صورة الرجل في رواية “الشحاذة” لهيفاء بيطار

صورة الرجل في رواية

أ.د. ليلى شعبان رضوان*

ملخص البحث

يدرس البحث إشكالية علاقة المرأة بالرجل من خلال الصورة التي رسمتها له الروائية هيفاء بيطار في روايتها “الشحاذة”، إذ تناولت الروائية صورة الرجل من خلال ذكر الاسم مقترنًا بالموقف الذي يعكس ملامحه النفسية في صورته المجسدة في أفعال متخيلة للتنفير منه وإدانته.

يهدف البحث إلى دراسة صورة الرجل في مخيال الروائية هيفاء بيطار التي كانت طبيبة عيون في مدينة اللاذقية، لأبين كيف تبدت صورة الرجل في مرآتها، ومدى اقترابها من واقع الشخصيات المعروفة أو ابتعادها عنه. ويطرح البحث إشكالية التعبير بالصورة عن العلاقة الواشجة بين الرجل والمرأة. وكيف أثر الموقف الشخصي من الآخر في تحديد صورته. ويعتمد البحث المنهج الاجتماعي الذي يعين في الكشف عن الأبعاد الاجتماعية للموقف، مع الاستفادة من المنهج النفسي في البحث عن الدوافع التي أخرجت الصورة على هيئة محددة مع الاستعانة بالمنهج الوصفي الذي يعين في التحليل.  

كلمات مفتاحية: الحرب السورية، الرجل، الصورة، الموت، الوطنية.

مقدمة

لقد امتلكت المرأة العربية خطابها الخاص قديمًا، وواجهت العالم بخصوصية رؤيتها للآخر الذي يقاسمها الحياة، فرسمت صورة له، تراكمت عبر الزمن، وشكّلت سياقًا للكاتبات المعاصرات، اللواتي حرصن على رسم صورة الرجل فيما يكتبن ولا سيما في الرواية التي غدت من أهم الفنون التي شغلت المرأة كونها المجال الذي يتيح لها طرح رؤيتها في الحياة والعالم.

وقد منحت الروايةُ المرأة مساحة للتعبير عن رؤيتها للآخر/الرجل الذي احتل مساحة واسعة في وعيها وأدبها كونه الآخر الذي يمنح المرأة رؤيتها له من خلال شكل علاقته بها، التي قد تتعرض للتصدع والتحول والتغير. 

وقد تزايد الاهتمام بأدب المرأة مؤخرًا بعد أن أثبتت حضورها في المشهد الثقافي العربي بعامة وفي مجال الرواية بخاصة، الذي وجدت فيه شكلاً فنيًا قادرًا على استيعاب تجاربها ومعاناتها في الحياة بكل تفاصيلها، ولا سيما ما يسم علاقتها بالرجل، الذي شكل شخصية إشكالية في حياتها، عمّق إحساسها بالغبن، وأدخلها في أزمة البحث عن هويتها نتيجة النظرة غير العادلة التي ينظر إليها المجتمع مقارنة بالرجل، فحاولت فهم ما يحكم علاقتها به، فوجدتها في رواسب العادات والتقاليد والأعراف، التي تنحاز إليه، لذلك حفلت رواياتها برغبتها في التمرد والرغبة في التغيير من خلال اللغة، فجسدت شخصية الرجل، وقدمتها بشكل سلبي في الأعم الأغلب من رواياتها.

وقد اهتمت الدراسات التي تناولت أدب المرأة في البحث عن تشكيل صورة الرجل وكيفية تجليه في أدبها، وشغلتهم إذ ذاك أسئلة متعددة منها: ما إشكالية العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة، وما دوره في حياتها، وهل حافظت في أدبها على الصورة النمطية التي رسمتها له منذ القديم سواء في أشعارها أم في وصاياها، أم رسمت له صورًا جريئة تتجاوز فيها المحظور؟ هذه الأسئلة أحالت إلى البحث في أثر التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نظرة المرأة إلى الرجل، وفي تصويرها له صورًا تحاول فيها هزيمته لغويًا، فتهز ما وقر له في الذهن من صور التسلط والفحولة والتفوق.

وقد اخترنا رواية الشحاذة لدراسة صورة الرجل فيها لسببين؛ الأول ارتباطها بالحرب السورية، والثاني النحو الخاص الذي قدمت فيه صورة الرجل في إطار حرب طاحنة جردت الرجل من كثير من ميزاته؛ وخرجت فيها المرأة على الصورة النمطية التي كانت تُظهر حاجتها للرجل، وبرزت فاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية، فأطّرت صورة الرجل فيها وفق محددات ذاتها أولا، ووفق موقفها منهم ودورهم في الحرب السورية ثانيًا.

وقد أثر ارتباط الرواية بالحرب السورية، التي خرجت على كل مفاهيم الحروب والمآسي، في مفهوم الرواية؛ التي خرجت أيضًا على نظرية النوع، وطرحت إشكالية التجنيس فلا هي رواية ولا هي سيرة ذاتية، لأن السيرة  “حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته”[1]، وقد تتحول السيرة إلى يوميات إذا افتقدت للمنظور الاستعادي. ولا تخضع كتابة اليوميات للقواعد والحدود، فهي تخترق الخصوصية والسرية بنشرها تفاصيل كل يوم، ومع أن الرواية صُنفت على الغلاف على أنها رواية، إلا “أن وضعَ صفة تجنيسية معينة على غلاف الكتاب، أمر ينطوي على قدر عال من القصدية والتعيين، ولا يمكن للقارئ المتخصص أن يتجاوز هذا الميثاق وأن يتفادى فحصه على نحو دقيق استنادًا إلى معطيات المتن بين دفتي الكتاب وقد وصفه الكتاب بصفة إجناسية معينة”[2]، فالمرأة قصدت تسميتها رواية لأنها تجد في الرواية فضاء متاحًا يبيح لها “التخلص من بعض ظلال الحجب الكثيفة، والاستفادة من بعض الإضاءة المحدودة، للبوح بمكنونات الذات عن طريق التلميح تارة والتصريح تارة أخرى. والفعل الروائي هو الذي يخرجها من قمقمها المخبوء، ويضعها تحت الإضاءة التي تضعها اللغة بين رمزية الكلمات ووطأة الرغبات”[3]. ولعل الكاتبة أرادت تسميتها رواية؛ لتؤسس لرواية جديدة تحاكي تشظي حياة السوريين؛ وتكون علامة على لا منطقية الحدث، تقول بيطار على لسان الساردة في متن الرواية إن “الرواية السورية لا تنطبق عليها شروط الرواية التقليدية، الرواية السورية تشبه حياة السوريين، متشظية مفكّكة لا يهم أن تكون مترابطة وذات حبكة وتسلسل أحداث، الكتابة يجب أن تكون أشبه بصورة موازية للحدث، للضياع السوري واليأس والإحباط. لذا لم تعد تعنّف نفسها وتقلقها بضرورة كتابة رواية متماسكة. يستحيل أن تكون متماسكة في ظل هذا التشظي والضياع”[4].

