السرد الروائي ما بين الزعزعة والثبات في الرواية الفلسطينية؛ رواية “على شواطئ الترحال” ورواية “رائحة الزمن العاري” أنموذجًا

السرد الروائي ما بين الزعزعة والثبات في الرواية الفلسطينية؛ رواية

د. ريما أبو جابر برانسي*

ملخص البحث

أتت التسميات “الأدب النسوي”، و”أدب المرأة”، و”أدب الأنثى”، وغيرها لتدلّ على مسمّى واحد، فهل هذا المسمّى هو مجرّد إضافات لا قيمة لها؟ لماذا يُصنّف الأدب إلى نسوي وغير نسوي ولا نجد هذه التصنيفات في فنون أخرى، كالنحت والعمارة والموسيقى وغير ذلك؟ ما الذي أضافته الأنثى للأدب بصفتها أنثى؟ وهل هناك فروق جوهرية بين إبداع المرأة وإبداع الرجل؟ هل للمرأة أساليب وطُرُق تعبيرٍ وخطاب تميّزها عن الرجل؟

يسعى هذا البحث إلى تقديم قراءة تحليلية لروايتين وهما “على شواطئ الترحال” و”رائحة الزمن العاري” بهدف تسليط الضوء على ما تقوم عليها الكتابة النسوية من خصوصية وتفرّد، وما تتبّعه من أساليب كالحوار الداخلي (المونولوج)، وطرح الأسئلة، والحس الشعري وغير ذلك من أدوات تزعزع الثوابت السردية الذكورية للكتابة، وتخلخل المسار الزمني والمنطقي للأحداث.

كلمات مفتاحية: الأدب النسوي، أدب السؤال، السرد، اللغة الشعرية، المونولوج.

مقدمة

على الرغم مما حقّقته المرأة من مكاسب عديدة في المعارك الحياتية اليومية في المجال الثقافي والعملي والساسي، وعلى الرغم من تبوّئها المناصب السياسية والاجتماعية؛ إلا أن ذلك لم يغيّر، بشكل كليّ، صورة القهر والظلم الذي تشعر به؛ إذ بقيت المرأة، ونعني بالأخصّ المرأة الشرقية، تشعر بأنها أقلّ حظًا من الحرية في ظلّ المسلّمات الاجتماعية. وأخذت المرأة عامّة، والمرأة الكاتبة بشكل خاصّ تُسمع صوتها الرافض لواقع الحال، الساعي إلى التغيير، وإلى خلخلة النظام الذكوري المتسلط، مستخدمة كلّ الأدوات والوسائل المتاحة بين أيديها، بما فيها فعل الكتابة. تقول راوية جرجورة بربارة[1] في استهلال روايتها “على شواطئ الترحال”: “كان لا بدّ لي أن أكتب قصتنا، لكن لم أدرِ بأيّ لغة أكتبها، ألم تقل إن اللغة هويّة!.. وأنا أضعت هويّتي معك. قبل اختناقي بك يا غصّة العمر لا بدّ أن أطلق صرخة حبري لأتحرّر من حياتي معك”[2]. ثمّ تتابع وتقول “سأكتبها قصتنا لأتحرّر…”[3]. وبذلك، تعلن الكاتبة عن دور الكتابة كفعل مواجهة وتمرد، ومحاربة المجتمع الذكوري وسلطة الرجل. هي تلجأ إلى الكتابة لتتحرّر من كلّ تبعات علاقتها بالرجل، فتقول: “حتى أكتبك عليَّ أن أتحرّر من كلّ شيء…، لن يحرّرني أحد منك إلا الكتابة، فالكتابة الكتابة”[4]. وهكذا، فالكتابة بالنسبة إلى الكاتبة بمثابة سلاح تواجه به مجتمعها الذكوري، وتعبّر عن كيانها ووجودها، وكأن الكتابة تساوي الحياة، كما تقول سحر الموجي: “الكتابة عندي هي فعل الحياة نفسه، أن أحيا بالمعرفة عقلية ووجدانية، من خلال الكتابة، وأن أنقل شحنة الحياة هذه إلى الآخرين من خلال الكتابة”[5].

وفي نهاية روايتها، تعود الأديبة راوية بربارة إلى المجاهرة بسلاحها؛ أي الكتابة، وتتساءل إن كانت الكتابة قد حرّرتها منه كما تؤكّد على أنّ واقعها غير العاديّ هو ما أحوجها إلى استخدام أداتها الخاصّة للمواجهة. وهذا ما نقرؤه على لسان البطلة سارة في الرواية: “لو كان الواقع عاديًّا لما فكّرت في الهروب… لما فكّرت في كتابة قصتنا لأنفضَ عنّي كلّ آلامي وآثامي وأختفي من حياتك”[6].

نفهم من هنا أن المرأة تحاول من خلال كتابتها أن تخلع عنها ثياب القهر، تتحدّى وتحارب وتحقّق حريتها، كما تسعى إلى زعزعة كافّة الثوابت والمسلّمات في مجتمع سلطوي ذكوري لا يفتح رحاب أفقه للمرأة. وبهذا، نراها تختار مضامينها الخاصّة بها، وتجعل من نفسها مركزًا ومن أدبها آلة حرب، فترفض أن يُنظر إليها نظرة مغايرة، كما ترفض أن تضع لنفسها القيود، فتخرق باب الجنس والدين وتجاهر بدعوتها إلى التمرد؛ فهي المرأة القوية التي يشهد لها التاريخ بالقوة والحكمة والشجاعة والتميّز النسائي-الأنثوي. وهي الكاتبة التي تعتبر الكتابة حرية وتحررا، ووسيلة لإنصاف الذات وإعطائها حقّها في قول ما تشاء قوله، والكتابة بالتالي خروج عن المألوف وزعزعة للأعراف المسلّم بها من خلال الطرح المضموني الخارق لكافّة التابوهات، والأساليب اللغوية غير النمطية، كما سنبيّن من خلال مناقشتنا للروايتين “على شواطئ الترحال” و”رائحة الزمن العاري”.

