الانزياح التركيبي في شعر محمّد علي شمس الدين

خديجة حيدورة ود. بشير فرج*

ملخص البحث

إن الشاعر محمد علي شمس الدين من أبرز شعراء الحداثة الذين مزجوا في قصائدهم بين الواقع والغموض، فينزع نفسه عن المألوف في تشكيل اللغة، وبناء النصّ، وبالتالي يبتكر معنًى مستحدثًا بحسب نظرته هو، ممّا يثير فكر المتلقّي، ويشغل عقله في المعنى المراد ممّا نصّ عليه شعر شمس الدين. وشعره شعر رموز وأقنعة وأسئلة فلسفيّة ووجوديّة حول الحبّ والموت ومعنى العناصر والدين والأرض وهذا ما برز في شعره بأسلوب خاص يصعب تقليده.

ودراسة هذه الظاهرة مرتبطة بدراسة ظواهر تزيد من عمق التجربة مثيل الانزياح التركيبي في النص الشعري.  

كلمات مفتاحية: الحذف، الاعتراض، الالتفات، الانزياح، محمّد علي.

مقدمة

إن الشاعر محمد علي شمس الدين من أبرز شعراء الحداثة الذين مزجوا في قصائدهم بين الواقع والغموض، فنزع نفسه عن المألوف في تشكيل اللغة، وبناء النص، وبالتالي ابتكر معنًى مستحدثًا بحسب نظرته هو، ما يثير فكر المتلقي، ويشغل عقله في المعنى المراد في نصّ عليه شعر شمس الدين. فشعره شعر رموز وأقنعة وأسئلة فلسفيّة ووجوديّة حول الحبّ والموت. وفي هذا  قيل عن شعره بأنّه: “مائدة سرمدية ليس المسكوب في قصاعها شعرًا عاديًّا، إنما هو من لقاح المجد والعنفوان”[1].

وإنّه بين احتفاظه بما هو أصيل، وصبّه في قالب الحداثة والثقافة، تميّز بالفرادة والأصالة فكان شعره صافيًا، حيث حملت كتاباته طاقة من الإثارة، لتحديد المعنى، ودلالته، عبر مفهوم الانزياح وهو “انحراف الكلام عن نسقه المألوف[2]، وحيث إنّ “الخطاب الأدبيّ نظام خارج عن المألوف، وهذا النظام اللغوي مقصود في إنشائه، بمعنى أنّه شكّل بدافع إراديّ، وهو خاضع لمبدأ الاختيار؛ أي اختيار الكلمات المناسبة للمقام، وتركيبها في نسق لغويّ لتؤدّي وظائفها الفنيّة والجماليّة”[3].

كما أن بناء الدراسة قائم على إشكاليّة محدّدة وهي:

-كيف تبدّت الشعريّة عند محمّد علي شمس الدين من خلال أنواع الانزياحات المتعدّدة الدلالي والإسنادي والتركيبي والانطباعي؟

ونتوقّع من خلال الدراسة أن نثبت أنّ الشاعر:

-قد استعان بالرموز الطبيعيّة والتراثيّة والدينيّة ليجعلها قناعًا لأفكاره وما يؤمن به، فيتنقّل بها بين الأسطر والكلمات لتحمل مدلولات شعريّة يصعب على بسيط الفهم أن يفقه معانيها.

وبناء على ما تقدّم سيدرس البحث “شعريّة الانزياح” في شعر محمّد علي شمس الدين من خلال الملامح العامّة للشعرية الحديثة. وفيه يشار إلى أنواع الانزياحات في شعره؛ كالانزياح الدلالي، والانزياح الإسنادي، والانزياح التركيبي.

الانزياح الدلالي عند محمد علي شمس الدين

تتمايز الخطابات فيما بينها بأسلوب استخدامها للغة، فتكون اللغة علميّة كلّما كان صانعها ملتزمًا بالمعاني المعجميّة للكلمة، وهو ينتمي إلى ما أسماه رولان بارت بالدرجة الصفر للكتابة[4]. وفي حال تحطّمت قوانين اللغة العاديّة، بمدلولاتها المعجمية، فالنصّ ينتسب إلى مفهوم الخطاب الأدبي، فضلًا عن الشعري الذي “يمثّل الشّكل الأقوى للأدب، والدرجة القصوى للأسلوب”[5].

وإن ظاهرة الرمز الشعريّ هي أكثر ما يمثّل الانزياح الدلاليّ، حيث تنزاح الدوالّ عن مدلولاتها، فلا يعود هناك وجود للدلالات الأصليّة لتحلّ محلّها دلالات جديدة صنعها الشاعر نفسه، ويحصل هذا الأمر حسب السياق الذي يبني عليه الشاعر. وقد يشير الرمز الواحد إلى عدّة مدلولات للدال الواحد، وهذا يعود إلى “اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافًا ذاتيًّا غير مقيّد بعرف أو عادة، فقيمة الرمز الأدبي تنبثق من داخله، ولا تضاف إليه من الخارج”[6]. ثمّ إن مهمّة الرمز الشعري هي الإيحاء بما تعتري نفس الشاعر من أحاسيس واضطرابات وجدانيّة، وهو “شيء حسيّ معتبر كإشارة إلى شيء نوعيّ لا يقع تحت الحواس، وهذا الاعتبار قائم على وجود مشابهة بين الشيئين أحسّت به مخيّلة الرامز”[7].

وستظهر الدراسة هذه الانزياحات الدلاليّة من خلال الرموز “الذاتي” والتراثي” فضلًا عن “الديني”، وكثرة حضورها في شعر محمّد علي شمس الدين.

الرمز الذاتيّ:

لقد وضعنا محمّد علي شمس الدّين أمام لغة غامضة، تطلّبت الكثير من الجهد لتأويلها، فنجد رموزه سابحة في فضاء لغويّ جديد، ودلالات لغويّة تارة تكون متشابهة، وأخرى تتناقض في مدلولاتها اللغوية؛ فللمدلول الواحد عدّة دوال متباعدة في المعنى، ولا حصر لها، بالإمكان أن تشير إلى أمر إيجابيّ، أو إلى أمر آخر سلبيّ. وقد صنع محمد علي شمس الدين رموزه الشعرية الخاصّة به، إذ يمكننا أن نطّلع على عالمه الداخلي؛ صراعاته، شجونه، مشاعره، فلسفته، ثقافته…

وأبرز الرموز التي لجأ إليها شمس الدين ما ينتمي إلى الطبيعة؛ كالرّيح، والشمس، والرعد، والطفل، والجبال، وكل ما يمكن أن يخطر ببال الشاعر لخدمة المعنى الدلالي الذي يودّ إيصاله، فتنحرف الطبيعة عن طبيعتها الفيزيائيّة لتؤدّي وظيفة في خدمة النص الشعري. ستقتصر هذه الدراسة على مجموعة قليلة من رموز شمس الدين الدلاليّة، وهي:

رمز القمر

يعدّ رمز القمر من المظاهر التعبيريّة البارزة في شعر محمد علي شمس الدين، فضلًا عن فاعليّته في منح الشعر سمو الصورة الفنيّة، فقد اعتمد “دال” القمر كثيرًا، وذلك للإفصاح عمّا في نفسه، حيث إنّ القمر ليس اسمًا لظاهرة سماويّة في اللغة وحسب، فهو يحمل دلالات إيجابيّة وسلبيّة في الأدب تجري معانيها وفق السياقات اللغويّة. 

يقول شمس الدين في قصيدته ” بابل”[8]:

قمر/ على طبقين من دمه البهيّ/ سماؤه حبرٌ/ ودمعته سحابُ/ قمرٌ/ على سجادةٍ بيضاءَ/ يسجد لا ينامُ/ كأنّما ضربته حمى العاشق البدوي/ فاستلقى/ ورغبته حجاب/ وأقام ينتظر التي غابت/ فلما كادَ/ أو لمستْ أصابعه النحيلة/ خصرها النجفيّ/ أوقفه العذابُ…

نلحظ أن شمس الدّين ذكر القمر وهو الوطن المدمّى والحزين، إذ “كان القمر بحق، أنثى كونيّة عظمى وكان هو ذاته الأمّ الكبرى والدة الكون والأرض الخصبة، وقد ظهرت في تجلّيها الجديد القمر”[9]، وأردف إليه رمز السماء من حيث الامتداد والسعة، فهو وطن واسع اتّساع حبر الشعراء الذين يتغنّون به على الدوام. ولكنّ هذا الأمل ينبثق منه الأمل عبر استخدامه لرمز “السحاب”، التي تمطر دمعًا، إذا هو أمل بنصر ممزوج بألم.