وهذا ما جعل الرواية أشبه باليوميات، سجّلت فيها الكاتبة مرحلةً تاريخيةً، اعتمدت فيها على الملاحظة والقدرة اللحظية على متابعة المواقف وتدوينها بدقة، فاليوميات لا تلتزم بتقنيات فنية ترتقي بها إلى الرواية، إذ من السهل كتابة الأحداث اليومية كونها تتفلت من القوانين وآليات التي تحكم السرد. فاليوميات “مشتقة من يوم، تكتب يوميًا بانتظام، ولا يدون فيها صاحبها في كل مرة إلا ما وقع له في الفترة القصيرة التي تفصله عن التدوين السابق”[5].

والروائية واحدة من السوريين الذين روعتهم الحرب وشوهت نظرتهم إلى من حولهم، فرسمت صورًا لرجال تتناسل من آلام المحنة الكبرى في وقت “الليل حيث يستيقظ الوطن في ثنايا الروح، حيث يطلع الفجر من قلب الليل وتبدأ الوجوه الغريبة بالتقاطر، وجوه الأصدقاء وشكواهم وقلقهم على أولادهم، وغلاء المعيشة الطاحن، وأسماء الموتى”[6]، فالزمن يتباطأ ويسحقهم بكل وحشية وإجرام، فكان الاسم صورة لشخوص أمعن قلمها في تشويه معالمهم بكل ما حملته في داخلها من ذعر سكن روحها، وأعجزها عن الحياة والتفكير، فهي مشوشة مضطربة، تحوّلَ الموتُ لديها إلى غواية.

في هذا الجحيم ما زال يعيش السوريون الذين أفلتوا من الموت، ووقعوا بين أنياب الفقر والعوز والظلام والقهر، في ظروف أذلت أعناق الرجال، وأهانت الشباب وشردت الأطفال، وأجاعت الرضع، فكيف يمكن أن تُرسَم صورهم؟ وهل تستطيع اللغة نقل الواقع؟ هل يمكن أن يكون الشخص حياديًا كما وصفت الروائية نفسها؟ فالصور عادة تُرسم بريشة تحركها رؤية الرسام للواقع والحدث. وهذا ما أرادته الروائية في إيهام القارئ أنها تنقل الواقع كما هو بوصفها ابنة سورية البارة، التي هزت المأساة كيانها، وأدخلتها في حال من الاكتئاب والحزن، فقدمت صورًا سوريالية مخيفة، وصفتها على أنها خربشات تتحايل على الوقت وتبدده على حد قولها[7].

ملخص رواية الشحاذة

رواية الشحاذة تسجيل لأحداث مرحلة من مراحل الحرب السورية، تروي فيها الساردة أحداثًا سبقت زمن الحكي تارةً، وتزامن معه تارةً أخرى، لذلك اختارت ضمير الغائب لفصل زمن الحكاية عن زمن الحكي. ويتطابق في الرواية الكاتبة والساردة والشخصية والراوية، وذلك أن الكاتبة تروي حكايتها بضمير الغائب لتعبر بحرية عن أفكارها، وتبدي وجهة نظرها إزاء ما يروى دون إلصاقها بالذات، وأخضعت الشخصيات للوصف، فعرضت الروائية أفعال الشخصية وبسطت آراءها فيهم.

توثّق الكاتبة في روايتها “الشحاذة” أحداثًا يومية لما سمي بالثورة السورية على لسان بطلة الرواية المفلسة معنويًا -كما يوحي العنوان- إلا من رغبتها في الانتحار، التي كانت تحرص على إخفائها عن الآخرين كي لا تتصدع صورتها أمامهم، فتتماسك ظاهريًا بينما هي محطمة من الداخل، يائسة، هشة، تعيش تمزقا وانهيارًا نفسيًا منذ اندلاع الحرب السورية، فاقمها سفر وحيدتها للدراسة في الخارج.

لقد سجلت الكاتبة يومياتها بين باريس واللاذقية، وكلا المكانين لم يمنحاها الهدوء الذي تنشده؛ فلا باريس أعادت لها الاطمئنان المفقود، ولا اللاذقية منحتها الأمان؛ فباريس تجسد الضياع، واللاذقية مدينة اختلفت معالمها، وغدت تنكأ جراحها، وتفتح لها أبواب الجحيم السوري، فمن شوارع  اللاذقية ترصد دروب الفقر والعوز والسجن والموت، التي تتشابك في البلاد كلها، وتلتقي في عقدة الحرب التي تتفرع مآسيا عبر دروب الحياة، وهذا ما أدخلها في حالات من الذعر والخوف والقلق، دفعتها إلى الإدمان على الأدوية والمهدئات والكحول والحبوب المنومة لعلها تأتي لها براحة، يتعطل فيها العقل عن التفكير بما يحدث، ولكن لم تفز ببغيتها، فبقيت مسكونة بالخراب، متحولة إلى شاهدة على العصر، تدون ما يحدث كما انعكس في مرآة ذاتها، فالأحداث والصور كانت تمتزج بداخلها، وتتشكل وفق تصوراتها لدور الشخوص في الحرب، وما انطبع منها في سلوكاتهم العامة، الأمر الذي يوحي بأنها تجمع المستندات لتقدمها إلى محكمة التاريخ. ولكن حال الكاتبة يتدهور جراء ما يحدث، فتضطر إلى أن تزور طبيبًا نفسيًا كانت تربطها به صداقة قديمة، فتتفاجأ بعدد المرضى النفسانيين من السوريين، الذين أفرزتهم الحرب، ولكنها على معاناتها، لم تنس أن تقدِّم نفسها بعيني الطبيب المحايد على أنها صحافية وكاتبة قوية، تهب مقالاتها طاقة إيجابية كبيرة، تبث في النفوس المعنويات العالية.