ملخص الروايتين “على شواطئ الترحال” ورائحة الزمن العاري

تدور أحداث رواية “على شواطئ الترحال” بين شابّ عربيّ مسلم يُدعى إبراهيم من إحدى قرى الجليل، وفتاة يهودية يسارية التوجّه تُدعى سارة، أممية المبادئ، أمّها عراقية ووالدها مغربي. يلتقي إبراهيم وسارة لقاءهما الأوّل في مدينة حيفا في مظاهرة شاركا فيها دعمًا لأطفال الحجارة[7]. ويحدث أن تسقط سارة أرضًا بتأثير الغاز المسيل للدموع، فيسرع إبراهيم لتقديم الإسعاف لها ويرافقها حتى يحين موعد القطار الذي سيقلّها إلى تل أبيب حيث تسكن مع عائلتها. ومن اللحظة الأولى، يقع إبراهيم في حب سارة، ويتطور هذا الحب إلى زواج رغم معارضة أهل الطرفين.

في بداية حياتهما الزوجية، يسكن الاثنان في مدينة حيفا التي احتضنت حبّهما منذ البداية، ويواجهان معًا ظروفًا حياتية صعبة؛ فإبراهيم لم يستطع إيجاد عمل في مهنة التمريض، واضطرّ لأن يعمل في البناء ليعيل عائلته. وتزداد مسؤولياته بعد ولادة ابنته “لنا”، كما تتفاقم صعوبات المعيشة وتُغلَق أبواب العمل في وجهه في ظلّ حرب الخليج الأولى[8] وتعرُّضِ البلاد لهجمات صاروخيّة زرعت الرعب في قلوب الناس؛ الأمر الذي قاد العائلة إلى الانتقال من حيفا إلى قرية إبراهيم الفسيفسائيّة الجليلية للاحتماء من الصواريخ وحماية الطفلة “لنا”. على أن هذا الانتقال يضاعف أعباء إبراهيم الذي لا يجد عملاً، فيلجأ إلى شرب الخمر، وتتغير معاملته لسارة؛ يشتمها ويضربها في حالات من السكر واللاوعي. كما تتغيّر مواقفه وتزداد سوءًا حين يشعر بأنّه لا يستطيع حماية ابنه “فؤاد” من واجب الخدمة في الجيش لأنّه في نظر السلطة يهوديّ؛ لأن أمّه يهودية. وهنا، يلجأ إبراهيم إلى حياة التدين، ويبدأ بالضغط على سارة بأن تعتنق الإسلام وترتدي الحجاب؛ الأمر الذي يوصل علاقتهما إلى مفترق طرق، ينتظر كلّ منهما الآخر ليبادر ويصالح ويتنازل. وتنتهي الرواية إذ تقلب سارة ساعتها الرملية وتعلن الانتظار.

أما رواية “رائحة الزمن العاري” للأديبة هيام مصطفى قبلان[9]، فتنقل لنا قصة الشخصية المركزية “هزار” التي يمنعها والدها من الزواج بمن تُحبّ، ويُرغمها على الزواج بابن عمها الذي يعمل لصالح دولة إسرائيل، غير آبه بظلم شعبه. تستسلم هزار لعنف والدها وصفعاته وتتزوج رجلاً لا تُحبّه؛ بينما يُهاجر حبيبها “نبيل” الذي تعتبره وطنها وملجأها؛ فتأخذ طرحة فستانها وتدفنها تحت التينة المجاورة لبيته، وتعيش امرأة مسالمة، خانعةً لمجتمع ذكوري سلطوي قاهر، تخدم زوجها وتربّي ابنتها سمر، وتكرّس حياتها لأجلها بعد وفاة زوجها في حادث طرق مروّع. وتبقى على هذه الحال إلى أن يعود حبيبها بعد عشرين عامًا حاملاً حبّه الأوّل لها، فتشعر بأن بإمكانها امتلاك السعادة التي فقدتها عشرين سنة، وأن ترتبط بحبيبها بعد أن خذلها كلّ الرجال الذين عرفتهم في حياتها؛ بدءًا من والدها وأخيها وحتى زوجها والجنّان وصديقها الفنّان أدهم الذي أوهمها بحبّه مدّة سنتين ثم تزوّج من غيرها. تدور الأحداث بغير ما تتمنّاه هزار؛ إذ يقف لها أخوها بالمرصاد، وينهي علاقتها بحبيبها نبيل في مشهد درامي، حيت يصوّب الرصاص نحو رأسه ويرديه قتيلاً أثناء مشاركته في مظاهرة يوم الأرض في الناصرة.

محاور الزعزعة والثبات في الروايتين

جدلية الأمكنة، ما بين السلوك النمطي للشخصيات والتمرد

تنتمي الروايتان إلى بيئة جغرافية واحدة؛ نتابع فيها حركيّة الأشخاص ما بين الأماكن وتأثير ذلك على سلوكاتها وعلى الأحداث؛ فمدينة حيفا تحتضن الحبّ وترعاه، بينما تضيّق القرية الخناق عليه وتقتله. تقول بربارة عن مدينة حيفا:

“عندما لفظتنا كلّ المدن والقرى بعد إثمنا البريء، لم تبقَ إلا حيفا، فتَحَتْ لنا (هي حيفا) شقّة مستأجَرة لنعيش فيها، هناك في وادي النسناس، ضمّتْنا بأثاثها القديم، بحجارتها التي كلّما لامستْ يداك حجرًا منها روتْ شفاهك شوق فُتاتِها لأهلها الراحلين على أمل العودة، على حدّ قولِكَ…” [10].

في حيفا وُلد الحب، وفي حيفا نما وترعرع، وفي حيفا أيضًا نضجت بذاره (بولادة الطفلة لنا). وعلى الرغم من مصاعب الحرب ومصائبها وعواقبها وعقباتها؛ على الرغم من الألم والحسرة، والشعور بالوحدة، وعدم الاستقرار النفسي والاقتصادي والاجتماعي؛ إلا أنّ إبراهيم وسارة كانا ينعمان بالحب المستمدّ من أمومة حيفا واحتضانها، من مياه بحرها وخضرة سهولها. يستمدّان الأمل من إشراقة جبالها، والهدوء من سفوحها. كانا يحتميان بحبها وبطبيعتها فيتخطيان العتبات، على أن هذه القوّة اختفت، حين قرّرا الانتقال إلى القرية الجليلية للاحتماء من الصواريخ. وهما، وإن احتميا من صواريخ الحرب؛ إلا أن جبهة أخرى من الصواريخ صُوّبت نحوهما؛ فذاك الرحيل كان الكفيل بقلب الأحداث، وقلب الأفكار وقلب المفاهيم؛ فإبراهيم، تدريجيًّا، لم يعد إبراهيم، وسارة لم تعد سارة. في تلك القرية الجليلية تختلف الحكاية، وتتغيّر مساراتها!. تقول سارة: “مَن الذي أخذنا من حيفا وأسكننا في قريتك الجليلية المستجمّة على شواطئ الخوف، المنفلتة تلمّ السنابل من السهل لتعجن حكايتها؟”[11].

