوّن فعّال في البناء السردي القصصي. ومثال ذلك أفراد عائلة البطلة في قصة “أصابع الضوء” آنفة الذكر، كالأم والأب والجد والجدة، فهي شخصيّات محيطة بها، لعبت دورًا فاعلاً في نموها وتغيّرها، تقول عن أمها:

“حين كنت أجرؤ بإصبعي على دعك راحة يده الضعيفة اللاهثة إلى وجود دافئ، تصرخ وتنهرني بأني سأكسر ضلعه!”[22].

وعن أبيها: “أبي ذو الأصابع الطويلة الثخينة الكثيفة الشعر، كان يجلد ظهورنا الصغيرة بجريد النخل الأخضر الشائك، يجلدنا بصمت مريب دون التفوّه بكلمة”[23].

الشخصية الكورالية

وهي شخصية لا تؤثر في سير الأحداث، وتكتفي بأن “تعلّق على الشخصيّات أو الأحداث، ونمطيًّا فإن حديثها إما أن يكون فلسفيًّا، أو وعظيًّا مضجرًا أو كلاشيهات”[24]. وهي شخصية قليلة التوظيف في القصة القصيرة، وذلك لما يتطلبه بناؤها من تكثيف. ومثالها شخصيّة الأم في قصة “ندم” لسلطان العميمي، التي تحكي قصة “شيطان” ما فتئت أمه توصيه بأن يردد العبارات التي لقنتها له منذ صغره كلما رأى إنسيًّا في حلمه. فالأم تحضر في البداية محذرة موجّهة، وتختفي طوال الأحداث، لتظهر في نهايتها وهي توقظ ابنها من نومه، حينما سمعته وهو يصرخ بسبب كابوس آدمي.

ثالثًا: الصيغ الزمانية

يمكن في النص السردي التمييز بين زمنين:

أـ زمن القصة: وهو الزمن الواقعي أو التخييلي الذي يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي للأحداث.

ب ـ زمن السرد: وهو غير مقيّد بالتتابع المنطقي للأحداث. وعدم تطابق نظام السرد مع نظام القصة يولّد ما يسمى بالمفارقة الزّمنيّة. وهي تتيح للسارد إمكانات لا حدود لها للتلاعب بالزمن، “ذلك أن الراوي قد يبتدئ السرد في بعض الأحيان بشكل يطابق زمن القصة، ولكنه يقطع بعد ذلك السرد ليعود إلى وقائع تأتي سابقة في زمن السرد عن مكانها الطبيعي في زمن القصة… وهناك أيضًا إمكانية استباق الأحداث في السرد بحيث يتعرف القارئ إلى وقائع قبل أوان حدوثها في زمن القصة”[25].

وعند حدوث الانحراف عن التتابع الميقاتي للخط الزمني، يستعين السارد بإحدى اللقطتين الآتيتين:

أـ اللقطة الاسترجاعيّة 

وفيها يسترجع السارد لقطات حدثت قبل خط القصة الرئيس، وهي تقنية تفيد إضاءة جوانب غامضة خاصة بالشخصية، أو تساعد على ترميم فراغات في القصة، أو تربط الأحداث بوقائع تاريخيّة لها علاقة بالفترة الزمنية. ومثال ذلك ما جاء في قصة “لعبة الأقدار” لعائشة عبد الله، حينما يسترجع “سعيد” أحداثًا من الماضي المؤلم، تفسّر أفعاله الآنيّة والتغيّرات التي طرأت على شخصيته، وتفسّر سبب المعاملة الجيدة التي يحظى بها ممن حوله:

بالأمس كان مجرّد حثالة لا يعيره أصغرهم الانتباه…

أما اليوم فهو السيد المطاع، صاحب الهيبة والكلمة المسموعة…

تلك اللعبة التي فرضت عليه ولابد له من أن يكملها حتى النهاية ليجرب حظه…

لحظة تمناها منذ وقت طويل.. لم ينس كلماتهم الساخرة… إن جسمك ضئيل ويداك ضعيفتان لا تقويان على حمل الغوّاص عند نزوله إلى القاع..”[26].  