وتضغط على الكاتبة فكرة الانتحار، فتقصد الكنيسة لتعترف بما يراودها من غواية فكرة الانتحار أمام الكاهن، ولكنه يحاول إغواءها هوا، فتخرجه الكاتبة بذلك من تلك الصورة النقية، التي ترسخت لمقامه؛ لتثبت أن الخراب عم النفوس، والتشويه النفسي والانحطاط الأخلاقي أحاق بالجميع، ولم ينجُ منه حتى رجال الدين.

وهذا الاضطراب جعل الرواية تسير على غير هدى؛ فلا حدث ولا حبكة ولا شخصيات، بل فصول متتابعة حملت عناوين: “الترويع” و”فرنسا” و”باريس” و”التوحد” و”يوم آخر .. يوم جديد” و”هنا وهناك” و”كافيه راي” و”الكاهن” و”حلب المسلخ” و”هذيان” و”صقيع الروح” و”هواية” و”تداخل” و”دمى منتصف الليل” و”تشرين الثاني” و”بداية النهاية…نهاية البداية” و”لا شيء” و”انهيار” و”أحبائي السوريين” و”هروب” و”غواية الموت” و”شهيدة”، وهي أبواب تروي جانبًا من المأساة السورية، التي ألقت بثقلها على السوريين جميعًا، فتفرقوا في قوارب الموت، وفي الأوطان البديلة، التي عمقت مواجعهم وألهبت الذكريات في نفوسهم، فلم تمنحهم الراحة والهدوء، بل عمقت جراحهم، حتى حياة الكاتبة في باريس تحولت إلى هروب من الزمن، ومن الأصدقاء ومن الأهل، والأهم الهروب من الذات. وعلى هذا فـ”الراوية” ترسم صورة قاسية لواقع الحرب التي خرّبت حياة كل السوريين من الداخل والخارج، فلا أحد يبالي بأحد، ولا أحد يحرص على بناء علاقة جديدة مع أحد، فالناس يريدون نسيان الواقع ولو عبر النوم، الذي تعذر الظفر به، فالنوم أشبه بالموت فهما هروب من الواقع. ومن صميم هذا الواقع ارتسمت صور للرجل بريشة الساردة، فكيف تجلى الرجل في رواية “الشحاذة”؟

أهمية صورة الرجل في رواية الشحاذة

لا ترتبط صورة الرجل في رواية “الشحاذة” بالحدث وتناميه، لأن الرواية، كما ذكرنا، لا تحمل من خصائص الرواية إلا الاسم، لذلك حملت صور الرجال موقف الكاتبة منهم، الذي كونته من خلال مواقفهم من المأساة السورية، وموقفها من الرجل بعامة.

لقد اتخذت الكاتبة من غواية الانتحار بؤرة أساسية أدارت كل صور الرجال حولها، فغواية الانتحار دفعتها للرحيل والالتقاء برجال رسمت صورهم وفق رؤية خاصة، كما دفعتها إلى زيارة الطبيب النفسي وزيارة الكاهن، وقدمت لكل منهم صورة خاصة.

صورة الرجل في رواية الشحاذة 

استحضرت الكاتبة شخصيات واقعية ووظفتها في بناء يومياتها عبر تداعي ذاكرتها، استجابة لموقف نفسي اتخذته والتزمت به، فكانت تغيّر قليلا من سمات الشخصيات الواقعية المختارة، وتضيف إليها بعض السمات بغية استكمال الصورة التي تريد إثباتها في الآخرين، وقد كان لتلك الشخصيات “وجود فعلي في العالم الحالي، وتحمل اسمًا يميزها رغم أنها تتعرض لبعض التحويرات في العالم التخيلي”[8].

أسلفنا فيما مضى أن رواية “الشحاذة” لا تحمل من الرواية إلا الاسم، فهي أشبه بيوميات تعتمد الذاكرة في رسم المأساة السورية وإعادة تنظيم حمولتها من أجل إنتاج وعي بما حدث، فجاءت على شكل وحدات غير منسجمة تنفتح على التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولذلك لم تؤد الشخوص أي دور في نمو الحدث، وإنما كانت من ضمن الصور التي عرضتها للخراب والتشظي والعنف في سورية. فجسدت الصفة الواقعية الحقيقية المحسوسة.

لقد حضرت صورة الرجل من خلال اسمه الواقعي في سياق موقف الراوية الخاص منه، فحضر الرجل السياسي، والسجين والشهيد والمشرد والطفل والطبيب والكاهن والقريب العم. ولم يعد للرجل ما يميزه في رواية “الشحاذة”، فكان جزءًا من الصورة المشوهة، التي رسمتها الكاتبة لأفراد المجتمع السوري في سنوات المأساة، التي لما تنته بعد، فما زالت تتعاظم ولذلك فالصورة لما تكتمل بعد، ولكننا سنؤطر الصورة زمنيًا بزمن صدور رواية الشحاذة، وهو عام 2017م.

استحضرت الكاتبة شخوصًا من الواقع، كانوا ذوي هوية فعلية حقيقية وليس من عالم الخيال، وعلى هذا فالشخص “كلمة تطلق على الانتساب إلى عالم الناس، أي على إنسان حقيقي من لحم ودم، ويكون ذا هوية فعلية ويعيش في واقع محدد زمانًا ومكانًا، فهو إذا من عالم الواقع الحياتي لا من عالم الخيال الأدبي والفني”[9]. ونحتاج في مثل هذه الشخصيات “إلى معرفة هذه الخلفية المرجعية التاريخية لضبط الحدود بين ما هو من أمر الواقع وما هو من أمر الأدب والفن”[10].

تجليات صورة الرجل في الشحاذة

اختارت الكاتبة نماذج إنسانية ينضوي فيها جميع أفراد المجتمع السوري، واختلفت رؤيتها لكل منهم وفق محددين اثنين: موقفهم من الحرب السورية، وموقفها هي منهم وهو الموقف المترتب على الموقف الأول. وقد اخترنا في هذا البحث أكثر صور الرجال وضوحًا وأكثرهم تأثيرًا في الحياة الواقعية، التي انعكست فيها وقائع الحرب.