في تلك القرية تختلف الموازين، وتتشابك العلاقات، يعود إبراهيم إلى حضن العادات والتقاليد، يعيش شابًّا هزمته الحرب وخيباتها، ربّ أسرة لا يملك مالاً، لا يجد عملاً، ويخجل من والده إن اتُّهم بالفشل. يعيش إبراهيم وسارة في بيت مستَأجر لا تفارق البومة شجرة التين في ساحته؛ فتنذرهم بالشؤم، وبالمشكلات المتلاحقة. في القرية الجليلية، يتحوّل إبراهيم إلى مدمن على السهر والمشروب، مما يجعل علاقته مع زوجته تتخذ مسارًا آخر. وفي القرية الجليلية أيضًا، يعود إبراهيم، بعد فترة ضلال، إلى التوبة، فيعكف على الصلاة والتدين، ويسعى إلى فرض الحجاب على زوجته؛ لا سيّما بعد أن أصبح له ابن، ولا يمكنه أن يقبل بتجنيده، الأمر الذي يُوصل العلاقة إلى خطّ النهاية، إلى مُفترق أخير إمّا أن يتخذ فيه إبراهيم مسار التراجع، والعودة إلى مبادئه وإيمانه بالتعددية وكينونة الإنسان، أو أن يسلك الاتجاه الآخر الذي يسير فيه وحيدًا دون “سارة” ودون “لنا” ودون “فؤاد”.

 هذه الجدلية بين الأماكن والعلاقة بينها وبين سلوك الشخصيات بارزة أيضًا في رواية “رائحة الزمن العاري”؛ حيث القرية قاتلة الأنثى بينما حيفا هي الملجأ والمتنفّس. تقول الراوية: “نسيت هزار ابنتها سمر، ونسيت أنها في قرية لا ترحم أنثى تعيش وحدها دون رجل يحميها”[12]. هذه القرية تقدّس الذكر وتعتبره بطلا كما جاء في وصف ولادة نزار؛ أخ هزار: “إنّه الذكر الوحيد في العائلة، وله أُطلقت أوّل طلقة رصاصة في ساحة الدار، تهليلا وفرحًا بقدوم الابن الذكر، حامل اسم العائلة!”[13].

ومقابل كلّ هذا الاحتفاء بالذكور تشعر الأنثى في القرية أنها أسيرة محكوم عليها بالسجن المؤبّد، لا مجال أمامها للتعبير ولا لممارسة الفن. تقول هزار، وهي مبدعة فنّانة في مجال الرسم: “رسوماتي يأكلها الغبار في المخزن، لأن الرسم للفتاة في قريتنا خروج على القوانين”[14]. ومن قوانين القرية ألا تمارس أرملةٌ حقّها في العيش، أو مجرّد الخروج من القرية؛ فها هو الأخ نزار يعاتب الأخ هزار قائلا: “أنت أرملةٌ ولك ابنة، فماذا سيقول الناس؟ أرملة ودايرة في المدينة على حلّ شعرها؟ اسمعي.. في عائلتنا لا توجد حريم فنّانات… أنت لا تعرفين ما يقول أهل القرية! أنت لست حرّة.. أنت حرمة مثل كلّ الحريم”[15]. في هذه القرية لا تحلم الفتيات، لأن الحلم جريمة، ولا ترحم الألسن أيّا منهنّ، فها هي هزار التي أفقدها القدر زوجها تتحوّل إلى محطّ أنظار كلّ العيون، وأختها التي انتحرت بسبب الظلم الذكوري يُنهَش لحمُها حتى بعد موتها، “لقد قُتلت شهيدة التراب، مرجومة بأقاويل حثيثة التشويه المتكلس على رخام عفونة إشاعات”[16]. ولا تجد الأنثى متنفّسًا سوى في المدينة، في حيفا؛ حيث تتصوّر أن الرقيب يغيب وأن السماء وحدها والنجوم والقمر والبحر شهود على اشتعال الحبّ. في حيفا، يقول نبيل (العشيق) لهزار: “أُعلنك زوجة لي أمام الله، وأمام البحر.. أمام السماء، وأمام الليل والنجوم والقمر..” [17].

ويأتي توظيف مدينة حيفا في الروايتين وسيلة لزعزعة المسلّمات المفروضة على الأنثى، إذ تقوم الكاتبتان من خلالها بخرق تابو الجنس فتسترسلان على لسان الشخصية المركزية في وصف مشاعر الحب والعشق، وسرد تفاصيل اللقاء العاطفي دون أيّ حساب للقيود والمحرمات. في مدينة حيفا تنسى “هزار”، في رواية “رائحة الزمن العاري”، ملامح وجه أبيها وسلطة أخيها، و”تمتشق لون العشق على جسد حبيبها الثائر بالشهوة والرجولة، والساخن بالدهشة والذكورة! عادا معًا يتصبّبان عطرًا، ولم تلبث الأشياء في الغرفة تغبّط روحين تتمرّغان بجسدين امتطيا سرير الدهشة الملوعة، وغابا في سبات عميق عن الزمان والمكان”[18]. ونجمل بهذا، أن توظيف الأماكن في الروايتين يعكس ثنائية الزعزعة (كل ما يحدث في المدينة من خرق للمألوف) مقابل الثبات (خضوع المرأة في القرية للأعراف واستسلامها التام أو شبه التام لها).