ثمّ ينتقل به إلى حالة العابد المتنسّك الذي يصلّي على سجّادة بيضاء، ويسجد سجودًا صوفيًّا. ثمّ يصوّره ذاك المناضل الذي يحاول الوصول إلى النجف، حيث صوّر الوطن بالمرأة كعادته، فالمناضل هنا يحاول تحريرها، ولكن يوقفه العذاب.

ويقول في القصيدة نفسها:

قمرٌ. خرابُ/ وينام في أبراج بابلَ/ وجه طاغيةٍ/ ينقّره الغرابُ/ ووجوه فلاحين/ منشورين في الأهوار/ في قاع السّواد الحي/ مثل ضفادع غرقى/ ولم يرثوا سوى أصفادهم/ سكنوا هنالك في المياه/ وأصبحوا:/ دمهم شرابُ.

في هذا المقطع تحديدًا يلقي بالمسؤوليّة على دمار وخراب الوطن الذي هو القمر على رئيس البلاد الساكن في أبراج عالية، وقد أفحم شعبه بحرب أورثهم بها الذلّ والاستكانة والأسر، وهم غرقى في مياه الخليج العربيّ، وقد صرّح بكلمة “خراب” فلا داعي للشرح على أنّ الوطن صار خرابًا. وقد أكّد فكرته من خلال رمزية “الغراب” للدلالة على الموت والشؤم والفراق من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون الغراب هو “الموت” الذي يتوعّد الظالمين، ينقّر وجه الطاغية، وهذه دلالة سلبيّة. أمّا الدلالة الإيجابيّة للغراب فهي أنه المعلّم الذي يعطي الدروس للبسطاء في مثل هذه الظروف؛ حيث علّم الإنسان كيف يحترم جثمان أخيه “فخذ أربعةً من الطير” (سورة البقرة/الآية:260).

وينتقل بعد ذلك إلى رمزيّة جديدة للقمر، حيث يقول:

قمرٌ. غيابُ/ ليلوح في بغداد/ ما بين الرصافة/ في مدار الخلد/ والصحراء.

إن محمّد علي شمس الدين يحدّد الأمكنة من بغداد إلى الرصافة، وهي لؤلؤة بادية الشام، فبعد أن غاب القمر أي الأمل بالنصر إلّا أنّه لاح في بغداد على امتداد الصحراء في سوريا.

ثم يستخدم “الدال” أي القمر على أنّه أمل بالخلاص، حيث يقول:

قمرٌ. سرابُ/ ويطير من بغداد/ حتى قاسيون/ وصوته المشغول من قصب على الأهوار/ ينسج ظلّه/ ومياه دجلة حوله/ ينساب من زمن/ إلى زمنٍ/ وتسبقه القباب/ قمرٌ/ تشرّد عن منازله الأخيرة/ فانثنى/ فدنا فهرّته الكلاب/ فأقام أدنى ما يُقيم لضوئه قمرٌ/ وهنا هناك/ أراد أن يقف الغريب على الترابِ/ ولا ترابُ.

ولقد ربط في هذا المقطع، بين القمر والسراب؛ ومعلوم أنّ السراب يتراءى للملهوف والظمآن، فـ”يحسبه الظّمآن ماء” (النور/الآية:39). وهو بالتالي رمز للأمل والخلاص، يتراءى للملهوفين يظنون وجوده حقًّا وعندما يقتربون منه يختفي. وهو يحمل مدلاولًا سلبيًّا أيضًا، لأنّه يدلّ على الموت وفقد الأمل. فالموت والحياة متمثلان في دورته الشهريّة، حيث إنّ حركته الرتيبة كلّ يوم، وظهوره كهلال إلى أن يكتمل بدرًا، ثمّ يعود للتناقص من جديد. وما هذا إلا وجه من وجود الحياة التي تحمل الأمل بحياة جديدة، فالوطن الذي نهشته الحروب، “تشرّد عن منازله الأخيرة” وكانّه ينحدر من عيون المكافحين، فهو لم يكتمل بدرًا ولم يبصر الحياة بعد. ولكثرة تعبه “انثنى”، فهجمت عليه “الكلاب” وهي رمز للأعداء، لكنّه حاول أن يقف، ليضيء، والضوء رمز للنور والخروج من العتمة، والنصر على الأعداء وهو من متعلّقات القمر، وكأنّ الوطن تعرّض لخيانة عظمى.

رمز الطفل

يستمدّ الشاعر شمس الدين رموزه من الطبيعة الجنوبيّة، وهي بالعادة ذات معانٍ إيجابيّة، لكنّه ينزاح عن دلالاتها الأصليّة، ويضيف عليها دلالات غير مألوفة، فنجده مرّة يعبّر به عن ذاته الشاردة، حيث يقول:

“وأنا طفلٌ يحبو نحو الماءِ/ يحاول أن يلفظ حرفًا/ ويهجّي الكلمات الأولى/ ولعَلّ بهذا البحر جبالا/ ومسالك لا يعرفها إلا الغوّاصون/ ولعلّ به/ ما يشبهني من شغفٍ وخيالْ/ ولعلّ به سفنا/ ومراكب ما زالت في سفرٍ/ وعليها نوتيّون سكارى/ وقراصنة جوّالون/ ولعلّ كنوزاً في القاع”[10].

إن الطفولة هنا تعني الولادة، وهو رمز لذات الشاعر التي تحبو نحو الماء، أي نحو الوجود المطلق للكشف عن أسراره. وما طفولته المتمثلة بالحبو والتهجئة إلّا رمز لمحاولاته من سدّ شغف التساؤلات عنده، التي تصطدم بالجبال، وهي “تُخرِج الطفلَ من الطفولة البيولوجية لتنقله، من خلال عملية الخروج هذه، من دائرة تعالي العقل العلمي إلى دائرة تعالي العرفان، وتخرج (الحبو) من انتمائه إلى جسد الطفولة إلى تعبيره عن بداية السفر، خصوصًا أن هذا (الحبو) متجه نحو الماء بما يرمز إليه”[11].

ونجده في قصيدة “الطوفان”[12] يعنون القسم الأوّل من القصيدة بـ”الحركة الأولى: الطفل”، ويقول:

عاريًا كان يعدو على سدرة الأرض/ والأرض تعدو على غارب الماء/ والماء يطفو على صهوة الدم/ والدم يطفو على بقعة في الشتاء… هكذا يسقط الطفل في شمسها عاريًا/ عاريًا/ عاريًا/ ثمّ تكسوه جلدًا غريبًا/ ووجهًا كفزاعةٍ في المساء/ هكذا يلبس الطفل جلدًا من الموت/ والموت جلد السماء

هو يتحدث عن نفسه بطبيعة الحال، فـ”الدال” هو الطفل، والمدلول هنا هو الشاعر، فهو الضعيف، الذي يخفي ذاته، يتعرّض للموت، والقهر، والظلم، ولكنّه سرعان ما يتحدث بنرجسية مطلقة حين قال في مقطع لاحق: “وأنا/ والريح تزملني/ أتداخل بين غصون الليل أعرّيها/ وأراه يضيء ويسقط في حلقات دمي/ جذلًا”[13].