ب ـ اللقطة الاستباقيّة 

وفيها تعرض أحداث قبل موعد وقوعها فعليًّا أو من الممكن أن تقع في المستقبل، وهي على نوعين، الأول: استشراف للحدث المتيقّن الذي سوف يحدث فعلاً. والآخر: استباق ذاتي للشخصية غير مؤكد؛ لأنها تستشرف حدثًا مستقبليًّا محتملاً من وجهة نظرها. ومثال النوع الثاني ما انبنى عليه السرد في قصة “ضحكة رجل ذي وجه لامع” للولوة المنصوري، فالشخصية الساردة تستشرف أحداثًا مستقبلية في حوارها المتخيّل بالهاتف مع شخص تعرفه:

“سأحاول أن أجد عذرًا لعدم اتصالي بعد سنوات وأقول لك: (فكرت أن أرد اتصالك باتصالي، ولكني تخيلتك جالسًا معية أهلك، وأمك تخيط طرحة لامعة وتسأل: من هذه التي تكلمها؟ فيجيب صوتك متورطًا بي: مديرة الجريدة). سأفرح أنا وأسجل هذه اللحظة”[27].

ومما سبق يمكن تمييز ثلاث حالات زمنية للسرد:

1ـ السرد المتزامن

وهو أبسط أنواع السّرد، يتم فيه سرد الأحداث أثناء وقوعها، أي هناك تطابق ما بين زمن القصة وزمن السرد ولا إمكانية للتداخل بينهما. ومثال ذلك كثير، ومنه الجمل الأولى من قصة “بين وجبتين” لسلطان العميمي:

إنه يوم غائم، وثمّة برودة لاسعة تسبح في الأجواء خارجًا…”[28].

وقصة “هروب” لعائشة عبد الله:

“شيء ما في نفسي ينازعني إلى الهروب، تتصارع الأشياء في داخلي، تحاول كل واحدة منها اللجوء إلى مكان فسيح”[29].

السرد اللاحق/الاستعادي

وهو السرد المألوف والذي يكون زمنه تاليًا لزمن الحكاية، لذا فإنه يسرد بصيغة الماضي، لأنه عرض للأحداث التي كانت قد حدثت قبل زمن القصة الحالي، وفي هذا النوع من السرد قد لا يحدد فيه المسافة الزمنيّة التي تفصل بين زمن القصة وزمن السرد وقد لا يشار إليها. “غير أنه قد يحدث في هذا النمط من السرد أن تستغرق الحكاية مدة تقلّص تدريجيًّا من المسافة الزمنية التي تفصلها عن لحظة السرد إلى حد يفضي إلى التقاء اللحظتين”[30]. ومنه ما جاء في بداية قصة “طفلة المحرقة” للولوة المنصوري واستمرّ حتى نهايتها:

“أحبّت الضياع مذ كانت صغيرة، تمدّ رأسها إلى الزقاق، تُسرِّب جسدها من فجوة بمقاسها في الجدار، تَهرب من البيت وتركض وحيدة في الأراضي المقفرة”[31]

السرد السابق/المستقبلي

ويطلق عليه “السرد التنبُئي”، ويكون زمنه سابقًا لزمن القصة؛ لأنه يسرد الأحداث التي لم تحدث بعد بصيغة المستقبل. ومثاله ما ورد في نهاية قصة “الخارج من جيب جدتي” للولوة المنصوري:

“في الأيام القادمة سيدخل السيد الصغير غرفته ويجد القنفذ خلف الباب مقلوبًا على ظهره، يخرج منه دم لا يعرف له سببًا مقنعًا”[32].

وثمّة تقنيات زمنيّة أخرى مرتبطة بالتغييرات التي تطرأ على نسق السرد وإيقاعه الزمني، وهي:

ـ الاستراحة/الوقف/الوقفة الوصفية

وبتوظيف هذه التقنية يكون زمن سرد حادثة ما أطول بوضوح من زمن حدوثها، أي أن “الحيز النصي في هذه الحالة لا توافقه مدة زمنيّة في الحكاية”[33]. وغالبًا ما تستخدم بهدف الاستغراق في وصف المكان أو الحالة شعورية تمر بها الشخصية، أو التعليق على حادثة. وفيها يتعطل الفعل في الواقع، ولا يمكن السير قدمًا في الخط الزمني. ويحضر ذلك في قصة “ضحكة رجل ذي وجه لامع” للولوة المنصوري بعد أسطر قليلة من بدايتها:

“الفجر القديم ينسكب فوق الجبال، وتنزلق البلدة بالصمت والسر، ترتبك أولى الفقرات الهاربة من حصاد الدفتر العتيق..”[34].

