حوار مع الناقدة العراقية الدكتورة نادية هناوي

لتحميل الحوار انقر هنا

 

 

حاورها: محمد عمران*

الأستاذة الدكتورة نادية هناوي اسم يتألق في المشهد النقدي العراقي ويزداد ظهورًا وانتشارًا باتساع الممارسات النقدية وثرائها وتنوعها، وقد تجاوزت الحدود المحلية إلى الساحة النقدية العربية، ولُقبت بـ(راهبة النقد العربي) لاجتهادها في كتاباتها ولأن لها خطها النقدي الواضح والمميز والمنفتح الذي يوازن بين الأكاديمي وغير الأكاديمي وينتصر للإنسان والجمال.

لقد حصلت الدكتورة نادية هناوي على لقب الأستاذية عام 2012م. وشاركت في أكثر من خمسين مؤتمرًا علميًا في الجامعات داخل العراق وخارجه. كما نشرت أبحاثها في المجلات المحلية والدولية، وهي عضو في اللجنة العلمية لمجلة التواصل الأدبي، جامعة باجي مختار، بالجزائر. وقد أصدرت ثمانية عشر كتابا في النقد، أهمها “الجسدنة بين المحو والخط الذكورية والأنثوية” و”السرد القابض على التاريخ”  و”موسوعة السرد العربي معاينات نقدية ومراجعات تاريخية” و”نحو نظرية عابرة للأجناس” و”السرد النسائي القصير: مقاربة نقدية فى مجموعتين قصصيتين” و”تمظهرات النقد الثقافي وتمفصلاته قراءات تطبيقية” و”تعدد القراءات الشعرية في النقد القديم حتى نهاية القرن السابع للهجرة”.

*****

س. في كتاباتك النقدية يتجلى اهتمامك بالمناهج والمفاهيم الغربية الحديثة والاستفادة منها في معاينة الإبداع الأدبي مع تنوع هذه المناهج والمفاهيم واختلافاتها وكيفية الاستفادة منها

ج. ليس للناقد أن يمارس عمله إلا بعد أن يكون قد هضم منهجيات التحليل وعرف مدارسه ووقف على مفاهيم النقد ومصطلحاته وأدرك طبيعة المسالك التي يحويها المنهج داخليًا كان أم خارجيًا، سياقيًا أم نصيًا مع ضرورة المواكبة للتغيرات المنهجية التي تطرأ على عالم النقد بين الفينة والأخرى وأن لا يجازف في الشروع بتطبيق منهج لم يكن قد استوعبه أو عرف متاهاته؛ وإلا فإن الخلط واللبس سيعتري عمله وسيفضي به إلى ما نسميه بالعماء النقدي بتعبير بول دي مان.

 وقد يلقي به في منطقة سمتها الناقدة ليندا هتشيون بالتوريط النقدي. ولكي يكون الناقد في منأى عن الخلط المنهجي لا بد له من أن ينتقي المنهج الذي يلائم مادته المقروءة على أساس ما يسميه لوسيان غولدمان البنية الذهنية فالمنهج أداة وليس غاية ولا يمكن أن تكون معكوسة أي أن يصبح المنهج هو الغاية، الأمر الذي يدفع بالناقد إلى أن يقولب المادة المقروءة بحسب متطلبات هذا المنهج وهذا ما سيضر بالنقد ويجعل التحليل جزافيًا خارجًا عن مقتضيات النظر النقدي الواعي والعميق. وبعض النصوص قد لا تتكشف جمالياتها الإبداعية وإمكانيات كاتبها إلا بمزاوجة منهجين وربما أكثر وليس في ذلك مثلبة ما دام المنهج أداة من مجموعة أدوات يستعين بها الناقد في سبيل ممارسة عمله باحتراف وحذاقة.. وشخصيا وجدت في النقد الثقافي معطيات أداتية مهمة تلبي انفتاحية الناقد في النظر ورغبته في التمحيص. 