ونراه في قصيدته “أيّها الطّفل… ابكِ”[14] يوجّه كلامه للطفل مباشرة “إلى طفلي الصغير علي”، وهو في الحقيقة ابنه، فالرمز هنا هو علي الصغير، يعني الحياة المتجدّدة والاستمراريّة الوجوديّة لذات الشاعر، إنّه لم يبتعد كثيرًا عن ابنه حين رمز بالطفل إليه. ويقول في قصيدته:

ضحك الطّفل/ أو لمعت نجمة في السّماء/ لمعت رغبة خلف عينين ذابلتين

لقد رمز للطفل بالضحك، وهي من عادته، فهو الحياة وهو المستقبل، وضحك الطفل بالنسبة إلى شمس الدين كفعل لمعان نجمة في السماء، من حيث الإنارة والضياء والوضوح وبث الحياة. ثمّ يختتم قصيدته بقوله:

قال شيخي الذي ابيضّ من حزنه الثلج/ وانكسرت روحه/ مثل رمانة من دماء/ أيّها الطفل ابكِ/ ويا أيّها النجم لا تفتح الحفل/ واترك ستار الدجى مسدلًا في الفضاء.

لقد أظلمت الدنيا في ذات الشاعر، فلم يعد للضحك معنى، ولا للضوء معنى، وما الغاية من كل هذا؟ إنه اليأس، إذ تضادّ معنى رمز الطفل الذي هو دلالة للحياة، وصار اليأس محلّه. وليس غريبًا أن يعزّز فكرته برمز الثلج الأبيض أساسًا، ويعطيه مسبّب الحزن والموت، فالثلج رمز الحياة والتجدد والنماء، ولكنّه مرهون بهذا الطفل والعلاقة بينهما علاقة جدليّة. فالحرب الأهليّة التي خيّمت على لبنان، جاء الطفل كنقطة مركزية لرمز الحياة والتجدّد وتحقيق الآمال.

الرمز التراثي:

يشكّل التراث مصدرًا مهمًّا من مصادر الرمز لدى الشعراء، ونجده ركنًا أساسيًّا في قصائد محمد علي شمس الدين، وهو دليل الانتماء إلى الحضارة والإنسانيّة، التي استوحى منها رموزه المعبّرة عن شعريّته، فينقل برموزه واقع العالم العربي بصراعاته، وأفكاره الوجدانيّة تجاه الكون، وعبوديّته للخالق… فنجده مستحضرًا لشخصيّات تاريخيّة كشخصيّة الحجّاج، وعبد الرحمن الداخل، أو شخصيّات صوفيّة كالحلّاج، والسهرودي، وقد أثرى رؤيته الشعريّة بالشخصيّات الأسطوريّة كشهريار، وعشتار، ومنيرفا… انحرف بها عن دلالاتها التراثيّة، وحمّلها دلالات معاصرة تخدم رؤيته الشعرية، وتمنح الرّمز “أبعادًا دلاليّة معاصرة تتفق ودلالته الأصلية وتتصل بها اتّصالًا مباشرًا”[15]. وستحاول الدراسة انتقاء بعض الرموز التراثية عند شمس الدين ودراستها.

رمز شهريار

يقول الشاعر شمس الدين في قصيدته “تعب شهريار”[16]:

تعبنا يا شهرزاد تعبنا/ وركضنا طويلًا خلف أعمارنا/ حتى انحدرت دمعتان من عمق الحصان/ فماذا لنا/ سوى أن نكتشف ثانيةً/ أن هذا الخط الذي يبدأ في طرف الكفّ/ لا ينتهي في أطراف الأصابع/ وأننا شريدان مثل خطّي سكة الحديد في الزمان.

وإن لجوء الشاعر شمس الدين إلى استخدام رمزين من الموروث العربي القديم، بهدف إغناء الدفقة الشعورية ورؤيته الفنيّة لواقعه المرير. فشهريار وهو رمز للتجبّر والتسلّط، في هذا السياق، لم يعد الشاعر يعبر عن ذاته فحسب، بل يطلب من شهرزاد، التي تمثل رمزًا للفطنة والذكاء والقدرة على البقاء، أن تتجسد كرمز للوطن والأرض، ما يعكس دلالات أعمق تتعلق بالحفاظ على الهوية والوطن، وهي الحبيبة الأنيسة لشهريار كما للشاعر نفسه، انزاح المعنى في كلا الرمزين انزياحًا واضحًا، فشهريار في القصيدة ليس متسلّطًا، هو يطلب من شهرزاد أن تأتي إليه سريعًا، فهي الوطن الضائع الذي أضاعه هو بنفسه، “واطرديني كما طردتك”[17].

لقد خاطبها خطابًا مباشرًا، أراد من خلاله أن يستلهم رمزها الموحي بالانتصار والتغلّب على القهر، فجاء استدعاؤه لشخصيّتها موفّقًا في تجسيد الحالة الكارثيّة التي وصلت إليها البلاد العربية، في محاولة لتغييرها إلى الانتصار. ويبدو شهريار تابعًا لها، يحتاج إليها، والدلالة المتعارف عليها بأنّ شهريار لا يبرح شهرزاد كلّ ليلة ليأنس بما تقوله، غير مؤكّدة في هذه القصيدة، فهو قد فارقها، ويطلب منها العودة مع انكسار ووهن شديدين، حيث يقول: “أنا درجات السلّم/ أنا الظهر المكسور/ اصعدي/ ثمّ تدحرجي من عل/ أكن انا الفراغ حيث تهبطين”؛ إذًا هو يتلاشى أمامها.

رمز ابن سينا:

يقول محمد علي شمس الدين في قصيدته “يا ابن سينا يا أبي”[18]:

حتى متى يا أبي، ستبقى قدماي مفتوحين/ كدعاء غير مستجاب، لعناق هذه الأرض البعيدة؟/ من يمنحني سلام التراب، ويساويني بالسّمكة/ والعصفور والدودة العمياء؟/ يا ابن سينا/ يا أبي/ أغثني/ أنا طفلك المعلّق في الهواء إلى أبد الآبدين. 

ويستدعي الشاعر شمس الدين شخصيّة تراثيّة فكريّة لمّاعة، ليلجأ إليها فتكون له أبًا؛ يستمدّ القوّة والإبداع والأمان منه، فهو في وطن تتناوب عليه المحن، وتتكالب عليه الأزمات، وكانّه وجد في شخص هذا الفيلسوف منجًى من المهلكة، هو يشعر باليأس، فهو طفله المعلّق في الهواء إلى أبد الآبدين. يشار هنا إلى الانزياح القائم في معنى ورمزيّة الشيخ الرئيس كونه فيلسوف ومؤلّف ولكنّه متعدّد المواهب، مبدع. فكيف سينقذه من هذه الأزمات؟ صار بالنسبة إليه رمزًا للبطش والقوة والبأس.

وهي الدفقة الشعورية التي تجعل الشاعر ينزاح بالمعنى بعبارة أو أخرى، خدمة لمآربه الشعريّة ومكنوناته وللتخفيف من عبء الاضطراب والقلق.

رمز عبد الرحمن الداخل

عمل محمد علي شمس الدين في قصيدته “عبد الرحمن الخارج” على انزياح واضح من خلال العنوان تحديدًا من خلال استبداله لكلمة “الداخل”، وهذه حنكة فنيّة ضمن صورة جماليّة فائقة الإبداع، فصقر قريش القائد “عبد الرحمن الداخل” الذي مجّده في الكثير من أشعاره، كقوله: “ظلك العظيم فارد جناحه/ تلوذ تحته الأنهار والطيور”[19]. وأمّا بالنسبة إلى قصيدته “عبد الرحمن الخارج”[20] فهو يقول فيها:

الداخل/ الفاتح/ الهارب، الضارب/ الواصل، النازل، المؤسسس، المعلي، المهيمن/ المغادر، المغامر، المعاهد، المجالد، المطرز/ المعزز، المرابط، المخالط، المنافح، المكافح، المنازل، المواصل، المطوف، المصنف/ المغازل المقاتل …/ النبيل والجميل كيفما أدرته/ والصقر حين كان داخلا وفاتحا/ تراه في رصيفه الهزيل/ خارجًا/ ونابحًا.

نجد الشاعر محمد علي شمس الدين ينحرف انحرافًا تاريخيًّا معمّقًا، مستخدمًا الأسلوب القرآني في منحه صفات ربوبيّة غير عاديّة، ثمّ ينحرف في مسارها نزولًا بأسلوبه الاستهزائيّ. فصارت شخصيّته كالكلب عندما ينبح، وهو أي الشاعر بهذه الطريقة يتلاعب بالشخصيات تلاعبًا فنّيًّا، بما يتلاءم مع رؤيته الوجودية، وتفاعله مع الواقع المأزوم، إنّه يعرّي الشخصيّات، ثمّ يربطها بالواقع.