صورة ضابط الأمن

تناقضت هذه الصورة لديها تناقضًا تامًا؛ فكانت إيجابية خارج حدود البلاد لتعاطفها معها، واستجابتها لنداء قلبها بوصفها أما تحاول تهريب ابنتها من جحيم الحرب، تقول الكاتبة: “عند الحدود السورية اللبنانية كانت مئات السيارات في ازدحام رهيب، الكل خائف وهارب من الضربة الأمريكية لسوريا، ولا تعرف من اين أتتها تلك الشجاعة المتهورة؛ إذ أسرعت إلى مبنى الحدود اللبنانية وطلبت بإلحاح أن تقابل الضابط المسؤول، الذي رفض مساعده طلبها بداية، ولكنه شعر بألمها العميق، حيث تأملها للحظات، فقرأت الشفقة في عينيه، ثم قال لها: لحظة.. انتظري هنا. تقول في معرض رسم صورة مساعد الضابط: “ترى أي ألم عميق كان يشع من عينيها حتى أثّر في الشاب وجعلها رغم ازدحام السيارات تقابل الضابط المسؤول.. كان الضابط رجلاً لبقًا لطيفًا استمع لقلبها -هكذا أحست- وقرأ روحها القلقة المعذبة، رجته أن يقدر ظرفها فهي أم وحيدة مؤتمنة على ابنتها التي ستسافر إلى غير رجعة، قالت له: أرجوك! “اسمح لنا بالمرور”، وبكل بساطة سمح لها داعيًا لها ولابنتها بالتوفيق”[11].

فالصورة تتأطر بمشاعرها، واستجابة الآخر لنداء داخلها الممزق، فكانت صورته إيجابية وفقًا لإيجابيته معها، وقد بنتها وفق رؤيتها الخاصة، ولذلك صورته رجلاً دمثًا متعاطفًا متعاونًا، كان قادرًا على استبطان ما يقلق نفسها -على الأقل هذا ما حدست به وما أرادته- وإلا فما معنى مساعدتها هي حصرًا من بين كل  هذه الطوابير المنتظرة لعبور الموت إلى ضفة الحياة، ونعني لبنان، الذي كان بوابة العبور للسوريين إلى دول العالم، ولذلك تتزاحم السيارات العابرة على الحدود بين سورية ولبنان، تقل الهاربين والمسافرين والمرضى، وهم يتعرضون للذل والقهر، ولذا كان لأولوية العبور تقديرات كثيرة نعرفها نحن الذين خبرنا الحدود اللبنانية.

لقد ألحت الكاتبة على تلك الصورة الإيجابية لرجل الأمن ضمن صور كثيرة لاستلاب الكرامة الإنسانية في الانتظار، لتضعها في مقابل صورة رجل الأمن الوحشي العنيف الفاسد المرتشي في الداخل، وهذه الصورة ألحت عليها كثيرًا عندما كانت تعبر ضفتي الحدود، لتبين أن الخراب عم سورية وأغرقها بلجج الفساد، وهذا ما عبرت عنه بقولها: “كان السائق يتوقف عند الحواجز الكثيرة المتنوعة من أمن عسكري، إلى حواجز الجمارك، إلى حواجز الشبيحة، ويرشو كل عناصر الحواجز”[12]. هذه الصورة مجملة ولكنها تعطي صورة للخواء الخلقي والخراب النفسي الذي نخر رجال الدولة.

كما قدمت صورة لآخر بالاسم وهي صورة الشبيح، وعنت بها أنصار الدولة من الرعاع وما تحمله من جهل وتخلف وبطش كونهم عبيدًا للسلطة، ولكنها -الحقيقة- سمة أطلقت على أنصار مشروع الدولة على اختلاف درجاتهم العلمية والاجتماعية والوظيفية للحط من مقامهم الفكري، وبما أن الكاتبة اتخذت موقفًا معارضًا للدولة كان موقفها من مؤيديها موقف العداء، فكان من البدهي أن تصفهم بالتشبيح، كما تحملهم وزر التعذيب والاعتقال والموت.

صورة المهاجر الفارّ

لقد أحدثت المأساة السورية قيمًا سلبية كثيرة، أتت على مفهوم التضحية من أجل الوطن، وألغت مفهوم المواطنة، ليتضحَ أن الدولة السورية لم تنجح في بناء مفهوم المواطنة، لذلك انتشرت فكرة الهجرة وتهريب الأبناء، وقدمت الكاتبة مسوغات متعددة لهذه الفكرة في روايتها فقالت: “ولم تجد عزاء لها سوى بزيارة الصديقات المروعات على أبنائهن وهن يحاولن تهريبهم كي لا يتم إلحاقهم بالجيش السوري ليعودوا بعد أيام جثثًا أو بقايا جثث، أو مجرد ورقة تسمى “شهادة الوفاة”[13]. فالخوف دفع بالناس المقتدرين إلى تهريب أبنائهم ولكن الموت كان ملاقيهم أينما حلوا. فالرجل الهارب خائف، مروَّع، قتل الخوف رجولته، فاختار الهرب لعله يجد المكان الذي يمكنه أن يعيد بناء نفسه فيه بعيدًا عن بلاد الموت.

 ولعل الكاتبة عندما قدمت الرجل الفارّ مسكونًا بالخوف، أرادت أن تبين مصيره في بلاد الغربة التي وصل إليها أيضًا، فقدمت صورًا للمهاجر الفار من الوطن تقطر بؤسا، فهو قد هرب من الجندية/الموت إلى التعاسة، فوصل إلى فرنسا عبر طريق الآلام والأهوال، ولكنه لم يلق فردوسه المفقود هناك، بل كان “يعيش في مكان بائس للغاية مع شلة من المهاجرين وأن الدولة تقدم لهم من حين لآخر ألبسة مستعملة وعلبات طون وسردين وأجبان رديئة”[14]، وهذا ما جعله يحقد على الفرنسيين ويكرههم لأنه اضطر إلى اللجوء إليهم، وهذا الكره ولد فكرة الانتقام عن طريق السرقة؛ ليحصل على ما يمكن أن يوازيه مع الفرنسيين، وهو يجاهر ويعترف بهذا غير آبه بما يمكن أن يحدث فيما لو اكتُشف أمره، ولكن الكاتبة على استنكارها فعل السرقة وعواقبه إلا أنها بررت له سرقته كونه ضحية ظروف الظلم والقهر والموت. فالمهاجر بائس يعيش ظروفًا صعبة اضطرته إلى أن يكون سارقًا.