س. أنت من أوائل النقاد العراقيين الذين أولوا اهتماما للنقد الثقافي، ولك أكثر من كتاب في هذا المجال، وثمة سجال في الساحة النقدية بين فريقين أحدهما يتهم هذا النقد بإقصاء النص وفريق آخر يتخندق عند النقد الثقافي، فما رأيك في هذه القضية؟

ج. الحياة تتغير ومقتضيات التجدد والمداومة تتطلب من النقد أن يكون في حالة تحرك مستمر لا يعرف الثبات ولطالما أفادتنا المناهج السياقية في التقاط إبداعية النصوص وما يحيط بكاتبها من هول التحديات الواقعية وبما يمكننا من فهم مسارات الشعور السايكولوجي الذي تمخضت عنه والأبعاد الفكرية أو الأيديولوجية التي تم إسقاطها على تلك النصوص.

أما المناهج النصية فضرورية للتقليل من النزعة السياقية أو إمحائها ومحاولة تلمس جماليات النصوص بالغور في بنائية النص وتحسس المواطن الشكلية التي انطوت فيه عازلة النص عن كاتبه مهملة خصوصيات الواقع ومخاضاته.

ولقد تبين فيما بعد أنه لا المناهج السياقية تخدم نقد النص ولا المناهج النصية تحقق له ذلك، لذلك أخذت دعوات الانفتاح بالنص على مختلف التوجهات المعرفية عبر التركيز على القارئ وليس المؤلف أو النص وهذا ما أسهم في بزوغ منهجيات انضوت في خانة ما بعد النصية ومنها السيميائية والتفكيكية والدراسات الثقافية ودراسات التابع والنسوية وما بعد الاستعمارية، ولقد اقترب النقد بسبب هذا النزوع من  العملية الإبداعية برمتها أعني عناصرها الستة التي حددتها خطاطة جاكبسون وهي القناة والسياق والنص والقارئ والمؤلف والسنن، مفيدًا من العلوم الإنسانية الأخرى ولا سيما اللغة والدين والاجتماع وعلم النفس والإنثربولوجيا والإثنولوجيا والميثولوجيا وغيرها. وما عاد القول بأولوية منهجيات بعينها على غيرها منطقيًا ولا مقبولاً أصلاً لأن المسألة رهن بالمادة المقروءة ومديات إبداعها فقد تتطلب منهجًا سياقيًا واحدًا وقد تقتضي أكثر من منهج سياقي وربما تتطلب منهجًا نصيًا وآخر سياقيًا وثالثًا ما بعد نصي وهكذا لا تغدو العملية النقدية علما بل أكثر من ذلك إنها رؤية فلسفية لا تتجلى للناقد إلا ساعة قراءاته للنصوص وتفقده لأبعاد شكلها وموضوعها.

ومن هنا يغدو النقد الثقافي ميدانا رحبا لكشف جماليات النصوص من خلال الاشتغال على إضمارية الأنساق وتأويلاتها أو بالتركيز على تفكيك التمركزات ومركزة المقصيات بحثا عن قضايا مسكوت عنها أو مستورة ضمن رؤية انفتاحية مكاشفاتية وبمحمولات تخالف السائد والمعتاد.

س. كيف أفادتك الأكاديمية في ممارساتك النقدية؟

ج. لأكاديمية البحث والتقصي أثره الكبير في بلورة رؤاي النقدية وكان الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر قد أشار إلى أن لتشكيل الذهنية النقدية عاملين أو شرطين هما: الموهبة الفطرية والاكتساب المعرفي، وهكذا لا يغدو الاتصاف بالنقد أمرًا هينًا لأنه يتطلب اكتسابًا ثقافيًا واسعًا يدرب الذهن ويوسع الإفهام ويربي الذائقة ويقوي الملاحظة ويسرع البديهة وبما يسهم حتما وبدا في تطوير الأساليب وتعزيز التعابير بالمداومة غير المنقطعة على القراءة والبحث والدرس سعيا نحو التحليل والتفسير والتقويم والوصف والاستبيان..إلخ.