الشخصيات الذكورية والأنثوية، ما بين النماذج النمطية والنماذج المُخلّة بالأعراف

يلاحظ قارئ الروايتين خطوطًا مشتركةً في ما تمثّله الشخصيات الذكورية والأنثوية من أحداث وقضايا، فكلتا الكاتبتين تجعلان الأنثى إما تقليدية مسالمة خانعة لقوانين المجتمع الذكوري أو متمردة رافضة تسعى إلى بناء عالمها الخاص. هذا التأرجح بين النمطين، نجده أيضًا في الشخصيات الذكورية في الروايتين؛ فالكاتبتان تُصوّران الرجل السلبي الأناني المهووس بعقدة التسلط حتى لو اختلف الدور الاجتماعي الذي يؤدّيه، أو تغيّرت مكانته الاجتماعية مقابل الرجل المثالي الذي تحلم به الأنثى شريكًا وعشيقًا. وكنموذج للرجل السلبي أذكر -على سبيل المثال- آفنر ابن خالة سارة في رواية “على شواطئ الترحال” الذي وقف بالمرصاد بوجه زواجها وأراد تخليصها من العربي، كما وقف أمام نجاح زوجها وإيجاده العمل، فأغلق أمامه كل الأبواب والمنافذ، وكذلك إبراهيم في بعض مواقفه في الرواية؛ لا سيّما بعد الانتقال إلى القرية. وفي رواية “رائحة الزمن العاري” يمثّل الأب، والأخ نزار، والزوج كريم الذي يمثّل الرجل الخائن المستعدّ لبيع نفسه، أهله وأرضه لأجل إرضاء الدولة، كما يمثّل الرجل المتسلط، العنيف والمُقيّد الذي لا يؤمن بحق الأنثى بالعيش. وإلى جانب هؤلاء نجد الجنّان، والفنّان هشام يمثّلان الرجل الشهواني المحكوم بالغريزة والذي يعتبر المرأة جسدًا ماديًّا لسد الرغبات[19].

هذه النماذج من الشخصيات هي مثال آخر لزعزعة القوانين والمحرمات واختراق الأعراف، فالمرأة سمحت لنفسها بالبوح بمكنونات نفسها، ونقل ما تعيشه من ظلم وكبت دون أن تحسب حسابًا لردّ فعل القارئ الذكر. تدافع عن نفسها وترفض أن يُنظَر إليها كجسد، تخرج ضد مؤسسة الزواج، ضد إكراه الفتاة على أي فعل، تهمّش الرجل وتُجاهر بسلبيته ووحشيته وبدائيته، وتعلن رغبتها في التحرر منه. والملفت في الروايتين أن الكاتبتين لا تكتفيان بعرض هذا النموذج من الرجال؛ إنما نجد مقابله الرجل المثالي الذي تحلم به المرأة؛ فسارة، في رواية “على شواطئ الترحال” لا تنسى أنْ تُنصف الذَّكَر العربي الذي يَبدو لوهلة ظالِمًا أنانيًّا؛ إذ تُفسِح لهُ المَجال في النهاية أن يَقول قوْله، كما تَصِفه بأنه العربي المُتحمِّس للسلام، هو العربي الذي كان يعتقد بأنّ الله خلق الإنسان في أجمَل تقويم، أي في إنسانيته، بعيدًا عن وحشية الحيوان والتفريق العُنصري والطائفي، هو العربي الذي عشقَته اليهودية سارة وخاطبَته بقولها: “ما أجملك وأنت تُحب التعددية، وتَعتبرها جَمالا وجوهرة” [20]. وعليه، فإن ما تَطرحه الأديبة من سرد لأفعال إبراهيم المُتتابعة ضد سارة، وظلمه لها لا يعرض عربيًّا شرقيًّا بدائيًّا مُتسلّطًا وقاسيًا، إنما هو عربي مُحبّ مُؤمن بإنسانيته مُحترِم للتعددية مُرتبط بوطن وشعب وفِكر ونبض، لم يَتوانَ حتى النفس الأخير عن حبه لسارة؛ إلا أن هذا الحب ما كان لِيُكتَب له الإثمار في أرض قاحلة، وفي عالم فيه كلّ قيود العِرْق والدين والانتماء وغيرها من عقبات وعتبات. وفي رواية “رائحة الزمن العاري” يُطالعنا الرجل المثالي في شخصية العشيق نبيل الذي غادر القرية بعد منعه من الزواج من حبيبته ثم عاد إليها بعد عشرين سنة. هذا العشيق هو الوطن الذي سُلب منها كما سُلبت الأرض من أهلها “سافر الوطن مع نبيل في حقيبة السفر”[21]، هو الرجل الذي رفض الغبن والمداهنة والزيف، هو الفنّان ذو الحس المرهف الصادق، والكاتب والشاعر والحلم الذي يخضرّ في عينيها، “هو حبها الوحيد، وسيدها الوحيد، ووطنها الوحيد، وهو النضال… وسنابل القمح التي نمت وكبرت بين الضلوع”[22].

أمّا صورة المرأة في الروايتين فهي كما المرأة في كل الكتابات النسوية، إذ نراها محور الرواية ومركزها، تدور كل الأحداث حولها لتؤكّد على دورها وأهميّتها؛ فنرى أن الشخصية المركزية أنثى (سارة في رواية “على شواطئ الترحال” وهزار في رواية “رائحة الزمن العاري”)، كما أن العديد من الشخصيات الأخرى أنثوية، وتمثّل التأرجح ما بين التمرد والخضوع، والرغبة والركود، والثقة بالنفس والتيه وما إلى ذلك من متناقضات[23]. ومن الجدير بالانتباه أن ثنائية الاستسلام والتمرد تتجلّى في رواية “على شواطئ الترحال” من خلال نفس الشخصية؛ شخصية سارة التي تُعلن التمرد على أهلها وابن خالتها ومجتمعها لتحظى بحب حياتها، ثمّ بعد أن تُغلق الأبواب في وجه سعادتها تُعلن استسلامها لزوج مُعنِّف، ومُشكِّك بها. ومن أمثلة المرأة الخاضعة المستسلمة في رواية “على شواطئ الترحال”:

  • “كان لقاؤنا الثلاثي كلقاء قمّة، كلّ جبل فينا يأبى أن يتزحزح لا بلهب باطنه ولا بهزّة إنسانيته، كنت في هذا اللقاء شبه الصامت، السنبلة الوحيدة المستعدّة أن تطأطئ رأسها حتّى تمرّ العاصفة!” [24]. تخضع سارة في هذا الموضع لحدة اللقاء بين حبيبها العربي المسلم وابن خالتها اليهودي المجند ولا تحاول أن تثور في وجه أيّ منهما.
  • “حاولت أن أمضغ لوعتي وحزني وأفكاري مع طعامكم”[25]. تستسلم سارة هنا لجفاف استقبال أهل إبراهيم لها، ورفضهم إياها، وتشعر باللوعة وبالرغبة في الالتقاء بأهلها أيضًا.
  • “لم أشأ أن أقتحم حزن إبراهيم أكثر فآثرت الصمت، رأيتُ في عينيه نظرةً جديدة لم أفهم سرّها ولم أفهم معناها”[26].
  • “كنت أخاف إذا تفوّهت أن أجرح صمته.. أن أجرح قلبه.. ماذا لو حدث له مكروه وتركني و”لنا” نتخبّط في قريته الفسيفسائيّة لا يسأل عنّا سائل…” [27].
  • “وسارة تتلوّى في صمت، حرقتها أصابعه وشكوكه، ذوت وذبلت في يوم وليلة…، باتت لا تنام إلاّ سهادًا، لا يغمض لها جفن نعاس…، كانت الغرفة ملاذها حتّى اقتحمها ذات سكرة وشرره يتطاير من كلّ صوب…، والصراخ والبكاء والعويل والأنين والضرب تركوا آثارهم ملء الروح وملء الجسد”[28].
  • “وهل لها ملاذ غير مسامحته، أبعد أن تخلّت عن أهلها ومجتمعها لأجله تتخلّى الآن عن ولديها؟”[29].
  • “وتتكرّر الحكاية وتكرّ الليالي المجنونة المسهدة، وسارة لا تنام، وعقلها يئنّ وجسدها يرتعش من الأكفّ ومن الاتّهامات الموجّهة بحق عذريّتها”[30].

أمّا المواقف التي تُعلن فيها سارة تمرّدها فهي:

  • “بدأتُ حربي من أجلك إبراهيم وأنا عزلاء إلاّ من حبّك”[31].
  • “إنّ جسدي يتنكّر لهذه الملاءة الثقيلة، إذا أردتني أن أبقى معك، سأكون في أجمل تقويم كما عوّدتني”[32]. وهذا رفض لارتداء الحجاب والجلباب؛ وتصريح بأنّ إصرار إبراهيم على هذا الطلب يعني انتهاء العلاقة.
  • “قنبلة موقوتة أنا في انتظار انحدار الزمن الرمليّ فحاذر. حاذر من انفجار ألمي ولهفتي وإلا أصبحت مشوّه حبّ”[33].
  • “لم تهمّني أمّي وهي تصيح وتضع كلّ لومها على والدي الذي علّمني أمميّته، واعتبرني ميّتة لأنّني وافقتُ على زواجي من عربيّ، كان كلّ همّها أن تعرف في أيّ مقبرة سأدفن، وهل سيصلّي على قبري رابٌ أم شيخٌ؟!”[34].
  • “كان عليّ أن أكون أقوى من كلّ الصدمات، أنا التي اخترت طريقي ولا أحد غيري سيدافع عنها”[35].
  • “أنا لست ملكًا لأحد. أنا مسؤولة عن روحي وعن جسدي وعن كياني ووجودي! والبلاد ليست ملكًا للبشر، إنّها هبة الربّ لنا لنسكن ونحيا، لا لنتقاتل ونموت”[36]. وفي هذا المقطع تتمرّد سارة على ابن خالتها آفنر اليهوديّ الذي يعادي زوجها العربي المسلم ويتهجّم عليه.
  • “لن أسمح لك هذه المرّة أن تتهجّم عليّ، اسكت وإلاّ ركضت نحو أهلك الآن”[37].

أمّا في رواية “رائحة الزمن العاري” فنلاحظ أن الكاتبة توظّف عدّة شخصيات نسائية نستشعر من خلال بعضها الاستسلام ومن خلال البعض الآخر الرفض، كما قد نجد الشخصية نفسها تستسلم حينًا ثمّ تثور وتتمرّد حينًا آخر. ومن الأمثلة على المرأة الخاضعة المستسلمة في رواية “رائحة الزمن العاري”:

  • “يجب أن يعلم أنّها لم تستطع القرار، ففي أسرتها ربّ العائلة هو الذّي يقرّر..” [38].
  • “حانت اللحظة، وكان ما أراد أبي.. تزوّجت من “كريم” ابن العمّ بحسب أعراف القبيلة، ورفض والدي طلب نبيل بالزواج منّي. بكيتُ.. انتحبتُ.. صرختُ، وطلبتُ الرحمة.. لكنّ عائلة بأكملها اشتركت في الاغتيال، وفي اختيار الزوج المناسب”[39].
  • “أنا الأنثى المضحية كما كان يردّد أبي: “المطيعة تضحّي من أجل أولادها”[40].

أمّا أمثلة المرأة المتمرّدة في الرواية فهي أكثر عددًا، ومنها:

  • “ودّعت هزار كلّ الوصايا الّتي فرضها رجل الغاب عليها.. تمرّدت وأباحت لحنجرتها التي فقدتها أن تستبسل وتصرخ في لياليها المظلمة”[41].
  • “عذرًا أبي.. رميت وصيّتك حينما هبّت الريح، ولم نعد نمشي على ضفاف الريح كما كنّا بأحلامنا…، لم يعد جسدي ملك أحد ولا لي؛ إنّه مُلك النشوة…، جسدي الآن مشرّعة أبواب قصوره ومعابده لأنفاس الحياة”[42].
  • “أحسدك يا دلال، بل أغبطك يا الشجاعة المتمرّدة. كلّما شدّت أمّي بضفيرتك، كلّما صرخت في وجهها: أنا الإنسانة ولست النعجة، فالنعاج تنام بصمت ودلال لم تولَد للصمت”[43].
  • “جرحي ينزف دون توقّف…، ولكنّي سأضرب وصيّتك يا أمّي عرض الحائط”[44].
  • “نعم أنا حرمة.. أنثى.. أرملة وفنّانة، ولستُ أخطئ بهذا، ولكنّي لست ككلّ الحريم، ولست ككلّ النساء! وأقولها بصوت عال: “وداعًا يا حريم”![45].

ولا بدّ أنّ ما تقدّمه الكاتبتان من نماذج التمرد، بشكل خاصّ، هو زعزعة للمقبول والمتعارف عليه في المجتمع الشرقي العربي، وهو إشهار سلاح الكتابة في وجه ظلم المجتمع الذكوري، وتأتي نماذج المرأة المسالمة في المقابل صورة ثابتة نمطيّة تعرض حال الكثيرات ممّن لا يمتلكن الجرأة على قول “لا”، وربّما تأتي الكاتبة بهذه الصورة النمطية المسالمة لإظهار بشاعتها ودعوة النساء للحراك والسعي للتغيير.