ولا تختلف صورة المشرد خارج البلاد عن صورة المشرد داخلها؛ كل منها أضاع نفسه في فضاء الحرب، فمراد -على سبيل المثال- ابن حي بابا عمرو ترك المدرسة ليؤمن قوت أسرته، وهو يعيش “مع أسرته في غرفة بائسة يرشح سقفها دومًا بالماء”[15]، إنها صورة تعبر عن حال كثير من السوريين الذين تهدمت بيوتهم. فصورة المشرد صورة بائسة؛ خسر مستقبله، وحاضره، يعيش تعيسًا رهن الحاجة حتى غدا متسولاً، وسيلته في البقاء أكوام القمامة، وهذا ينسحب على جيل كامل أفرزته المأساة التي ألقت بظلها القاتم على صورهم.

صورة الطبيب النفساني

قدمت الكاتبة صورة نمطية للطبيب النفساني، الذي تكتظ عيادته بالسوريين الذين تحولوا جميعًا إلى مرضى يعانون من القلق والاكتئاب، يؤدي مهنته بكل أمانة، ولكن معاناته اليومية مع المرضى جعلته يعاني من الاكتئاب، فاضطر إلى تناول العقاقير المهدئة كما مرضاه، فصار “سوداوي الطباع”[16]، ولكنه كان ودودًا معها، لم تنسه الأحداث صداقته معها، بل أبدى إعجابه بمقالاتها مما أوقد في نفسها شرارة السعادة والزهو.

 لقد اتخذت الكاتبة من كلام الطبيب المعالج مرآة لترى نفسها من خلالها، فهي تقول: “ابتدأ الكلام بالتحدث عن مقالاتها التي تكتبها في عدة صحف، وأثنى على حياديتها وتحليلها المنطقي لما يجري.. كانت صحافية مرموقة وشجاعة، وكان كل من حولها يقولون لها: نستمد الشجاعة منك”[17].

فالطبيب متزن، وفي، قارئ ناقد، صبور، هادئ يتقبل الآخرين الذين أنهكت المأساة أرواحهم، لم يتخذ أي موقف سياسي، ولذلك كان يقصده الجميع لثقتهم به، لعله يخفف من آلامهم قدر استطاعته.

صورة العم

رسمت صورة تقليدية لعمها اختزلت بها صورة الرجل الشرقي الذي ينظر إلى المرأة نظرة تقليدية محافظة، لذلك رفضها لتمردها، واختلاف أسلوب حياتها عن أسلوب حياته وحياة أسرته. فالعم ذو شخصية سلبية يرضخ لأعراف المجتمع وتقاليده، وهو ما فتئ ينكأ جراح ابنة أخيه المطلقة ولا سيما عندما رفض أن يزوج ابنه من فتاة خطبت سابقًا، مشيرًا بطرف خفي لاحتقاره لها لأنها مطلقة، وهي التي كانت تتوسم فيه خيرًا نظرًا لأفضال أبيها عليه، ولكنه تنكر لذلك كله، وقاطعها، وهي لا تأسف لهذه القطيعة لأنه وأسرته “لا يفقهون شيئًا بالنفس البشرية وآداب الكلام من وجوب احترام الآخر… كانت متعتهم الأكثر إثارة النميمة والسخرية من الناس والمعارف والأصدقاء الذين يعاشرونهم، لا يبالون أن من كان في بيتهم صديق، ما إن ينصرف حتى يبدؤوا بالهزء منه، فهم يريدون أن يكون كل الناس أدنى منهم”[18]. إنها صورة سلبية للعم الذي تنكر لذوي القربى، وقطع صلة الرحم، فلم يطمئن عليها طيلة الأحداث السورية. ولم يخطر ببال العم أن يتفقدها يومًا، وهذا ما سبب لها العذاب والألم إلى أن تحول هذا الألم إلى احتقار.

لقد كانت صورة العم انعكاسًا للعلاقات الأسرية التي شوهتها الحرب، وأظهرت ما في النفوس من حقد وكره، وكأن الناس كانوا يتحينون الفرصة للظهور بلا أقنعة فكانت الحرب فرصة، لذلك كانت صور الحبال التي تتقطع تنعكس في خيالها دائمًا.

فالصورة المرسومة للعم شكلتها من تباين رؤيتيهما للثورة المزعومة، واختلاف موقفيهما، مما يؤكد أن صورة العم التي أوهمتنا أنها واقعية، أعملت قلمها في تشويهها لتقول إن من لا يؤيد الثورة متخلف فاسد لا يعي ضرورة التغيير، فهي تقول متحدثة عن بيت عمها على لسان الساردة: “وقد قاطعوها قطيعة تامة بعد بداية الثورة السورية؛ فمواقفهما متعاكسة، كانت تؤمن أن تلك الانتفاضة هي ثورة حقيقة قام بها الشعب السوري ضد الظلم ولأجل الحصول على كرامته وحريته، أما أسرة عمها فكانت تسخر من هؤلاء الثوار وتسميهم رعاعًا”[19]. فهل حاولت الكاتبة إعادة تفسير الماضي في ضوء ما يحدث، فرأت عمها بصورة جديدة. فصورة العم تلخص صورة العلاقات العائلية التي تفككت في سورية، وانقسام البيوت، وتفرق الإخوة والأزواج بناء على موقف كل طرف من الحرب ومسبباتها.

صورة الكاهن

أفردت الكاتبة لصورة الكاهن مساحة واسعة وخصته بعنوان عريض، وربطت صورته بغواية الانتحار التي ما فتئت تراودها، لذلك لجأت إليه بعد أن فشلت في نزع فكرة الانتحار من ذهنها عبر تناولها العقاقير، وإدمانها التنقل داخل اللاذقية وخارجها.

