قصة: شبيه زهرا الحسيني*
ما إن وقعت عينا “جَاذِبَة” على أدْيانْ متمددًا على سرير طبي في المستشفى حتى انبثقت قائلةً: “لو لم يخرجك رجال الإطفاء من المكتب المحترَق (الذي تعرض لحريق شب به) في الوقت المناسب، لكنت قد أُصبتَ بحروق شديدة، فهل تدرك مدى الخطر الذي عرضّت نفسك فيه عبثًا؟”.
“عبثًا! ظننت أنك عالقة في المكتب المحترق”.
“ولكني غادرتُ المكتب قبل وقوع حادث الحريق بنصف ساعة، إذ كان من المقرر عقد اجتماع مع أحد العملاء. وكان الموظفون واقفين في الخارج، فكان ينبغي لك أن تستفسر عني سكرتيرتي الخاصة”.
“لم يكن لدي وقت للسؤال أو الاستفسار”.
قالت جاذبة بصوت يمتزج بالدهشة والانزعاج: “واقتحمت المكتب المحترق! هل لا تحب حياتك؟”.
“أحب حياتي، ولكن أحب حياتك أكثر”. وعندئذ بدأ تأثير الحقن والدواء في التلاشي، وبدأ يشعر بالألم الشديد. لذلك، أغلق عينيه بعد أن أجاب بإيجاز، ولكن انفتحت عينا جاذبة اللتان كانتا مغلقتين منذ فترة طويلة. بعض الكلمات لها أثر عميق للغاية، ولديها قوة مغناطيسية لدرجة أنها تلتصق بقلب المستمعين وتقع في قلوبهم كل موقع؛ فتغيِّر شخصيتهم وطريقة تفكيرهم.
“أحب حياتي… ولكن أحب حياتك أكثر”. بدأت هذه الألفاظ الرقيقة الناتجة عن الإحساس اللطيف تهز وجود جاذبة. وفُتِحَت جميع نوافذ القلب التي كانت مغلقة منذ فترة طويلة. حيث انعكس ماضيه في مرآة ذاكرته. فإن الإنسان يبدأ في محاسبة نفسه على ما يفعله إذا لم تكن الروح ميتة تمامًا. وبمجرد أن بدأت جاذبة تحاسب نفسها، أصبحت تدرك أنها اتخذت موقفًا خاطئًا وتراجع عمق المشاعر في بالها. وتأخذ تتذكر كلمات والدها الراحل.
“لقد أغرقتِ نفسكِ في حب الذات والكبرياء والعُجْب بطريقة طمست فيها نور الحق والحقيقة تمامًا”.
“لكن أبتِ… إنك تعلم بأنه لا يليق بي … وعلى الرغم من ذلك…”.
وقبل أن تنتهي جاذبة من جملتها، رد والدها بلهجة شديدة ليصوب خطأها: “من يليق ومن لا يليق، إن كان لهذا مكيال فستظهر الحقيقة المرة”.
“يا أبت … فكّر قليلاً! إنه ابن كاتِبك. وهو يخدمني منذ الطفولة. وقد تمكن بفضلك ومساعدتك من نيل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من لندن، فهل أصبح شخصًا استثنائيا؟”. وواصلت جاذبة الإصرار على موقفها، واستنكرت أن يصبح شريكَ حياتها ذاك الذي نشأ وترعرع عالةً على والدها.
“أديان اسم على مسمى. وهو ولد صالح كريم النفس وطيب الأخلاق، وهو ابن رجل أمين مخلص ووفي”. ولذلك، فهو يقدر ما أغدقت عليه من كرم وفضل ويعترف بعطفي تجاهه، وقد أصبح مستعدًا للزواج من فتاة مثلك احتراما لطلبي فقط… وإلا، فإن ما فعلتِه تصدَّر عناوين الصحف”.
“أثبت هذا الرجل الذليل نفسه خادعًا. وكنت اتخذت خطوة خاطئة، وأعبّر عن ندمي على ما فعلته. ولقد اعتذرت لك أيضًا”، وهكذا حاولت جاذبة الدفاع عن نفسها ولكن والدها ظل غير راضٍ عنها.
“لقد سامحتُك، ولكن الزمان لن يسامحك. ولن يمد أحد يده ليمسك بيدك…. لذا…”.
ردّت جاذبة بنبرة واثقة جدًا، وهي تنفي الوساوس التي تجول بخاطر والدها قائلة: “لذا … فهل أتنازل؟ يا أبت، ابنتك ليست ضعيفة. يمكنني العيش دون أن أُمسك بيد أحد”. وكان أحمد يعلم جيدًا بأن “معرفة الذات” و”الثقة بالنفس” تجعلان الجنس اللطيف بارعًا ومثاليًا، ولكن عندما تتجاوزان الحدود، فإنهما تصبحان بمثابة خطر كبير جدًا. وعند سماع رد ابنته، احتضنها على الفور وبدأ يُفهمها أن الرجل والمرأة خلقهما الخالق بطريقة حيث لا يكتمل كلاهما دون الآخر.