ـ التسريع/التعجيل/العرض البانورامي

وهي تقنية يوظفها السارد من أجل اختصار مدة طويلة من زمن السرد وعرضها في أسطر قليلة، وفيه يكون زمن سرد واقعة ما أقصر بكثير من زمن قصّتها، والهدف منها العرض الموجز أو البانورامي للحدث دون ذكر تفاصيله التي قد تطيل النص وتفقده تماسكه. ومثال ذلك ما جاء في قصة “سدرة” لعائشة عبد الله التي تختصر في نهايتها أعوامًا طويلة، تنقل فيها البطلة “ميرة” من زمن ولادتها لابنتها إلى مشهد أصبحت فيه جدّة وأحفادها من ابنتها يلهون أمامها. والتسريع هنا أضفى على خاتمة القصة عنصر المفاجأة والإدهاش، إذ كانت السارد يوحي بخطر يهدد حياة الطفلة، لكن النهاية تحضر لتخلق مفارقة عجيبة وتتحدّى مخاوف “ميرة”، وتكسر أفق توقع القارئ:

“الأيام تمرّ بسرعة، والسنون تقفز على خطى الأيام، والخوف في داخل ميرة ما زال شابًا فتيًّا… كم يحلو للخوف أن يداعب قلب ميرة المسكين وهي تراقب أحفادها يلهون مع كلبها العجوز بغصن سدرٍ ميّت”[35].

ـ القطع/الإضمار/الحذف

وهي أسرع حركة سرديّة على الإطلاق يقوم بها السارد؛ “لأنه يحيل على مدة زمنيّة من الحكاية لا يوافقها حيّز في النص”[36]. وفيها قد يكتفى بالقول: “ومرت ثلاث سنوات”، أو “وبعد انقضاء مدة طويلة…”. ومثاله ما ورد في قصة “سدرة” السابقة الذكر، وأيضًا في قصة “قبورنا بلا أسماء” للولوة المنصوري:

“حجز ابن عمّتك القبر الفارغ الذي بجواره لزوجته قبل أن يموت…

وحين نام ابن عمتّك منذ ربع قرن بانتظار وترقّب لنزول زوجته بقربه، فرّت هي من سور القرية وحجزت لها مرقَدًا آخر بعيدًا جدًّا..”[37].

ـ المشهد

وفيه يتساوى زمن السرد وزمن القصة من حيث مدة الاستغراق، ويحدث ذلك أثناء المقاطع الحواريّة في القصة، وسرعته مرتبطة بسرعة الحوار الذي قد يكون بطيئًا أو سريعًا حسب الموقف السردي. وهو كثير التوظيف في المجموعات المدروسة، ونورد هنا مشهدًا حواريًا من قصّة “وجبة من ورق” لسلطان العميمي التي تغلب عليها هذه التقنية الحواريّة:

“- أية خدمة؟

– نعم، خدمات وليست خدمة.

– تفضلي.

– المعذرة لأني أزورك في جهة عملك لأجل أمر يخصّ كتاباتك.

– هل أنت صحفيّة؟

– نعم، لكن ليس في مجلة (الأدب المقلوب)”[38].

رابعًا: الفضاء/المكان:

يمثّل المكان محورًا أساسيًّا في بنية النص السّردي، فلا يمكن تصوّر حكاية أو أحداث أو شخصيّات تتحرك خارج مكان ما. ويذهب أغلب الدارسين إلى أن الزمان والمكان في النصوص السردية متعالقان ولا يمكن الفصل بينهما؛ لذا نُحت مصطلح “الزّمكاني”، وأطلق على كل تلك المكوّنات اسم “الفضاء الأدبي”. ومن هنا فإن المصطلح الأخير أصبح دالاً على “أكثر من مكان ثابت أو زمكاني. إنه يتضمن المناظر، كما الظروف المناخيّة، والمدن، والحدائق، والغُرف. وهو في الحقيقة يتضمن كل شيء يمكن أن يُعدّ حيّزًا تشغله الأشياء، أو يقيم فيه الأشخاص”[39]. فالفضاء الأدبي إذن هو البيئة التي تعيش فيها الشخصيات وتتحرّك، وتتموضع فيها الأشياء كذلك.