فالراوية تجعل بطلتها تلجأ إلى الكاهن على عدم إيمانها بالكنسية والغيبيات والمعتقدات الدينية، لذلك أسمت الكاهن بالوهم، الذي سيتبين مفهومه عندما تكتمل صورته لدينا. فهي عندما عزمت على زيارته لعلها تجد عنده شفاءها تساءلت على لسان الراوية: “لِمَ لا تجرب الوهم؟ لِمَ لا تقصد كاهنًا ويطلب إليه أن تمارس سر الاعتراف.. لم تكن يومًا مقتنعة بأي من هذه المسلمات والمعتقدات”[20]، فالكاهن وما يمثله وهم لديها، فلماذا قصدته إذًا؟ لعلها زارته لتميط قناعه، وتعريه، لتثبت رأيها في ما يمثله من مقام ديني من ناحية، وتبرهن أن لإمكان للعفة في الواقع، ولهذا بدأت برأس المؤسسة الدينية الكاهن، الذي نذر نفسه للعفة فكيف الحال لدى الآخرين؟ فالكاهن الذي قصدته جعلته أنموذجًا لمن في مرتبته.

وبعد أن مهدت الراوية بمقصدية الزيارة وموقفها من المعتقدات، التي شكلت صورة مفترضة للكاهن وسمتها بالوهم، بدأت بتحديد صورته التي ترسخت لدى الآخرين: “كان هناك كاهن في بداية عقده السادس محبوب من المؤمنين، ويمتلك موهبة سحر الكلام؛ إذ كان الجميع ينصت لمواعظه بخشوع، وبالتأكيد كان يسمع عنها ويقرأ بعضًا من مقالاتها وكتبها، وكان صديقها على الفيس بوك ويطري عباراتها من حين لآخر”[21]. فالكاهن رجل في مرحلة الشيخوخة يمتلك صنعة الكلام، قادر على التأثير، قارئ لمقالات الساردة، متتبع لوسائل التواصل، هذه الملامح الخارجية التي أرادت أن تستبطنها لتعرف مدى مصداقيتها، وهي التي تشكّ فيها أصلاً، فحاولت افتعال حوار داخلي معه، فتداعت في ذهنها أسئلة تحمل كثيرًا من الهزء والسخرية، وإلا كيف يخطر ببالها أن تسأل كاهنًا أسئلة تعد أجوبتها المفترضة نمطًا لحياة الكهان القائمة على التضحية برغبات الجسد من أجل الخالق، وتمثل جزءًا من معتقدات دينها الذي تنتمي إليه، ولكنها كانت تشكك  في كثير من الادعاءات التي على أساسها كان كاهنًا. تقول الكاتبة على لسان الساردة: “فكرت وهي تذهب إليه تفكيرًا مرحًا وساخرًا: ماذا لو سألت أبانا، كيف تعيش حياتك عازبًا؟ ألا تتوق إلى احتضان امرأة؟…[22] ” إلى غير ذلك من الأسئلة التي تعرف جوابها، ولكنها رامت إحراجه، فكان اللقاء من بدايته اختبارًا لمصداقية مبادئه وحطا من قدره؛ فالكاهن كما تراه أقل منها علما وثقافة ومعرفة، رفضت منذ البداية تلبية رغبته في تقبيل يده بعد أن أوحى بذلك بحركة منه، ولكنها تجاهلتها، وجلست مقابله متنكرة لطقوس الاعتراف، والطريف أنه قبل هو بهذا، وأدار حوارًا معها يسألها فيه عن مقالاتها، ويطري دورها عندما عدّها قدوة للجيل الجديد، وهذا الإطراء منعها من الاعتراف بغواية الانتحار، لذلك أخفت عنه رغبتها فيه كي لا تكسر الصورة التي رسمها لها الكاهن، فظلت متماسكة في لقائهما الأول، وأظهرت الكاهن بصورة المخدوع، الذي لا يستطيع أن يميز بين مدعي المساعدة وطالبها الحقيقي من خلال خبرته، ولذلك لم يستقرئ غثيان روحها من طلبها المساعدة منه، لأنه شكرها على ثقتها به، ولم يكن قادرًا على كشف سخريتها منه، ربما كان هذا بقصد من الكاتبة لتبين أنه كان مأخوذًا بها بوصفها أنثى وهذا ما أثر على قدرته في تقييم الحوار.

لقد مثّل الكاهن في نظرها دور الواعظ التقليدي العاجز عن تجديد فكره، فبقى يعلل خطايا البشر بوسوسة الشيطان، فيحمله كل مآسي الدنيا.

ويحاول الكاهن، مرة أخرى، الإيقاع بها من خلال امتداح مقالاتها، فهي كلمة السر التي يستطيع الولوج منها إلى شخصيتها؛ ليطيل الحديث معها، ولكنها ودعته، فكانت طريقة وداعه مؤشرًا على نواياه في النيل منها، فعدته متحرشًا، يتحين الفرص لإغوائها، فوجدها في وسائل التواصل، فدعاها إلى زيارته، ولبت الدعوة وهدفها أن تكتشفه أكثر، فهي في قرارة نفسها تعرف ماذا يريد، ولذلك ذهبت إليه لأنها تشعر “برغبة أن تعريه، أن تكتشف نواياه الحقيقية”[23]، فهو مجرد رجل في نظرها، لم تكسبه سمة الكاهن إلا الخداع، فقد تحلل من مفهوم الإنجيل لنظرة الرجل إلى امرأة ليشتهيها على أنه زنا، إذ تجاوز النظرة إلى الفعل، فداعب شعرها ومرر أصابعه على وجهها، ولكنها لم تبادله المشاعر، وتركته يفعل ما يشاء، لتعرف العالم السري لمن يسمى أبانا، وعندما تعجبت من فعله المشين، إذ لا رابط شرعي بينهما، أجاب مبررًا فعلته متعمدًا لي نص الإنجيل “ما حصل كان لحظة حب، والله يبارك الحب”، فجعل من نفسه مجالا لسخريتها ليقينها أنه يعالج النساء اللواتي يقصدنه في سر الاعتراف بالحب بالطريقة ذاتها. 