“يا بنتي… المرأة مثل كرم ناعم لا يستطيع أن يصمد وحده أمام الرياح العاتية، ولكن عندما يتسلق على شجرة قوية فإنها تستقوى وتزهر على الشجرة… وحينها لا تستطيع أن تضر به الرياح العاتية”.
ولم تتفق جاذبة مع هذه الفلسفة لحياة لوالدها، حيث اتخذت خطوة خاطئة بجرأة لوقوعها في فخ حركة تحرير المرأة الغربية المعاصرة، وسقطت في أعماق العار، الأمر الذي جعلها تنفر من الطبقة الذكورية نفسها، ولكنها لم تستطيع تجاهل آخر أمنية تمناها والدها، والذي كان مستلقيًا على فراش الموت، فتزوجت من أديان قبل وفاته.
“لم أستطع رفض آخر أمنية تمناها أبي قبل وفاته. العيش تحت سقف واحد لا يعني أنني قبلتُكَ كزوج”. أبلغت جاذبة أديان عن حدود سلطته بعد الزواج بوقت قصير.. وهذا ما حدث.. كانا يعيشان تحت سقف واحد، ولكن في الغرفتين المنفصلتين. وكانت قد أصبحت المديرة التنفيذية للشركة في حياة والدها. وظل أديان أيضًا في منصبه القديم. وكانا شريكا حياة لبعضهما البعض في عيون العالم فقط، ولكن في الحياة العملية، لم يحاول أديان أبدًا تجاوز الحدود التي وضعتها جاذبة؛ لأنه تعود على الحب الصامت من طرف واحد. وكان أديان يعبدها في نفسه منذ الطفولة بمنتهى الحب فحتى زلة قدم جاذبة لم تستطع أن تعكّر على أديان صفو عبادته، فتمسك بيدها…، وبقيت جاذبة تمثالًا حجريًا بسبب الخيلاء والغطرسة والعجب التي تعششت في قلبها. ورغم عدم الاهتمام والإهمال، استمر أديان في عبادة هذا الصنم الحجري مع إيمانه الراسخ بأن “حبه” الخالص ليس بأي حال من الأحوال، أضعف من أشعة الشمس والأمطار الغزيرة والرياح العاتية التي تخلق تصدعات حتى في أكبر الجبال التي تتسبب في تدفق الشلالات منها.
إذا كانت النية حسنة، وكان الإيمان عميقا والعمل قويًا، فعندئذٍ يحالفه توفيق الله وتسانده معجزة: “أحب حياتي… لكن أحب حياتك أكثر”. وأصبحت كل كلمة من هذا الاعتراف (غير المتعمد) بالحب كتجمع قطرات الندى، إذ بدأت تسقط قطرة بعد قطرة في قلب جاذبة فنبتت الخضرة في كل مكان. وحالما خرجت من دائرة ذاتها، شعرت بأن الجو يبتسم، والرياح ترقص، والأفراح تغني، بل العالم كله يغني، وكانت عيناها مغمضتين.
“ما دمت هكذا تحبني كثيرًا، فلماذا لم تخبرني مسبقا؟” عاتبت شريك حياتها وهي تسرِّح الشعر المتناثر على جبين أديان. وبدا لها شريكها في تلك اللحظة وكأنه شجرة وارفة الظلال أصلها ثابت وفرعها في السماء… نفس الشجرة ذات الجذور القوية التي حدثها عنها والدها ذات يوم.
“الحب لا يحتاج إلى تحريك الشفاه، بل الحب يتحدث بنفسه، ويتلألأ في العيون، ويظهر في النبرة”. أراد أديان أن يعبّر عن هذه الكلمات لجاذبة، لكنه اكتفى بابتسامة فحسب، وبدا يحس بحلاوة العلاقة العاطفية، وظل يحدق في وجهها بحرارة الشوق والعاطفة.
* كتبت شبيه زهرا الحسيني هذه القصة القصيرة باللغة الأردية. إنها أكملت شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة علي جراه الإسلامية بولاية أترا براديش. ولديها شغف كبير بالأدب الأردي أيضًا، حيث كتبت أول قصة قصيرة في سن 15 سنة وكانت في الصف العاشر.
وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية؛ “تیسری آنکھ ” و”سحر ہونے تک” و”زندگی کی ڈگر پر”. كما صدرت لها رواية بعنوان “محبّت اس کو کہتے ہیں”. ونشرت له عدة مقالات أيضًا في مختلف المجلات. كما كتبت الحسيني قصائد للأطفال المسلمين، نشرت في لندن. فإن مسيرة زهرا الحسيني الأدبية مستمرة إلى يومنا هذا.
** مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.