وتقدّم الدراسات السردية مفهوم “الفضاء” في أكثر من تصوّر، منها: “الفضاء كمعادل للمكان الجغرافي” في العمل السردي والذي تصوّره القصة المتخيّلة. وكذلك “الفضاء النصّي” الذي تشغله الكتابة ذاتها -بوصفها حروفًا مطبوعة- على الحيّز الورقي، والذي يشمل تصميم الورقة والغلاف، وتنظيم الفصول والمقاطع، وتغير الخط وتشكيل العناوين وغيرها. ومنه أيضًا “الفضاء كمنظور أو رؤية”، والذي يشير إلى الطريقة التي يستطيع الكاتب بواسطتها السيطرة على عالمه الحكائي بما فيه من أبطال يتحرّكون على أرضيّة تشبه خشبة المسرح، وغيرها من المفاهيم.

إلا أننا في هذه الدراسة نركز على المفهوم الأول، ألا وهو “الفضاء كمعادل للمكان الجغرافي”. إذ تكمن أهميّة دراسة الدلالة المكانية الجغرافيّة في مدى تأثر الشخصيّات بها، ومدى تأثير المكان في سير الأحداث، وارتباطه بالموقف السردي الذي تستند إليه القصة. ومثال ذلك ما نلاحظه في أكثر من قصة للولوة المنصوري في مجموعتها “قبر تحت رأسي”، إذ تحضر القرية الجبليّة في إمارة رأس الخيمة الواقعة على ساحل الخليج العربي، بتفاصيلها كافة من: صخور جبالها، ومنعرجات أوديتها، وألوان نباتاتها، وأنواع حيواناتها، إلى بساطة بيوتها، وطبائع ساكنيها. الأمر الذي ينعكس دون شك على مجريات الأحداث وتفاصيل القصة، وسمات شخصياتها الخارجيّة والداخليّة.

ففي قصة “صخرة تأكل نفسها” سرد أسطوري للمكان، ووصف يستمد عناصره من التاريخ والأدب والموروث الثقافي والديني، تقول:

“حين استدار على ظهر الريح عائدًا من اليمن، الولي الذي وعد سليمان بتهريب عرش بلقيس في طرفة عين، اندفع بحماسة على رؤوس جبالنا، واختار أن يسرّب العرش من بين شقوق الوديان بسريّة تامّة…”[40].  

وتقول أيضًا:

“تقول جدّتي: الشقر الحمر ضربوا على البلدة الحصار، ودكّوا الجبال والقلاع والحصون، فصرنا أنا وجدّك نأكل الطين والحجارة…

يقول جدّي: عند الصخرة كان الذود عن الحمى، حمي الوطيس والتحم الخميس بالخميس، وأريقت الدّماء… والبلدة صارت معراج الشرفاء…

صخرتنا الهائمة تركت لنا بلدة لا تشبه غيرها…”[41].

فمن الملاحظ أن حضور المكان يطغى على تفاصيل القصّة ومجريات أحداثها، فهو حضور يستدعي تاريخ المكان وثقافة أهله وموروثاتهم.

خاتمة البحث

– على الرغم من حداثة تجربة القصة القصيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذا ما قيست بالتجارب الإبداعية في الدول العربية الأخرى، فإن كتّابها استطاعوا أن يستفيدوا من التجارب السرديّة العربيّة والعالميّة، وأن يخطّوا لأنفسهم مسارًا متميّزًا من خلال هذا الفن السّردي، بوصفه وسيلة من وسائل التعبير الأدبي، ويبدو ذلك جليًّا من خلال المجموعات الصادرة منذ بدايات ظهوره في سبعينيّات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

– تطوّرت الأساليب الفنيّة والتقنيات السرديّة الموظفة في القصة الإماراتية القصيرة منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، وهذا ينمّ عن استيعاب كتّابها لفنيّات هذا النوع القصصي، ووعيهم بتقنياته ومكوّناته السرديّة.

– وظّف كتّاب القصة القصيرة في الإمارات تقنيات سرديّة مختلفة، وجاء هذا التوظيف موفّقًا في أغلب القصص، خادمًا للمضمون القصصي، وخاصة في المجموعات الصادرة خلال العقد الأخير من هذا القرن، وهي الفترة الزمنية التي ركّزت عليها الدراسة.

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة.

[1] (أولاً – رابعًا): ينظر: صبري، عبد الفتاح. صورة المرأة في القصة النسائية الإماراتية، ط1. الشارقة: اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، 2005م، ص:16-19.  

[2] العامري، كامل عويد. معجم النقد الأدبي الحديث، ط1. دمشق: دار نينوى، 2018م، ص:240. 