الأساليب الفنية واللغوية في الروايتين محاور الزعزعة:

للنص النسوي أساليب تجعلنا في غنى عن كشف جنس الكاتب قبل القراءة، إذ للمرأة حسّ يدلنا عليها ولغةٌ نكاد لا نخطئها. ومن أهمّ ما يميّز النص النسوي:

التأرجح ما بين الخصوصية النسوية والأوضاع العامة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. وكل هذا انعكس على كتابات المرأة، ونمثّل لذلك من خلال الروايتين، كما نتتبع التأرجح ما بين الهم الذاتي والهم السياسي والاجتماعي. تعرض بربارة في روايتها قصة حب قاهرة، إلا أنّها محكومة بالظروف السياسية والاجتماعية وغير مفصولة عنها، فمجرّد مرور الحبيبين من إحدى القرى المهجّرة بالسيارة يُشعل لهيب الحرب في قلب إبراهيم، ويغيّر لهجته مع حبيبته سارة؛ مما يثير العجب في نفسها.

يقول إبراهيم: “هذه (عمقة) وتلك (كويكات)، متأسّف هذه (بيت هعيمق) وتلك…[46] إنها القرى العربية التي هوِّدتْ!”، فتسأل سارة: “وأين سكّانها العرب؟. تسألينني؟ (يجيب إبراهيم) اسألي حكوماتك المتعاقبة، اسألي المخيّمات والشتات، اسألي والدي، لا تنسَي سارة أن تسألي والدي!” [47].

تؤكّد هذه الحادثة وغيرها على أن إبراهيم وسارة ليسا مجرّد ذكر وأنثى يحاولان بناء عائلة والمحافظة على استمراريتهما؛ بل هما يمثّلان شعبين يُحاول كلّ منهما التعايش مع الآخر والبقاء. ويرى محمد صفّوري أن هذا الحدث تلميح إلى حقيقة دور السلطة في بثّ الخلافات بين سكّان البلاد على صعيد طائفي بعد أن كانوا يعيشون معًا حياة مشتركة متآلفين لا يفرّقهم عرق أو دين[48].

وبهذا نرى أن الرواية تتخذ من الحب مسرحًا لطرح قضايا سياسية لم نعتد على سماعها من المرأة. وفي رواية “رائحة الجسد العاري”، توازي الكاتبة بين الشخصيات وأطراف الصراع السياسي، فتعتبر أن عشيقها (نبيل) هو الوطن، بيـنما والدها وأخوها وزوجها كريم هم المحتل، الخائن، المستغل الذي ينتهك حرمة الوطن؛ أمّا هزار فتمثّل في هذه الدوّامة الأرض المتنازع عليها، المسلوبة: “أرضنا مُهانة يا أبي، كالعرض الذي بِعْته في ليلة لأصحاب الياقات.. للنجوم اللامعة.. لمن اغتصبوا الأرض جهارًا، واستأصلونا من جذورنا، ومن ثمّ رمونا في دوّامة الدفاع عن الوطن. يا أبي.. أنت كنتَ الشريك المساهم في جريمة ضياع الأرض وسلب الوطن! أيّ وطن هذا الذي تحميه الآن وأين ذاك الوطن؟”[49]. وفي موضع سابق تخاطب الأب قائلة: “كيف يا أبي تبيع أرضك وتبيع عرضك؟ كيف تبيعني لمن باع شرف نفسه؟”[50].

وفي هذا الصدد أشير إلى ما يتميّز به الأدب النسويّ من خوض الكتابة في المجالات السياسيّة بشكل غير نمطيّ؛ فالكاتبة لا تتردّد في طرق هذا الباب والمجاهرة برأيها وفكرها وتحليلها لمجريات الأحداث وتفاصيل الأمور.

السرد في الروايتينمحاور بين الزعزعة والثبات:

يمكننا أن نشير إلى ميزات نسوية عدّة مشتركة بين الروايتين، مثل:

اللغة الشعرية: استخدمت المرأة في كتابتها الألفاظ السهلة، والتعابير الرقيقة الشاعرية، مع الحرص على البراعة، وحسن الأسلوب، والانفعال الشعوري. هذه المرأة متميّزة بحسّها وقولها وشعورها وشعرها. بنمطها الوَمضي بما يحويه من محسنات وصور شعرية ورموز! وفي قراءتنا للروايتين نلاحظ أن الكاتبتين تلجآن إلى السرد الشعري الذي يلائم رقّة المرأة، وعذوبة روحها، وفتنة دورها في الحياة. وتتجلّى هيمنة السرد الشعري عند راوية بربارة في كون لغتها، كما يقول محمد صفّوري “راقية منحوتة برويّة ودراية…، تسعى إلى تطعيمها بظواهر بلاغية ولغوية عديدة تؤكّد سعة أفقها واطّلاعها الغزير، متأثّرة بالدراسات الأكاديمية التي أنجزتها”[51]. ويمثّل لذلك بقول الراوية على طريقة الكلام المسجوع: “وسكتنا عن الكلام المباح، وتركنا للغة العيون أن ترتاح”[52]، أو “صمَمْتَ أذنكَ عن كلّ بوح، وسددت شمّك عن كلّ فوح”[53]؛ مما يبرز دور الجناس والسجع وأثره في سردها. كما تلجأ بربارة إلى أسلوب التناص إذ تعيدنا إلى نصوص أدبية للشاعرين نزار قبّاني ومحمود درويش؛ كقولها على لسان إبراهيم وهو يقول: “أنا إبراهيم المتعَبُ بعروبتي”[54]. وفي هذا تذكير بقصيدة تونس وفيها يقول نزار: “أنا يا صديقتي متعبٌ بعروبتي”، كما يتجلّى التناص في وصف إبراهيم لسارة بأنّها بلقيسه. وإلى جانب هذا نجد التناص الديني من التوراة (قصة هاجر وسارة وإبراهيم)، ومن الإنجيل المقدس (إذ تقتبس آيات تعبّر عن عمق الحب وقدسيّة الرباط)، ومن القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربي[55].