الرموز الدينية

ازدحمت الرموز الدينيّة عند محمد علي شمس الدين، فتجده يستدعيها ليثبت دعائم شعريّته، إذ إن “الرمز الدين المقدّس في الشعر يؤنس في غور نفس الإنسان من خلال مماثلة صادقة للحقيقة الملموسة، ويعطي بيّنات صادقة عن حقيقة مثالية متعالية”[21]، فالرّمز الديني تحديدًا يثير في الشاعر دفعًا ليحتجّ به على مظاهر الاستبداد للأمة العربيّة، فيستحضرها ليوظّفها في خطابه الشعري من أجل الدفاع عن الوطن.

نجده يستدعي شخصيات دينيّة من خلفيته العاملية الشيعية كنبيّ الله محمد وكالإمام المهدي المنتظر، والعباس والقاسم… أو من الإنجيل كنبيّ الله عيسى، ومريم… سنحاول تحت هذا العنوان أن نسلّط الضوء على رمزين من الرموز التي استخدمها في قصائده.

رمز المهديّ

يقول محمّد علي شمس الدين في قصيدة “المهدي”[22]:

كنّا ننتظر المهديّ طويلًا/ حتى جاء/ لكنَّ الأسماءْ/ خدعتنا في بعض معانيها/ قال الناسْ:/ كان العباسْ/ كنبي رسمته الصورة/ خذابًا كالأسطورة/ وطويلًا/ أطول من خط الأحلامْ/ وجميلًا/ أجمل من نهدين على صدر الإسلامْ/ ومشى/ فمشينا/ خلف خطاهُ/ كما يتبع نهرٌ مجراه/ كنّا/ وتوّابينَ/ وأخلاطًا/ من زنج/ وشعوب مغلوبةْ.

يحضر الإمام المهديّ في شعر محمد علي شمس الدين، كرمز من رموز القيادة الحقيقيّة التي تقوم عليها أحلام الشعوب المستضعفة أيًّا كانت ديانتها، وهو يصوّر حالة الأمم كلّما طلع أمامهم قائد مخادع استطاع تمويه نفاقه، فانجذبوا نحوه، لأنّهم تصوّروه المخلّص الموعود من طغيان غيره، فأطاعوه، واتّبعوه، لكنّهم اكتشفوا حقيقته فيما بعد. فتحطّمت أسطورتهم، وتبددت أحلامهم، وتحلّلت جماليّة الصورة في أذهانهم لهذا البطل الخارق. وقد استدعى محمد علي شمس الدين رمز العباس كثنائيّة ضديّة مع رمز المهدي؛ فالقائد العباسي -بنظره- من خيّب آمال الناس المظلومة، حيث استدعى رمز “التوابين” من زمان كربلاء وما بعدها، الذين خذلوا حفيد النبي في الواقعة، ثمّ تبيّن لهم بعد ذلك آفة ما صنعوا، وهو يراهم أنفسهم اليوم من خذلوا قضاياهم العربيّة واستكانوا لطغيان حكّامهم، فرموا أنفسهم في التهلكة على شاكلة انتحار جماعيّ منشؤه اليأس والإحباط، وهو حال الشعوب العربية.

ثمّ يضيف في قصيدته أنّ الشعراء هم الذين اكتشفوا هذا الكذب في منتصف الصحراء، والشعراء رمز لذات الشاعر المخدوع أيضًا بأولئك الحكّام، فهو ما يلبث أن يؤمن بأحدهم، حتى يكتشف زيف أمره.

رمز المسيح

إنّ العنوان لقصيدة “عرس القاسم”[23] يحمل رمزيّة متعلّقة بواقعة كربلاء، فالقاسم هو ابن الإمام الحسن المجتبى، ينقل لنا عنه أنّه كان عريس سكينة بنت الإمام الحسين، وقد حالت المعركة بينهما. لقد استدعى محمد علي شمس الدين التاريخ، بشخصيّاته الملحميّة، ليمزج بين الأزمنة، ويشابه الواقع الجنوبيّ إبّان الاحتلال بزمن سابق، ولعلّه بأسلوبه الشعري الفريد بنى قصيدة لا يضاهيها توصيف مشابه للواقع في عصرنا الحديث.

وما إن نلج مطلع القصيدة حتى يفاجئنا الشاعر بذكر المسيح الذي عاد من دون صليبه، ويتبعه بسرد لتفاصيل الحدث بروائيّة سلسة تحمل على المعاني الإنجيليّة، وتمازج بينها وبين الواقع. فالمسيح رمز للبشارة، والأمل بالنّصر، كأنّه يقول لنا على الرغم من الظلم الذي يشترك برمزيّته القاسم والجنوبيّون، فإنّ البشارة آتية لا محالة بقدوم المسيح، من دون صليبه.

تجمّعوا لكي يزفّوه إلى القرى/ تناقل الرّواة خبرًا/ يقول إنّه المسيح عاد/ ولم يكن صليبه أقلّ من بلاد/ وإنّهم رأوه عاريًا/ وواقفًا بوجهه الحزين/ عند مدخل المغارة/ إن قانا جَمّعتْ صغارها/ لمقدم البشارة/ كأنّها الإله/ وقال آخرون/ أنّه سواهْ/ فكيف يستطيع أن يعود/ والجسور قطّعت/ كما تقطّع الأوصال/ والبلاد قوّرت/ كانّها الذبيحة…

شخصيّة المسيح هي من أهمّ الشخصيّات الدينيّة حضورًا في شعر محمد علي شمس الدين، وقيامته صورة عن الأسطورة التي سطّرها الشهيد الجنوبيّ، لأنّ بدمه أحيا وطنًا، وحرّر أرضًا، فكان مخلّدًا، كما المسيح. وإنّ الخلاص الجنوبيّ متعلّق بهذا الرمز “الإله” الذي يجسّد الخلاص من المآسي والظلم، و”قانا” هي أرض الجليل التي تمثل موعد قدوم البشارة. وما يمثّله المسيح من رمز للألم والصلب والمظلومية، والصليب رمز سلبي ودلالة على التشاؤم  انزاح في مقاربة الشاعر ليملأ نفوس الجنوبيّين أملًا وتفاؤلًا وبهجة.

الانزياح الإسنادي عند محمد علي شمس الدين

إن الإسناد مصطلح بلاغيّ يقصد به “ضمّ كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى، بحيث يفيد بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفيّ عنه، وصدقه مطابقته للواقع وكذبه عدمها”[24]. وهو من أهمّ الوظائف النحويّة  التي تعزّزها الكلمات داخل الجمل؛ فالكلمة تتمحور “وظيفتها بعلاقتها لمجاوراتها، مما سبق عليها وممّا لحقها من كلمات”[25]، فيتولّد تجانس بين العناصر المركبة للجملة، يشي بدلالة المعنى. وفي حال التنافر تتحقّق الشعرية بقدر عالٍ، وإنّ عدم انسجام المتلازمين النحويّين، يولّد شعريّة الانزياح فتكون “لا خصيصة تجانس وانسجام وتشابه وتقارب بل نقيض ذلك كله”[26]، فهي كما عبّر عنها كوهين بأنّها تعدّ “انحرافًا عن قواعد الكلام”[27].

وهذه الفجوة القائمة تعمل على إثارة الدهشة عند المتلقّي، فـ”قيمة كلّ خاصيّة أسلوبيّة تتناسب مع حدّة المفاجأة التي تحدثها تناسبًا طرديًّا، بحيث كلّما كانت غير منتظرة، كان وقعها على نفس المتقبّل أعمق”[28].