  لقد كان اللقاء بينهما بإرادة الراوية لتكتشف أكثر تلك الشخصية المتلبسة بلباس الدين، لتؤكد فكرتها أن لا عفة حقيقة في الدنيا، وهي لا تؤمن بالعفة أصلاً، ولعلها وجدت في شخصية الكاهن خير دليل على اعتقادها وأفكارها وما تؤمن به حول انتفاء العفة ولا سيما لدى الكهان الذين يقدمون أنفسهم على أنهم المنقطعون للعبادة. فهل أرادت الكاتبة أن تبين أن الحرب السورية قد أتت على القيم جميعها حتى لدى رجال الدين؟ أم أرادت أن تبرهن على صحة معتقداتها وأفكارها ونظرتها إلى المؤسسة الدينية؟

لقد أسهم الحوار الذي أدارته مع الكاهن في رسم صورته وما يمثله من مقام ديني لها رأيها الخاص فيه، ولذلك فلم يكن لكلماته وقع في نفسها، فبقيت متشككة في غوايتين غواية الانتحار وغواية الكاهن، وهنا تتمرد اللغة على الكاتبة، وتظهرها مستسلمة عليها أن تختار بين الموت أو الاستسلام للرجل كبديل للموت.

لقد بدا الكاهن عابثًا منافقًا مراهقًا متحرشًا شهوانيًا مخادعًا مجادلاً، تحركه غرائزه غير مبال بمقامه الذي يمثل العفة والبتولية، مندفعًا وراء شهواته المكبوتة لا يهمه المكان وما يمثله من قيمة دينية، فالمكان لم يكن عائقًا أمامه لإظهار رغبته في المرأة، إذ لم يستطع مقاومة نزوته، وهو الذي يعتقد أن الكلمة أحيانًا تسقط الكاهن من منزلته. لقد استغل الكاهن ما عرف عن الكاتبة على لسان الساردة من انفتاح، واعتقد أنها ستستجيب لنزواته.

 فالصورة التي رسمتها للكاهن حطمت صورة رجل الدين المسيحي القارة في الذهن، وعرّت المؤسسة الدينية القائمة على الازدواجية كحال الكاهن، الذي سقط عند التجربة، فبدا منفصمًا منقسمًا بين الحس والوجدان، يستغل الكنيسة لإشباع رغباته الجنسية، لذلك لجأ إلى مسالك غير شرعية غير آبه بمقامه مادام الأمر سرًا.

ونتساءل في هذا المقام هل هذه هي صورة خاصة للكاهن في بلد مزقته الحروب، أم أرادتها الكاتبة صورة عامة لتنال من المؤسسة الدينية المسيحية؟ وهل الحرب هي التي أسهمت في تدمير القيم لدى الكاهن، أم أن الرغبة الحيوانية لدى الرجل لا تعرف مكانًا أو زمانًا ولا مقامًا، والرجل هو الرجل في نظر المرأة شهواني بطبيعته وإن كان يتغنى بالثقافة والالتزام والتدين حتى وإن كان كاهنًا. وللحقيقة نقول لقد أغفلت الكاتبة صورًا للكهنة، كان لهم دور مهم في الدفاع عن سورية في هذه الحرب، وقد لقي كثير منهم مصيرًا مروعًا على يد الجماعات الإرهابية.

صورة المعارض

على تعاطف الكاتبة مع معارضي الدولة السورية إلا أنها قدّمت عنهم صورة منفرة، فقد باعوا وطنهم، وقبضوا الثمن وظهرت عليهم علامات الثراء الفاحش، فهم غير مبالين، تقول: “تحسهم بلا إحساس وبلا ذرة وطنية، وأن كل غاياتهم الوصول إلى السلطة حتى لو مات الشعب السوري بأكمله”[24]، فالمعارضون غير الوطنيين بلا إحساس، يعلنون ولاءهم لمن يدفع أكثر، قلوبهم يملؤها الحقد، يغلب على خطابهم طابع التشفي، فهم شامتون بمن يستشهد من الجنود في معركة فرضت عليهم، وقد أوردت قول أحدهم: “أتمنى لو ننبش قبورهم ذات يوم ونبول عليهم؛ لأنهم كانوا يقتلون المتظاهرين”[25]، الذي يظهر مبلغ الحقد والتشفي، الذي يغلي في صدورهم، ويوجه تصرفاتهم، وهذا ما سيعجزهم عن بناء وطن، ولذلك تنفي عنهم سمة الوطنية، وتجعلهم تجارًا وخدمًا لمن يدفع أكثر، وأطلقت عليم اسم المناضلين الخونة، لأن معركتهم كانت ضد أبناء الوطن، الذين يذبحون بلا رحمة، فربطت بذلك صورة الرجل الخائن بتغيير الولاء وحب السلطة والمال والثروة، فكانت الصورة إدانة للخونة المجردين من الوطنية، وهذا ما سهل عليهم بيع الوطن في أول فرصة أتيحت لهم.

صور متفرقة للرجل

كما عمدت الكاتبة إلى وصف موجز لبعض الشخصيات كالشهداء، الذين قضوا في الحرب السورية، وقد وصفتهم وهي تتأمل صورهم، بلوحات تذكارية معلقة “على الجدران يعبرها شريط أسود، كلهم شبان بعمر الصبا ماتوا، وتحولوا إلى أوراق نعي “الشهيد البطل”[26]، فالشهيد في النهاية ورقة نعي.

كما ترسم الكاتبة صورة لصبي النرجيلة وهو يطوف على الزبائن، حتى غلب عليه اسم “نارة ياولد”[27]، وكأنه تحول إلى رجل آلي تحركه الإشارة، فيقبل على الزبائن، يلبي طلباتهم، فغدا بلا اسم ولا سمة، ليكون أنموذجًا لجيل من الشباب السوري التائه في حرب لم يعرف مآلها بعد. كما استعادت صورة مشرقة في ذهنها لشباب رابطة العمل الشيوعي التي أسست حزبًا في سورية، شعاره الحرية “فهم حقيقيون ومثقفون وشجعان ويجرؤون أن ينتقدوا رؤوس النظام الفاسد، وكانوا عشاقًا أيضًا ويمارسون الحب بكل حرية ودون ذرة من تأنيب الضمير”[28]، فقدمتهم على أنهم أحرار، تحللوا من العقد الاجتماعية التي تكبل الشباب، فهم يمارسون ما يعتقدون به دون خوف، وقد كانت صورتهم الإيجابية كونها من الماضي من ناحية، وكونها تؤمن بأفكارهم من ناحية أخرى.