ولا تبتعد هيام قبلان عن اللغة الشعرية المشبعة بالأساليب الفنية، كما تدمج ما بين السرد الشعري ومقاطع من الشعر التي يتفوّه بها الحبيبان هزار ونبيل عند لقائهما؛ إذ يستقبلها بقصائده التي تعبّر عن الشوق، وتردّ هي بما يعبر عن شحنات القلب. كما نرى أن لغتها مشبّعة بالتناص والإشارات الأدبية والثقافية والدينية التي يصعب حصرها هنا[56].

لغة البوح المونولوج الداخلي: يمكننا أن نعتبر الأدب النسوي أدب بوح بمكنونات النفس، يُعرّج على السرد أكثر من الحوار، وعلى الحوار الذاتي كتقنيّة لتفريغ شحنات النفس، وتأرجحها ما بين الاستسلام والتمرّد، ما بين الموجود والمنشود، ما بين الواقع والخيال، وما بين الذات والآخر. فقد خاضت المرأة المبدعة في الكتابة عن الذات/الداخل/الأنثويّ مقابل الآخر/الخارج/الرجل.

وتأتي الروايتان لتقدّما فيضًا من المونولوجات التي تعتمد على البوح وطرح الأسئلة حتى تكاد لا تخلو صفحة من صفحات الروايتين من هذا الأسلوب. تحاور سارة، في رواية “على شواطئ الترحال”، نفسها من خلال الكتابة، تطرح أسئلتها حول الحب والحرب والحياة، حول صدق مشاعرها ومشاعر إبراهيم وصدق الشخصيات حولها فلا تترك كبيرة وصغيرة إلا وتتساءل عنها مما يجعل الرواية أقرب مما يُعرف بأدب السؤال[57].

وتكثر الأسئلة والمونولوجات في رواية “رائحة الزمن العاري”؛ إذ تسأل الراوية عن كل ما يدور حولها من أحداث، عن الحبيب الغائب، عودته، زوجته، صدق حبه، كما تتساءل عن ردود الفعل المتوقعة للفئة المعادية المتمثلة بالأخ. كما تلجأ إلى محاورة الذات تعبيرًا عن دوّامة البحث عن ذاتها؛ فهل هي المسالمة الخاضعة للأعراف أم لأهواء القلب. وعلى مدار الرواية تأتي الحوارات الأحادية لتجسد العلاقة بين الوطن وأهله، بين هزار ونبيل، وهزار ونزار، وما بين الهم الذاتي والهم الجمعي. وتتجلّى زعزعة الثوابت في المونولوجات المهيمنة على الروايتين؛ حيث تمنح الراوية نفسها مطلق الحرية في التعبير، القول، الرفض، الصراخ، الاعتراف وما إلى ذلك.

خاتمة البحث

في إطار بحثنا لتأرجح الأدب النسوي ما بين الزعزعة والثبات من خلال روايتين من الأدب الفلسطيني في القرن الحادي والعشرين نقول إنّه ثابت في كونه أدبًا، خاضعًا لبيئة وثقافة ومجتمع وظروفٍ حياتيّة وسياسيّة، ولكنّه منتهك بطروحاته، بجرأته وأساليبه؛ فهو يزعزع النسيج المضمونيّ للرواية إذ تسمح المرأة لنفسها بخرق مواضيع الجنس والدين والسياسة، كما يزعزع المبنى النمطي للشخصيات إذ يهمّش الذكر على حساب تبئير الأنثى ودعوتها إلى أخذ حقّها وحيّزها، وبالتالي يزعزع التسلسل الزمني المنطقي للأحداث؛ إذ يقوم على سرد لاهث، متقطع كثير الانتقال ما بين الحاضر والماضي. وإلى جانب هذا فإن الأدب النسوي يزعزع المبنى اللغوي للرواية إذ يعتمد اللغة الشعرية المشبعة بالمحسّنات البلاغية، والتناص والمونولوج والاستفهام؛ مما يجعله أدبًا له طابعه الخاصّ ومعاييره الخاصّة.

* قسم تدريس اللغات، كلية أورانيم للتربية، إسرائيل.

[1] راوية بربارة من مواليد مدينة النّاصرة، تسكن وعائلتها في قرية أبو سنان الجليليّة، حاصلة على اللقب الجامعي الأول، الثاني، والثالث من جامعة حيفا. تعمل مفتّشة مركزة للغة العربيّة ومحاضرة في كليّة أورانيم. ومن أعمالها الأدبية؛ شقائق الأسيل- مجموعة قصصيّة (2007م)، ومن مشيئة جسد- مجموعة قصصيّة (2008م)، وخطيئة النرجس- مجموعة قصصيّة (2010م)، وجمرة لا تخبو- قصّة للفتيان (2009م)، وصهيل النّاي- قصّة للفتيان (2009م)، ومع التّيّار- قصّة للأطفال (2009م)، والشعر الفاطمي بين المعاني الدنيويّة والعقائدية (2013م). ينظر: بربارة. على شواطئ الترحال. حيفا: مكتبة كلّ شيء، 2015م، الغلاف الداخلي الأمامي.

[2] المصدر نفسه، ص:3.

[3] المصدر نفسه، ص:3.

[4] المصدر نفسه، ص:7.

[5] الموجي، سحر. “الكتابة على الرقّ الممسوح: قراءة في روايتي عباد الشمس والخباء”، في: الرواية العربية النسائية: الملتقى الثالث للمبدعات العربيات. تونس: دار كتابات ومهرجان سوسة الدولي، ص:163-172.

[6] بربارة، على شواطئ الترحال. ص:175.

[7] انتفاضة الحجارة هي الانتفاضة الفلسطينية الأولى. سمّيت كذلك لأن الحجارة كانت الأداة الرئيسة فيها، وعرف الأطفال الذين شاركوا فيها بأطفال الحجارة. يُنظر: صفّوري. “على شواطئ الترحال والمدينة الفاضلة”، ص:5.

[8] المقصود هو اجتياح العراق للكويت في الثاني من أغسطس عام 1990م، واحتلال كلّ الأراضي الكويتية خلال يومين بحجّة أنّها أراضٍ عراقية. ينظر: بربارة. على شواطئ الترحال. ص:62.