وبناءً على ما تقدّم سيحاول هذا القسم من البحث تسليط الضوء على بعض أشكال المنافرة التي شاعت في شعر محمد علي شمس الدين. يقول في إحدى مرثياته من ديوانه “طيور إلى الشمس المرّة”، “دمية بَيْسان”[29]:

إن بَيْسان نائمة في السرير/ كعادتها../ نبضها حائر/ ويداها على صدرها/ كسرّين ينعقدان/ وفي جفنها المدرسيِّ/ ذبالة دمع تغادر أهدابها/ فلا توقظوها/ لأن الذي مات دميتها… إنّ بيسان تنهض منْ… قبرها/… قدماها نعاسٌ على الأرض/ وخطوتها طائر من ضياء/ و/ صدري/ يفاجئها بلبل للدماء/… وكفي مدوّرة للسؤال/… طيور معلّقة تحت أقفاصها/ طيور معلّقة/ تحت أقفاصها/ قبور/ محلّقة/ في الظلال/ وبيسان خلفي تغادر أعضاءها/ دعِ الريح شاردة خلف أبوابها/ دع الشجر المتحايل في الريح/ يبكي على نفسه/ دع الحزن يكمل دورته في الغصونْ/ ودعني/ أسَّوى لبيسان بيتًا/ يناسب أحلامها:/ غرفتان على البحر طافيتان/ لها غرفة/ ولدميتها الغرفة الثانية/ طابتان من الزرقة الدامية/ فوق تلِّ المياه/ ونافذة مثل عين الإله/ يغضَّها الوقت شيئًا/ فشيئًا/ فتعصر دمعتها القاسية/ وإذْ يدخل الموت/ مختبئًا خلف عينيه/ على شكل سيف صغيرْ/ ويفتح في الماء جرحًا عميقًا/ يفاجئه أن بيسان غابتْ / فيطعن دميتها في السرير..

وفي هذه القصيدة ما يسمّى بتنافر الإسناد الاسمي؛ وهو عدم توفّر الانسجام بين المبتدأ والخبر المؤلّفان للجملة الاسميّة القائمة أساسًا على مبدأ تجانس بينهما، فهو عندما يقول: “في جفنها المدرسي/ ذبالة دمعٍ تغادر أهدابها/ فلا توقظها، ثمّ قال: “إنّ بيسان تنهض من القبر”، وفي هذه الجملة الاسميّة أسند فعل المغادرة للذبالة، وهي فتيلة السراج التي توقد من أجل الإضاءة، تغادر أهدابها وكأنّ الحزن يحترق في عينيها. ثمّ يقول عن بيسان بأنها تنهض من قبرها، وفعل النهوض أمر واقع للإنسان ولكن من السرير أو من النوم وليس من القبر، وكأنّ القبر مصدر لراحتها المطلقة، وهذه اللاملاءمة بين المبتدأ والخبر يرجّح معنى الألم من الفقد، والاحتراق لأجل هذا الألم. وهي عندما قامت لتأخذ قبلتها في المساء، كانت “قدماها: نعاس على الأرض/ وخطوتها طائر من ضياء”، كيف يسند النعاس إلى القدمين، والنعاس نتيجة التعب والإرهاق، وفي ذلك دلالة على أنّها اكتفت من هذه الحياة، وتعبت، تمشي لتنال نصيبها من القبل المسائيّة، و”خطوتها طائر من ضياء” تصوّر الحريّة المطلقة لها في حركتها، والنور المنبعث من هذا الطائر بمشيتها وخطواتها، وتعود بعد ذلك إلى أحضان الموت.

وانقلب المعنى حين قال: “يفاجئها بلبل للدماء”، فالبلبل لا يفاجئ، أسند هذا الفعل إلى البلبل لأنّه تلقّى الموت من حيث مصدر الأمان فالموت لا يتوقّع في أحضان الوطن، ولكن ما الذي فاجأها؟ إنّه بلبل للدماء، والبلبل رمز للروح والشوق والحب، وهذه من سمات الشعر الصوفي لدى محمّد علي شمس الدين، لأنّه استدعى هذا الرّمز وأزاح عنه جماليّته فصار بلبلا دمويًّا وحشيًّا يقتل الأطفال فيزدادون قهرًا. وفي هذه الجملة انزياح في الإسناد الفعلي؛ فالبلبل ليس للدماء وهو رمز للروح ولتجسيد الشوق والحبّ، انزاح المعنى الإسنادي ناحية الدماء، كما أن للدماء رمزيّة الحياة أيضًا عندما يكون مصدرًا للأمان.

ثمّ يقول في القصيدة نفسها: “دقّ حزني على الباب/ دقّ حزن الصباح”، ثمّ يكرّرها: “باكرًا دقّ حزني”، لقد أنسن الحزن وجعل له قدرة على طرق الأبواب، لأنّ الخبر أتاه صباحًا، فأصابه الحزن، وهذا الحزن الباكر دلالة على عمر الفتاة الصغير، بل أضاف: “مثل كلب الرياح” فهل للرياح كلب؟ وكأنّ الرياح إنسان يربي كلبًا يطيعه كيفما يشاء، فلا تجانس بين الحزن وبين فعل “دقّ” ولا تجانس بين الرياح والكلب. ويبدو أنّ الشاعر محمد     علي شمس الدين قد حقّق في قصيدته مستوى عاليًا من الشعريّة من خلال خرق لنظام الجملة الاسميّة والفعليّة أيضًا؛ فهو في أكثر أشعاره يسند الفعل التامّ إلى فاعل لا يتوافق معه دلاليًّا أو يعدّيه إلى مفعول لا تناله دلالة الفعل: “وبيسان خلفي تغادر أعضاءها/ وتتركها”، فكيف ينفصل الإنسان عن أعضائه ويتركها إلّا في حالة الموت، يؤكّد على موتها ورحيلها الأبديّ.

يكسر الشاعر بنية التوقّعات لدى المتلقّي حين يعدّي الفعل “يفتح” إلى مفعول به “جرحًا” ويسند إليه فاعلاً لا يتناسب معه وهو “الموت”، كما يتعدّاه إلى مفعول آخر وهو “الماء”، فالموت أيضًا “يدخل” لقد أنسن الموت وجعله عنصرًا فاعلا تمامًا كالإنسان، ومفعولاته هي عناصر مادية، كالجرح والموت، وهو يستدعي الماء كرمز للحياة والتجدّد والاستمراريّة، لكنّه هنا جاء يشير يثبّت فكرة الموت المحتّمة.

ولنتوقّف عند هذا النموذج من قصيدة “عودة ديك الجن إلى الأرض”[30]:

وأصغي للطيران/ طيران العقل الطائر/ طيران الأحلام الزرقاء/ طيران الأيام السهلة/ والساعات الجوفاء/ طيران ثياب الأشجار/ طيران فراشات الحمى الذهبيّة.

يصوّر الشاعر عدم الملاءمة بين الصفة والموصوف في: العقل الطائر، والأحلام الزرقاء، والساعات الجوفاء، وفراشات الحمى الذهبية، والمتعارف عليه قولنا: العقل الراجح، العقل الفارغ، العقل البسيط وليس العقل الطائر، والأحلام لا لون لها، نقول مثلًا أحلام هانئة، أحلام جميلة… فكيف تصير زرقاء؟ فضلا عن الساعات الجوفاء، فالساعات طويلة أو قصيرة ولكنها ليست جوفاء، في هذا المقطع تحديدًا ازدحام في الانزياح الدلالي وفيما ورد تنافر نعتيّ واضح. فالنعت “يؤدي عادة دور التحديد بطبيعته وإن كلّ نعت لا ينجز هذا الدور يعتبر انزياحًا أو صورة”[31]. وإن اللاملاءمة في النعوت يتخذ هويّة للحياة المفقودة في الواقع؛ كالأحلام الزرقاء دلالة على الصفاء الذهني، والأيام السهلة.