وإننا إذ نشهد اليوم كيف إن آفاق النقد الأدبي قد ضاقت بالتحديدات العلمية والتخصصية الدقيقة والصارمة فإن الاكتساب غدا هو المؤهل الناجع الذي يدعمه الاستعداد الداخلي بالدربة والمران كما يضفي عليه النزوع الذاتي حدسا فائقا وتذوقا راقيا وبما يصنع ناقدا بالمواصفات المطلوبة وبالأطر المنصوص عليها في أدبيات البحث وسياقات الدرس النقدي المعاصر..  

س. لك شهرة وخبرة واسعة في المشهد النقدي العراقي والعربي، فأين تضعين مناهج النقد العراقي الراهنة بين عامة النقد العربي؟

ج. أنا أؤمن بالجمال وأعلم أن الصدق هو مفتاح التميز والإبداع. وهو ما لا يتحصل إلا بعد جهد، وعلى الناقد استيعاب المسؤولية الملقاة على عاتقه ليؤدي دوره في ترصين الواقع الأدبي والإبداعي ناظرا إلى الأمام بثبات منشدا للأمل بعالم جديد تزول عنه صور الانكسار والإحباط والمصادرة، وتحل محلها صور مشرعة بالتفاؤل والإيجاب على الدوام. ولا أغالي إذا قلت إن النقدية العراقية تقف في المقدمة عربيا، بالرغم من أن التحجيم الثقافي ما زال يسد كثيرا من منافذ التواصل فإننا مع ذلك نحاول التواصل عربيا عبر المجلات والصحف في محاولة للإسهام في إنعاش الواقع النقدي وتوكيد التواصل بين النقاد العرب.

س. فزت بجائزة الجامعة المستنصرية للعلوم والآداب عام 2018م، ماذا يعني لك الفوز؟

ج. الجائزة محطة تضاف إلى محطات مررت بها عبر مسيرتي الدراسية والبحثية بدءًا بالمراتب الأولى التي كنت أنالها في الصفوف الأولية والثانوية ومرورا بفوزي في المركز الأول على جامعة بغداد في مرحلة البكالوريوس والمرتبة الأولى على دفعتي في دراستي للماجستير والدكتوراه ووصولاً إلى نيلي جائزة النقد الأدبي في مسابقة دار الشؤون القافية العامة الدورة الخامسة، وزارة الثقافة عام 2012م ثم تكريمي بدرع الجامعة المستنصرية كأفضل تدريسية لعام 2013م وبعدها نيل جائزة نازك الملائكة في النقد النسوي عام 2014م.

ولا شك أن فوزي بالجائزة هو دليل الأكاديمية والارتقاء على سلم المعرفة الإنسانية، وهو أيضا حصاد لمشروع بحثي عزمت على التخطيط له بجهد وكد وصبر ودأب وثبات، حتى كان الفوز إعلانا يتوج سنوات الاجتهاد والإخلاص والبحث، وتفوقا تتضح معه أبعاد المواكبة الجادة والمخلصة أبحاثا ومشاركات وملتقيات ومؤتمرات ومهرجانات ومؤلفات ونشاطات جمعت الحلو بالمر والوكد باليسر لتكون الجائزة هي الصورة التي استوعبت ما تقدم بفضل الله وعونه بطريقة مشرفة أفتخر بها الافتخار كله.

س. تم اختيارك عضوا في المجلس الاستشاري في جامعة إسطنبول..حدثيني عن ذلك؟

ج. في عام 2016م اخترتُ عضوا في المجلس الاستشاري لمركز الفارابي للدراسات الأورواسيوية التابع لجامعة إسطنبول في تركيا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتواصل بالمشورة العلمية التي تحتاجها فعاليات المركز وندواته كما أمده ببعض الأفكار التي تساهم في تطوير عمله والارتقاء به وأقدم بشكل دوري تقييمي لعمل المركز كندوات ومؤتمرات يشارك فيها باحثون متخصصون وشخصيات فكرية معروفة تقدم محاضرات في قضايا مختلفة اجتماعية وفلسفية وسياسية ولغوية وإنثروبولوجية وإعلامية. ومؤخرًا أقام المركز مؤتمرين موسعين: الأول عن الرواية الفلسطينية استضاف فيها باحثين معروفين في النقد الروائي من فلسطين ومصر والعراق، والثاني عن أدب الهجرة في العراق وسوريا وفلسطين.