[9] أنهت دراستها الابتدائيّة في القرية، ثمّ أكملت تعليمها الثانوي في الناصرة. حاصلة على اللقب الأول في موضوع التاريخ العامّ من جامعة حيفا، واللقب الأوّل في اللغة العربيّة وآدابها وموضوع التربية الخاصّة من الكليّة العربية في حيفا. ولها العديد من الأعمال الأدبيّة؛ آمال على الدروب (1975م)، وهمسات صارخة (1981م)، ووجوه وسفر (1992م)، وانزع قيدك واتبعني (2002م)، وبين أصابع البحر-نصوص أدبيّة وفلسفيّة (1996م)، وطفل خارج من معطفه- قصّة قصيرة (1998م)، ولا أرى غير ظلّي (2008م). إنها شغلت مناصب عديدة في الصحافة والإذاعة، وهي فعّالة وناشطة في عدة جمعيّات.

[10] المصدر نفسه، ص:62.

[11] المصدر نفسه، ص:77.

[12] قبلان. رائحة الزمن العاري. ص:29.

[13] المصدر نفسه، ص:37.

[14] المصدر نفسه، ص:77.

[15] المصدر نفسه، ص:91.

[16] المصدر نفسه، ص:169.

[17] المصدر نفسه، ص:169.

[18] المصدر نفسه، ص:181.

[19] ينظر: أنماط الرجل في الكتابة النسويّة في: صفّوري. شهرزاد تستردّ صوتها. ص:26-29.

[20] بربارة. على شواطئ الترحال. ص:21.

[21] قبلان. رائحة الزمن العاري. ص:28.

[22] المصدر نفسه، ص:101.

[23] حول أنماط صورة المرأة في الأدب النسوي، يُنظر في: صفوري. شهرزاد تستردّ صوتها. ص:200-201.

[24] بربارة. على شواطئ الترحال. ص:24.

[25] المصدر نفسه، ص:78.

[26] المصدر نفسه، ص:91.

[27] المصدر نفسه، ص:106.

[28] المصدر نفسه، ص:130.

[29] المصدر نفسه، ص:131.

[30] المصدر نفسه، ص:131.

[31] المصدر نفسه، ص:28.

[32] المصدر نفسه، ص:34.

[33] المصدر نفسه، ص:52.

[34] المصدر نفسه، ص:59.

[35] المصدر نفسه، ص:96.

[36] المصدر نفسه، ص:98.

[37] المصدر نفسه، ص:157.

[38] قبلان. رائحة الزمن العاري. ص:13.

[39] المصدر نفسه، ص:17.

[40] المصدر نفسه، ص:52.

[41] المصدر نفسه، ص:25.

[42] المصدر نفسه، ص:26.

[43] المصدر نفسه، ص:29.

[44] المصدر نفسه، ص:68.

[45] المصدر نفسه، ص:91.

[46] أقام اليهود في الشهر الأوّل من عام 1949م مستعمرتهم (بيت هعيمق) على أراضي قرية الكويكات التي دمّروها وشتّتوا أبناءها، وكان فيها حتى تاريخ 31/ 12/ 1949م ثلاثة وتسعون يهوديًّا، ثمّ وصل عددهم عام 1961م إلى 154 يهوديًّا. من القرى القريبة منها؛ أبو سنان، خربة جدّين، عمقا، الغابسيّة. ينظر: الدبّاغ، مصطفى مراد.  بلادنا فلسطين، ج11. بيروت: دار الطليعة، 1988م، ص:357-360.

[47] بربارة. على شواطئ الترحال. ص:90.

[48] صفّوري، محمّد. “على شواطئ الترحال والمدينة الفاضلة”. شرفات سرديّة مقالات في السرد الفلسطيني الحديث مذيّلة بدراسات أكاديميّة، كفرمندا: دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر، 2021م، ص:4. 

[49] قبلان. رائحة الزمن العاري. ص:27-28.

[50] المصدر نفسه، ص:17-18.

[51] صفّوري، محمّد. “كيف صارت اللغة بطلا-قراءة في مجموعة من مشيئة جسد لراوية بربارة”. مدارات، 2010، ع3، ص:277-290.

[52] بربارة. على شواطئ الترحال. ص:23.

[53] المصدر نفسه، ص:167.

[54] المصدر نفسه، ص:170.

[55] للتوسع في النماذج اللغوية الشعرية في رواية “على شواطئ الترحال”، وأساليب السجع والجناس والتناص، يُنظر: صفّوري. “على شواطئ الترحال والمدينة الفاضلة”، ص:11-16.

[56] يمكن قراءة المقاطع الشعرية في الرواية في: قبلان. رائحة الزمن العاري. ص:101-102، وأيضًا: 112.

[57] يُمكن التوسع في القراءة عن أدب السؤال في:

 Abu Jaber-Baransi, Rima. “Employment of the Question as a Transition Mechanism from the Existing to the Desired in Rawiya Jarjoura Birbara’s Collection of Short Stories”. IJLLS journal, 2021, v. 3, n. 2, pp.188-204.

المصادر والمراجع

  • بربارة، راوية. على شواطئ الترحال. حيفا: مكتبة كل شيء، 2015م.
  • الدباغ، مصطفى. بلادنا فلسطين، ج 11. بيروت: دار الطليعة، 1988م.
  • صفّوري، محمّد. “على شواطئ الترحال والمدينة الفاضلة”. شرفات سرديّةمقالات في السرد الفلسطيني الحديث مذيّلة بدراسات أكاديمية، كفرمندا: دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر، 2021م.
  • صفّوري، محمّد. “كيف صارت اللغة بطلا؟!! قراءة في مجموعة من مشيئة جسد لراوية بربارة”. مدارات، 2010م، ع3.
  • صفّوري، محمّد. شهرزاد تستردّ صوتها. الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2017م.
  • قبلان، هيام. رائحة الزمن العاري، ط2. القاهرة: دار التلاقي للكتاب، 2010م.
  • الموجي، سمر. “الكتابة على الرقّ الممسوح: قراءة في روايتي “عبّاد الشمس” و”الخباء”. الرواية العربية النسائية: الملتقى الثالث للمبدعات العربيات. تونس: دار كتابات ومهرجان سوسة الدولي، 1999م.

المراجع الأجنبية

  • Abu Jaber-Baransi, Rima. “Employment of the Question as a Transition Mechanism from the Existing to the Desired in Rawiya Jarjoura Birbara’s Collection of Short Stories”. IJLLS journal, 2021, v. 3, n. 2.
    تحميل المقالة