الانزياح التركيبي

في هذا المبحث سندرس الانزياح التركيبي كظاهرة شعريّة تقوم على خرق القوانين المعياريّة للنحو، وتبديل مواضع الكلام الأصليّة، وهو من المحاور المهمّة من محاور الشعريّة الحديثة، إذ “لا يتحقّق الشعر إلّا بقدر تأمّل اللّغة وإعادة خلق اللّغة مع كلّ خطوة. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للّغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب”[32]. ويرى جاكبسون أنّ “اللامتوقّع والفجاءة والذهول تشكّل جزءًا جوهريًّا من المفعول الفنّي”[33]. وهذا ما يؤكّد أنّ “الشعر عنف منظّم مقترف بحقّ الكلام العادي”[34]، فيتصرّف الشاعر بالبناء اللغوي ضمن حدود مسموح بها. وسيتمّ تناول هذه الظاهرة من خلال الوقوف على عدّة قضايا:

التقديم والتأخير

وهو ما يسمّى بـ”الانزياح عن القاعدة التي تمسّ ترتيب الكلمات”[35]؛ فيعمد الشاعر إلى تقديم أو تأخير الكلمات وتبديل أماكنها في سياق الجملة. ولهذه الظاهرة أثر دلاليّ، ووظيفة جماليّة، فـ”هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لك عن بديعه… ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثمّ تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدّم في شيء وحوّل اللفظ من مكان إلى مكان”[36]، وترتيب اللغة العربيّة فيه مرونة من حيث الحريّة في ترتيب الكلمات”[37].

 ويعدّ التقديم والتأخير في شعر محمد علي شمس الدين ظاهرة واضحة، إذا اعتمده كوسيلة لإبراز فاعليّة اللغة الشعريّة، وإظهار الطاقات الإبداعيّة والحالات الشعوريّة لديه، فيقول في قصيدة “الصقر”[38]:

مرّة جرّني بدر من ساعدي، وقال ابتعد فابتعدنا

قدّم الشاعر “مرّة” الظرفية على الفعل والفاعل والجار والمجرور، وهذا يشير إلى أنّ هذا الأمر بتوقيت وزمان معيّن وليس مستمرّا، كأنّه يحصر هذه الحادثة ببدر وبتوقيت محدد وبالعراق حصرًا. وقد جاء ظرف الزمان المقدم على عامله، والذي يحمل دلالة وقت محدّد مضى، ليؤكّد الواقع المعيش في العديد من البلدان العربية، حيث إنّ الشعوب تحاول الهروب من هذا الواقع، فتبتعد عنه. ثمّ يقول في مقطع آخر:

إن (إقبال) ماتت/ وبدر الذي قادني من يدي مات/ والأصدقاء الّذين استراحوا/ تناءت مواعيدهم، وماتوا على العهد/ ماذا تبقى إذن أيها الغارق بين الجنادب/ في الحقل والأنجم الباردة/ ليس بين الجنوب وقلبك إلا دم القطرة الواحدة/ موعد تلتقي فيه كل القطارات/ أو جسد تلتقي فيه كل الخيول.

فيقدّم الفاعل “بدر” على الفعل “مات”، لأنّه يريد التركيز على بدر فأورده في مطلع الجملة، والشاعر هنا يصوّر أنّ الموت حتميّ لا محالة، فبدر الذي حاول الهروب من الواقع مات، وإقبال ماتت، على الرغم من نضالهما في سبيل الحياة، وهو يشيد بالنضال المشترك بين الشرفاء، لأنّ هناك شهداء من العراق قدموا أرواحهم في جنوب لبنان حيث عبّر عنها بـ”القطرة الواحدة”. كما نجده قدّم الفاعل “موعد” على الفعل “تلتقي”، والفاعل “جسد” على الفعل “تلتقي” أيضًا في السطر الذي يليه، ليؤكّد على فكرة الالتقاء بين أبناء الأمّة الواحدة، فكلّ القطارات للدلالة على اتجاه وتحديد المصير، وكلّ الخيول للدلالة على الفروسية والشجاعة في سبيل الأوطان. وكأنّ الشاعر محمد علي شمس الدين يحصر بوصلة الشهادة والتضحية بفلسطين دون غيرها.

ثمّ يقول في مقطع بعنوان “فاصل موسيقي”[39]:

وأتت عاشقتي في الليل تزور القبر، فأذهلها/ شبح تحت الصفصاف يناديها/ صرخت من أنت؟/ وحين أشارت للقبر وفاجأها صوتي/ سقطت في صدر مغنّيها/ قتلتني عاشقتي/ قتلتني/ وأنا في ظلمة قبري أبكيها.

قدّم الشاعر الفاعل “شبح” والجملة الظرفيّة “تحت الصفصاف” على الفعل “يناديها”، وهذا التقديم يفيد بتخصيص الحالة التي يعيشها العالم العربي، فالشبح هو الموت وتحت الصفصاف تكون القبور، فالمصير محتوم وهو الموت، يموت من نحب، ونموت معه، ليكمل رسم المشهد بقوله:

وأكثر ما يملأ القلب حزنًا/ خيانات أهلي/ ومعرفتي أنّهم قبل رأد الضحى أنكروني/ هاربًا باتجاهين في لحظة الحب والموت/ أو واقفًا في تصالب ظلي

نجد الشاعر هنا يقدّم الجملة الظرفية الزمنيّة “قبل رأد الضحى” على الفعل “أنكروني” وفيها دلالة على الخذلان العربي “خيانات أهلي… أنكروني”، وأنّهم في وضح النهار وقّعوا معاهدات سلام باطلة، على حساب دم الشعب العربي في الجنوب وفلسطين، ليصير المواطن متخبّطًا في اتخاذ مصيره، فهو يطلب الحياة والموت طالبه. وليظهر الشاعر هذه الفكرة ويثبتها قدّم الحال “هاربًا” على شبه الجملة “باتجاهين”، وأيضًا في البيت الذي يلي عندما قدّم الحال “واقفا” على “في تصالب ظلي”.

تصعد من قلبي الكلمات/ وتطوف قوارب أحزاني/ بحرًا ملأته الظلمات.

يلاحظ في آخر بيت تقديم المفعول به “بحرا” على الفعل “ملأته”، لإبراز سعة الحزن بسعة البحر، فالبحر مهما ملأته يبقى في حال استيعاب المزيد من المياه، وليس من الظلمات، وهذا لتخصيص الحالة المغمورة بالأسى والألم اللامتناهية والتي يعيشها الشعب العربي، وقوارب أحزان الشاعر هي التي تطوف في هذا البحر المعتم. وهذا يتناسب مع قول سيبويه: “كأنّهم إنّما يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعًا يهمّانهم ويعنيانهم”[40].

ويورد الشاعر في قصيدة “عكّاز لامرئ القيس”[41]:

ملك/ يحمل عكازًا في الريح/ ويعدو خلف الأبوابْ/ يسأل عن عرش أبيه فلا يسمع/ غير ذئاب تعوي/ خلف ذئاب تعوي/ خلف ذئابْ.

ويقدّم الشاعر شبه الجملة “غير ذئاب” على الفعل “تعوي”، ويلحقها بتقديم شبه الجملة الظرفيّة “خلف ذئاب” على الفعل “تعوي”، وهو بهذا التكرار مع تقديم شبه الجملة في آن، أظهر سخرية مقنّعة بأسلوب كاريكاتوريّ ضاحك، لينقل لنا الواقع العربي المأزوم بالصراعات، وتلك الحالة التي عاشها الناس في ذلك الزمن. ثمّ يقول في القصيدة نفسها:

فاسأل يا مهر الثأر الأزرق/ عن قبر أبيك/ ولا تسألْ/ أوتار الغيتار المشدودة/ من أحشاء السهل إلى روما/ تبكي.

نجده في هذا المقطع يقدّم الجار والمجرور “من أحشاء السهل إلى روما” المتعلّق بالفعل “تبكي” الذي أخّره وأورده في آخر الجملة، لتسليط الضوء على كلمة “أحشاء” وحيث إنّه حدّد مساحتها المكانيّة فهي في أحشاء السهل وصلًا إلى روما التي تبكي، الأحشاء مصطلح لما في داخل الإنسان، هو يعكس المرارة التي نعانيها ونكابدها، ومشهد البكاء يلازم الشاعر في أكثر قصائده.

الحذف

يعدّ الحذف من أبرز الظواهر الشعريّة في قصائد محمّد علي شمس  الدين، ولأنّه مبدع استند إليها، فأثرى نصّه الشعريّ، وارتقى بصوره الأدبيّة، من خلال إسقاط عنصر من عناصر البناء اللغوي، ويكون على الأغلب أحد طرفي الإسناد، وهو يؤدّي دورًا رئيسًا في عمليّة التنبيه والإيحاء، ويثير ذهن المتلقّي، ويحمله على الحفر في عمق العبارات والتراكيب، فتتحقّق متعة القراءة التي تحدّث عنها رولان بارت[42].