من هذه الصور التي رسمتها الكاتبة لرجال مختلفي المشارب والانتماءات، تشكلت الصورة الكلية لسورية التي أنهكتها الحرب، وحددت أدوار الجميع فيها، وأثر الحرب في نفوس الناس وتفرقهم، فقد غيرت الحرب كل شيء، إلا إجماع الشخوص على قراءة مقالاتها وإعجابهم بها.

خاتمة البحث

في نهاية المطاف لا بد من القول إن ما دونته الكاتبة في يومياتها يمثل رؤيتها إلى الذات والعالم وكأنها أرادت أن تؤرخ لمرحلة تاريخية من تاريخ سورية بوصفها امرأة مثقفة عاشت المأساة وانعكست في داخلها ألمًا وقلقًا وبؤسًا، فآلمها منظر الخراب والموت الذي أحاق ببلدها، فسجلت الأحداث وحاولت أن تطابق بين المعنى الذي تريد إيصاله وصورة الشخص التي تتحدث عنه.

لقد أرادت الكاتبة أن تقدم صورًا تختزل شرائح المجتمع السوري، فاختارت رجالا واقعيين يمثلون طبقاتهم الاجتماعية والثقافية، ورسمت صورهم بمحددات سلوكهم ومواقفهم وأنماط عملهم وموقفها منهم، فجعلت الرواية تنحو نحوًا غريبًا أشبه ما يكون بصورة مهشمة لا يجمعها إلا الإطار الذي حوى بين أضلاعه حطام بلد وبقايا أناس مزقتهم العشرية السوداء، وفرقهم العداء، وشتتهم المكان، فكانوا بحقٍ بقايا صور تاهت ملامحها في لجج المأساة، التي تتقاذفهم، فتصحرت ملامحهم، وتحطمت أرواحهم مع كل حجر يسقط من منازلهم.

لقد تبدى الرجل في رواية “الشحاذة” محكومًا بظروف قاهرة خارجة عن إرادته مجبرًا على التكيف مع ضراوة الحياة، التي فرضتها الحرب السورية فانعكست على أنماط سلوكه وثقافته ومقامه الاجتماعي، فبدا مهزومًا منكسرًا لا يملك من أمره شيئًا ما عدا ما يؤمر به يستوي في ذلك الرجل العادي ورجال الدولة، فكانت الرواية يوميات الحرب السورية، دونتها الكاتبة عبر مشاهدتها وما اختزنته ذاكرتها من صور في مرحلة من مراحل تاريخ سورية المعاصر، تهشمت فيها الإنسانية، مما جعل من اليوميات إطارًا لصور رجال حطمتهم الحرب نفسيًا وقيميًا.

* قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، المملكة العربية السعودية.

[1] لوجون، فيليب. السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، ط1. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994م، ص:22. 

[2] عبيد، الدكتور محمد صابر. تأويل متاهة الحكي في تمظهرات الشكل السردي، ط1. سورية: دار الحوار، 2007م، ص:23.

[3] ابن السايح، الأخضر. سرد الجسد وغرابة اللغة قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى،ط1. الأردن: عالم الكتب الحديث، 2011م، ص:44.

[4] بيطار، هيفاء. الشحاذة، ط1. الرباط: دار الأمان، 2017م، ص: 174.

[5] ماي، جورج. السيرة الذاتية، تع: محمد القاضي وعبد الله صولة، د.ط. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع،2017م، ص:222.

[6] بيطار، هيفاء. الشحاذة. ص:58.

[7] المصدر نفسه، ص:81.

8 الميلودي، عثمان. العوالم التخييلية في روايات إبراهيم الكوني، ط1. سورية: محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، 2013م، ص:167.

 9 حماش، جويدة. بناء الشخصية في حكاية عبدو والجماجم والجبل لمصطفى فاسي مقاربة في السرديات، د. ط. الجزائر: منشورات الأوراس،2007م، ص:79.

10 قسومة، الصادق بن الناعس. علم السرد المحتوى والخطاب والدلالة، د.ط. الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية،2009م، ص:191.

11 بيطار، هيفاء. الشحاذة. ص:8.

12 المصدر نفسه، ص:18.  

 13 المصدر نفسه، ص:19.  

 14 المصدر نفسه، ص:70.

15 المصدر نفسه، ص:95.  

16 المصدر نفسه، ص:31

17 المصدر نفسه، ص:30.

18 المصدر نفسه، ص:35.

19 المصدر نفسه، ص:137.

20 المصدر نفسه، ص:99.

21 المصدر نفسه، الصفحة نفسها .

22 المصدر نفسه، ص:100.

23 المصدر نفسه، ص:105.

24 المصدر نفسه، ص:52.

25 المصدر نفسه، ص:52.

26 المصدر نفسه، ص:90.

27 المصدر نفسه، ص:34.

28 المصدر نفسه، ص:172.

المصادر والمراجع

  • ابن السايح، الأخضر. سرد الجسد وغرابة اللغة قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى، ط1. الأردن: عالم الكتب الحديث، 2011م.
  • بيطار، هيفاء. الشحاذة، ط1، الرباط: دار الأمان، 2017م.
  • حماش، جويدة. بناء الشخصية في حكاية عبدو والجماجم والجبل لمصطفى فاسي-مقاربة في السرديات، د.ط. الجزائر: منشورات الأوراس،2007م.    
  • عبيد، الدكتور محمد صابر. تأويل متاهة الحكي في تمظهرات الشكل السردي، ط سورية: دار الحوار، 2007م.
  • قسومة، الصادق بن الناعس. علم السرد المحتوى والخطاب والدلالة، د.ط. الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 2009م.
  • لوجون، فيليب. السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، تر: عمر حلي، ط1. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1974م.
  • ماي، جورج. السيرة الذاتية، تع: محمد القاضي وعبد الله صولة، د.ط. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع،2017م.
  • الميلودي، عثمان. العوالم التخييلية في روايات إبراهيم الكوني، ط1. سورية: محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، 2013م.
    تحميل البحث