[3] معتصم، محمد. نحو المحكيّات السرديّة، ط1. عمّان: دار فضاءات، 2018م، ص:155.

[4] مانفريد، يان. علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد، تر: أماني أبو رحمة، ط1. دمشق: دار نينوى، 2011م، ص:51.

[5] الرويلي، ميجان وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ط2. المغرب: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص:103- 104.

[6] مينو، محمد محي الدين. معجم النقد الأدبي الحديث، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2012م، ص:274.

[7] مانفريد، يان. علم السرد. ص:70.

[8] القاضي، محمد وآخرون. معجم السرديّات، ط1. تونس: دار محمد علي للنشر، 2010م، ص:195.

[9] عليان، حسن. تقنيات السرد وبنية الفكر العربي في الرواية العربية، ط1. عمّان: دار الآن ناشرون وموزعون، 2015م، ص:66. 

[10] القاضي، محمد وآخرون. معجم السرديات. ص:196.

[11] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2014م، ص:55.

[12] المصدر نفسه، ص:56-57.

[13] القاضي، محمد وآخرون. معجم السرديات. ص:197.

[14] محمد، عائشة عبد الله. اعتراف.. اعتراض رجل، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2010م، ص:54.

[15] مانفريد، يان. علم السرد. ص:80.

[16] العميمي، سلطان. إشارة لا تلفت الانتباه، ط1. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018م، ص:61.

[17] المصدر نفسه، ص:64.

[18] لحمداني، د. حميد. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط4. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2015م، ص:52.

[19] الفيصل، سمر روحي. مصطلحات نقد الرواية، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2016م، ص:220.

[20] المرجع نفسه، ص:221.

[21] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:35.

[22] المصدر نفسه، ص:30.

[23] المصدر نفسه، ص:31.

[24] مانفريد، يان. علم السرد. ص:141.

[25] لحمداني، حميد. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. ص:74.

[26] عبد الله، عائشة. اعتراف.. اعتراض رجل. ص:9-10.

[27] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:46.

[28] العميمي، سلطان. إشارة لا تلفت الانتباه. ص:81.

[29] محمد، عائشة عبد الله. اعتراف.. اعتراض رجل. ص:45.

[30] القاضي، محمد وآخرون. معجم السرديّات. ص:232.

[31] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:59.

[32] المصدر نفسه، ص:53.

[33] مينو، محمد محي الدين. معجم النقد الأدبي الحديث. ص:175.

[34] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:45.

[35] محمد، عائشة عبد الله. اعتراف.. اعتراض رجل. ص:68.

[36] مينو، محمد محي الدين. معجم النقد الأدبي الحديث. ص:175.

[37] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:70.

[38] العميمي، سلطان. إشارة لا تلفت الانتباه. ص:118.

[39] مانفريد، يان. علم السرد. ص:128.

[40] المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي. ص:37.

[41] المصدر نفسه، ص:39.

المصادر والمراجع

  • الرويلي، ميجان وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ط2. المغرب: المركز الثقافي العربي، 2000م.
  • صبري، عبد الفتاح. صورة المرأة في القصة النسائية الإماراتية، ط1. الشارقة: اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، 2005م.
  • العامري، كامل عويد. معجم النقد الأدبي الحديث، ط1. دمشق: دار نينوى، 2018م.
  • عليان، حسن. تقنيات السرد وبنية الفكر العربي في الرواية العربية، ط1. عمّان: دار الآن ناشرون وموزعون، 2015م.
  • العميمي، سلطان. إشارة لا تلفت الانتباه، ط1. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018م.
  • الفيصل، سمر روحي. مصطلحات نقد الرواية، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2016م.
  • القاضي، محمد وآخرون. معجم السرديّات، ط1. تونس: دار محمد علي للنشر، 2010م.
  • لحمداني، د. حميد. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط4. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2015م.
  • مانفريد، يان. علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد، تر: أماني أبو رحمة، ط1. دمشق: دار نينوى، 2011م.
  • محمد، عائشة عبد الله. اعتراف.. اعتراض رجل، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2010م.
  • معتصم، محمد. نحو المحكيّات السرديّة، ط1. عمّان: دار فضاءات، 2018م.
  • المنصوري، لولوة. قبر تحت رأسي، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2014م.
  • مينو، محمد محي الدين. معجم النقد الأدبي الحديث، ط1. الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2012م.

    تحميل المقالة