والحذف ظاهرة لغوية تُعنى بدراسة العناصر التي كان من المفترض ذكرها في السياق اللغوي ولكنها أُسقطت لاعتبارات دلالية أو بلاغية، ويقول سيبويه عن الحذف: “اعلم أنّهم ممّا يحذفون الكلم، وإن كان أصله في الكلام غير ذلك، ويحذفون، ويعوّضون، ويستغنون بالشي عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل حتى يصير ساقطًا”[43]. وفي هذه الحالة لا يخلو من قرينة لفظية ليدل على العنصر المحذوف، كما يقول ابن جنّي: “وليس شيء من ذلك إلا عند دليل عليه، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته”[44].

وإن الحذف في بناء الشعر ليس عملًا بريئًا، أو فعلًا مفروضًا على الشاعر، إنّما هو عمل واعٍ، وسمة من سمات القصيدة الحديثة، ومظهر من مظاهرها الإبداعية التي تعمل على استثمار الطاقات التعبيرية الهائلة التي تزخر بها اللغة العربية.

وسيتمّ إيضاح ذلك من خلال نماذج من قصائد محمد علي شمس الدين، للوقوف على هذه الظاهرة ودراستها. فنجده يقول في قصيدته “مقهى على البحر الميت”[45]:

واقفًا/ أشرب أيامي على شاطئ هذا البحر/ أدعو السمك الميت أحلامي/ وأدعو الموج يأسي/ كلما سرحت قطعاني على مرج السماوات/ أتى الذئب الذي يشبه شمسي/ داميًا/ أحمر مقطوفًا من النار/ ومحمولًا على عرش القرابين العظيمة/ أرفع الكأس وأدعوه/ لكي نشرب نخب النشوة الكبرى/ لرؤيانا القديمة/ حاملًا صورته تحت قميصي… ها أنا وحدي، وأمشي/ مثل ذئبين معًا.

ويتصوّر الشاعر محمّد علي شمس الدين في هذه القصيدة نفسه “على شكل ذئب أو ذئبين معا يمشيان على سطح الماء وفي مناخ غامض يعود كل شيء إلى أصله في الحرب حتى الذئب، لا بد أن يكون أصله سرطانا، وغموض الحياة في البحر كفيل بأن يجعلني أضرب رأسي في الصخرة شبيها بسفينة ثقبتها موجة عمياء فانداحت مياه البحر فيها، بالفعل العالم قاس وقاتم ومكتمل على غموض وكآبات”[46]. ونراه يفتتح قصيدته بكلمة “واقفًا” حاذفًا من الجملة المسند إليه الفاعل أي الشاعر نفسه، والفعل “تجدني”، فيقتصد في اللغة، ويحفّز المتلقّي للاشتراك في إنتاج المنظومة اللغوية البديلة “لأنّ بعض العناصر اللغوية يبرز دورها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها”[47].

وهو لم يحذف المسند إليه عندما تحدّث عن الذئب القادم وهو رفيقه الدامي في قوله: “داميًا/ أحمر مقطوفًا من النار، ثمّ عاد ليحذف ذاته عندما قال: “حاملا صورته تحت قميصي” اقتصادًا في اللغة وابتعادًا عن عبثيّة التكرار، فالمقصود واضح من كلامه بأنّه هو الشاعر نفسه. ثمّ يعيد عملية الحذف مجدّدًا في قوله: “رافعا بالمخلب الأزرق ميزان جروحي”، وتقدير الكلام: “أمشي رافعا…” وذلك ابتعادًا عن التكرار فقد أتى على ذكر نفسه في البيت الأوّل من المقطع الثاني. ويكمل في القصيدة نفسها استراتيجيّة الحذف:

والذئب الذي يمشي الهوينا/ دالفا/ من هدأة البرّ إلى البحر/ كما تمشي العجول/ هادئًا/ مقترفا زرع الحقول/ حاملا إثم البدايات.

نجد محمّد علي شمس الدين يحذف ذكر أناه مجدّدًا، في “هادئًا” و”حاملًا”، وهذا الأسلوب يكشف عن براعة ولمسة جمالية في بناء الشعر، وهو عامل مثير ينبّه المتلقي الذي يتوقّع أن يكون التركيب معياريًّا، ولا موجب لحذفه.

وقد لجأ محمد علي شمس الدين إلى حذف النعت في قصيدته “بريد وادي جهنّم”[48]:

وسوف تشمّ رائحة رأسك/ المفصول عن جسدك/ هناك في الجنوب/ المفصول عنك من يومين فقط/ من يوم واحد/ أمس/ الآن/ من ثلاثة آلاف عام/ مضت في كربلاء الروح.

وإن محمّد علي شمس الدين يؤمن بالقضيّة الحسينيّة لذا يقحمها في أبياته، ويستعين بها لتصوير الحالة الراهنة في الجنوب اللبناني، وفي هذا المقطع يلجأ إلى حذف النعت “المفصولِ” وتقدير الكلام: “المفصولِ من يوم واحد/ المفصول أمس/ المفصولِ من ثلاثة آلاف عام. هو من خلال تكرار هذا الحذف مع التيار الزمني المتلاحق ليصل به إلى كربلاء، يظهر حساسيّة مفرطة إزاء ذلك الدم المراق منذ زمن بعيد، ولأنّه يرفض أن يجفّ، وأنّ استمراريّته باستمرار التضحيات الجنوبيّة.

ويكثر الحذف في شعره لينال المبتدأ نصيبًا منه، حيث يقول في قصيدة “الزلزال”[49]:

إذن/ سأقاتل حتى ترضى…/ فاشهدْ:/ مقتول فيك/ ومقتول في الأزهار/ ومقتول في شفة الأمطار/ ومقتول في الجوع/ ومقتول في عطش الينبوع/ ومقتول في الشعر/ ومقتول في الأحلام.

نلاحظ كيف أكثر من حذف “أنا”، معتمدًا على العطف، ليسترسل في الكلام من دون أن يسلب القصيدة شعريّتها، فكثرته تضيّع المعنى، لذا جاء العطف مع الحذف والاختصار فيستجيب المتلقي استجابة سريعة للتخلص من تكرار التركيب في بداية الجمل، وإنّه يمارس  هذا الحذف لإحداث تنويعات تركيبيّة في بناء الجملة الشعريّة. وهنا يقصد استعارة الحدث التاريخي العظيم، وهو جهاد الإمام الحسين (ع)، إنّه على طريقه يشهد الله بأنه سيضحي ويضحّي ويضحّي بنفسه من أجل بقاء المخلوقات والكائنات الأكثر سحريّة في الوجود.

وفي القصيدة نفسها يقول:

يا بلاد الثلج ما للثلج يسقط من مليون عام؟/ ودمي يقتله لفح الهجير/ بلبلًا/ أم/ سنبلة.

ولقد حذف كان واسمها من البيت، والتقدير “كان بلبلًا أم سنبلة”، ليظهر همجيّة العالم، ودمويّة الحرب التي لا تميّز بين صغير وكبير، بين طفل وشيخ، بين بلبل أو سنبلة، فالطبيعة كلّها تتعرّض للقتل والإبادة. ولقد تجنّب اللفظة، وحذفها ليشرك المتلقّي في إنتاج الدلالة الشعريّة فـ”ربّ حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد”[50].

ومن جماليّات الحذف عند محمّد علي شمس الدين حذف المسند خبرًا لـ”أنّ” الحرف المشبّه بالفعل، كما في قصيدة “من مراثي فاطمة” ضمن مقطع بعنوان “فاصل بكاء”[51]:

-: لماذا يئن الغزال؟/-:لأن البراري…/ -:لماذا تئنّ الخيول الشريدة؟/ -: لأن الرمال…/ -:لماذا تئن الطواحين عند المساء؟/ -: لأنّ السواقي/ -: لماذا تئنّ الكلاب الحزينة؟/ -: لأن الخطى/ -: منِ القادمون؟/ (بكاء ثقيل)/ بطيئًا يجيئون حتى تئن القرى/ بطيئا كما تسقط الأرض في لا نهاياتها/ -: بطيئا كما يرسب الراسبون.