س. ما هي المعوقات والتحديات للنقد العراقي؟

ج.  عربيا أجد أن أهم المعوقات صعوبة النشر للبحوث الأكاديمية والترويج للدراسات النقدية فطبيعة بعض المجلات ليست ثقافية بحتة بل هي منوعة أقرب إلى الفنية والاجتماعية منها إلى الثقافة والفكر ولذلك يضطر الناقد مثلا إلى تقليص مادته النقدية إلى ألف وخمسمئة كلمة أو ألفي كلمة كي يتناسب نقده مع مساحة النشر المتاحة في مثل هذه المجلات أما المجلات النقدية والأدبية المتخصصة فهي قليلة إن لم نقل نادرة وعادة ما تكون فصلية أو نصف سنوية.

أما عراقيا فإن ظاهرة التقشف في النفقات قد انعكست في أعمق صورها على المستوى الثقافي فتقلص حجم المجلات وموادها وقللت صفحاتها وصارت الشهرية منها فصلية والفصلية نصف سنوية. أما الواقع الإبداعي فيظل مستمرا بالعطاء سردا وشعرا مما يقتضي نقدا يواكبه ويؤدي مسؤوليته تجاهه في التشخيص والتوصيف والتدليل على المواهب والإمكانيات لكن التحدي يظل ماديا لا معنويا.

س. هل ترين النقد ممارسة فنية محضة أم أن له دورا اجتماعيا أو ثقافيا أو…..؟

ج. إن لدي قناعة لا تتزحزح مفادها أن النقد عبارة عن فاعلية فكرية بغيتها التغيير المجتمعي والإصلاح الفكري وعدم الاستكانة للواقع مع تلازمية القلق بالدأب وهذا ما يجعل للناقد دورا فاعلا في التوجيه الإنساني وإشاعة الوعي الجمالي. وأن على الناقد أن يطور نفسه باستمرار فلا يرتكن إلى التنظير وحده ولا يهتم بالتطبيق فقط بل عليه أن يوازن وهو ما سيفتح له آفاق الاجتراح ويمكنه من الوقوف على نظريات يبتكرها بنفسه وهو ما حمله كتابي الذي صدر مؤخرًا في الأردن وعنوانه (نحو نظرية عابرة للأجناس الأدبية) ومن المصطلحات التي اجترحتها في كتابي (السرد القابض على التاريخ) مصطلح رواية التاريخ الذي يخالف مصطلح الرواية التاريخية الكلاسيكية التي تتناول التاريخ كما هو بوقائعه ووثائقه. وقد أشاد به كثير من النقاد بالكتاب لعدم اقتصاره على الرواية والسرديات العراقية والعربية بل تجاوزها إلى الرواية الفارسية والتركية والأوروبية فاتحا بذلك أفق النقد العراقي على العالمي.

س. كلمة أخيرة تودين إضافتها؟

ج. أود أن أوجه تحية لكل مخلص في ميدان العلم يسعى إلى تطوير المعرفة بصبر ودأب مشتغلا بتواضع ومضيفا للثقافة تميزا واعتبارا، مؤديا دوره الإنساني والعلمي، وأشيد هنا بدور مركز الدراسات الإفريقية في جامعة جواهر لال نهرو لما يقدمه في سبيل اللغة العربية وتعليمها ونشر آدابها وعلومها من جهود طيبة وحثيثة يستحق عليها الشكر والثناء، راجية له كل التقدم والتوفيق.

* باحث  هندي.