حذف محمد علي شمس الدين في كلّ المقاطع التي تمّت فيها الإجابة عن الأسئلة، وتقديرها “لأن البراري تئن/ لأن الرمال تئن/ لأن السواقي تئن/ لأن الخطى تئن” واستفاد من هذا الحذف للحفاظ على موسيقى القصيدة وتكثيف دلالة الحزن الشديد، وحتّى يبتعد عن رتابة التكرار للفظة الواحدة “تئن”، فهو تقنيّة لغويّة يبتعد من خلالها الشاعر عن الحشو، فيكثّف المعنى في أقلّ كلام، إذ قال البلاغيّون: “ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة”[52]. ثم يكمل مقطعه الشعريّ بتكرار حذف المسند إليه ثلاث مرّات من أوّل البيت:

بطيئًا يجيئون حتى تئن القرى/ بطيئًا كما تسقط الأرض في لا نهاياتها/ بطيئا كما يرسب الراسبون.

وبالاعتماد على السياق كأنّ الشاعر يخاطب الجيوش العربية التي تباطأت في القدوم إلى أرض المعركة، وتركت الجنوب وحيدًا من دون نصرة، فحالهم “بطيئًا” كرّرها ثلاث مرّات، وحذف المسند إليه “واو الجماعة” ثلاث مرات أيضًا ليغرس مفهوم الخذلان من الذين يملكون قدرات قتالية بخلوا على أخوتهم بها، لقد رسبوا في الامتحان في نهاية المطاف.

خاتمة البحث

يُجسّد الانزياح التركيبي في شعر محمد علي شمس الدين ملمحًا جوهريًّا في بنائه الشعري، حيث يتجاوز الشاعرُ القواعدَ النحوية واللغوية المألوفة ليُعيد تشكيل اللغة وفق رؤيته الفلسفية والوجودية. وقد توصلت الدراسة إلى نتائج عدة، أبرزها:

– استخدم شمس الدين رموزًا طبيعية (كالقمر والطفل) وتراثية (كشهريار وابن سينا) ودينية (كالمهدي والمسيح) بشكلٍ مغاير لدلالاتها التقليدية.

– خرق الانسجام النحوي عبر أسْندة أفعال غير متوقّعة إلى فواعل أو مفعولات (مثل: “البلبل للدماء”، “الموت يفتح جرحًا”)، مما يخلق صدمةً دلاليةً تُحفّز تأويل المتلقي.

استفاد من التقديم والتأخير:  كتقديم الظرف “مَرّةً” في “مَرّةً جَرَّني بَدْرٌ مِنْ سَاعِدي”، لإبراز الزمن كعنصرٍ محوري في الحدث. وحذف العناصر النحوية (كالفاعل أو المسند) لتكثيف الدلالة، كما في: “وَاقِفًا أَشْرَبُ أَيَّامي”، حيث يُحذف الضمير لتعميم التجربة.

– أعاد تشكيل الرموز التراثية والدينية (كعبد الرحمن الداخل والحجاج) لتعكس واقعًا معاصرًا، مثل تشبيه الصراعات العربية بصراعات شخصيات تاريخية.

– تحوّلت الانزياحات في شعره من مجرد أداة جمالية إلى وسيلة لتعبير عن أزمات الوجود والهوية، كتمثيل الحرب بلغةٍ أسطورية في قصيدة “عرس القاسم”.

نجح محمد علي شمس الدين في تحويل الانزياحات اللغوية إلى مكوّنٍ جوهريٍّ في شعريته، حيث مثّلت الانزياحات التركيبية والدلالية جسرًا بين الواقع والمتخيل، وبين التراث والحداثة. وجعلت هذه الانزياحات نصَّه الشعري فضاءً مفتوحًا للتأويل، يعكس تعقيدَ التجربة الإنسانية في مواجهة الوجود والصراع.

*مؤلّفة وباحثة، والدكتور بشير فرج من جامعة بيروت العربيّة هو الباحث المشترك، لبنان.

[1] مغربي، ملاك. قراءة في أعمال محمّد علي شمس الدين صعب وكثيف وفي شيء من المجازفة. بيروت: موقع المعارف الحكميّة،2010/ لا تاريخ للنشر. تاريخ الزيارة: 2 نوفمبر 2024م.

[2] كنوني، محمد. اللغة الشعريّة دراسة في شعر حميد سعيد. بغداد: دار الشؤون الثقافيّة، 1997م، ص:54.

[3] السد، نور الدين. الأسلوبيّة وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث، ج1. الجزائر: مطبعة دار هومة، 2010م، ص:189.

[4] كوهين، جان. بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري. الجزائر: دار توبقال للنشر، 1986م، ص:24.

[5] المرجع نفسه، ص:142.

[6] أحمد، محمد فتوح. الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، ط2. القاهرة: دار المعارف، 1978م، ص:37.

[7] المرجع نفسه، ص:40.

[8] شمس الدين، محمد علي. المجموعة الشعرية الكاملة، ج1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009م، ص:163.

[9] البياتي، عبد الوهاب. كنت أشكو إلى الحجر: حوارات. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1993م، ص:48.

[10] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:13.

[11] زيتون، علي. لغة محمد علي شمس الدين الشعرية. بيروت: حركة الريف الثقافية، 1996م، ص:87.

[12] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:13.

[13] المصدر نفسه، ص:20-21.

[14] المصدر نفسه، ص:347.

[15] الرواشدة، أميمة عبد السلام. شعريّة الانزياح – دراسة في الأعمال الكاملة للشاعر محمّد علي شمس الدين. الجزائر: جامعة مؤتة، 2005م، ص:89-90.

[16] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:301.

[17] المصدر نفسه، ص:302.

[18] المصدر نفسه، ص:225.

[19] المصدر نفسه، ص:62.

[20] المصدر نفسه، ص:35.

[21] مبروكة، عزاوي. الرمز الديني في شعر محمد بلقاسم خمار، (رسالة جامعيّة). الجزائر: كلية الآداب واللغات، 2013م، ص:21.

[22] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:519.

[23] المصدر نفسه، ص:430.

[24] مطلوب، أحمد. معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها. العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1983م، ص:201-201.

[25] الغذامي، عبد الله. الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، قراءة نقديّة في نموذج إنساني معاصر مقدمة نظريّة ودراسة تطبيقيّة. مصر: النادي الأدبي الثقافي، 1985م، ص:31.

[26] أبو ديب، كمال. في الشعرية، ط1. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987م، ص:28.

[27] كوهين، جان. بنية اللغة الشعرية. ص:106.

[28] المسدي، عبد السلام. الأسلوبية وتحليل الخطاب، ط1. تونس: الدار العربية للكتاب، 1977م، ص:86.

[29] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص 381.

[30] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:260.

[31] كوهين، جان. بنية اللغة الشعرية. ص:138.

[32] المرجع نفسه، ص:178.

[33] جاكبسون، رومان. قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الوالي ومبارك حنون. المغرب: دار توبقال للطباعة والنشر، 1988م، ص:83.

[34] جفرسون، آن. النظرية الأدبية الحديثة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1992م، ص:58.

[35] المرجع نفسه، ص:180.

[36] الجرجاني، عبد القاهر. دلائل الإعجاز في علم المعاني. لبنان: دار الكتب العلميّة، 1988م، ص:83.

[37] قندريس. اللّغة. ترجمة: عبد الحميد الدواخلي ومحمّد القصّاص. مصر: مكتبة الأنجلو المصرية، 1950م، ص:178.

[38] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة.  ص:117.

[39] المصدر نفسه، ص:180.

[40] سيبويه. الكتاب، تح. عبد السلام هارون، ج1، ط3. القاهرة: مطبعة الخانجي، 1988م، ص:34.

[41] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:23.

[42] بارت، رونالد. مدخل الى التحليل البنيوي للقصص الأعمال الكاملة 2، ترجمة: منذر العياشي. الجزائر: مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م، ص:44.

[43] سيبويه. الكتاب. ص:24.

[44] ابن جني، عثمان أبو الفتح. الخصائص، تح. محمد علي النجار. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1994م، ص:364.

[45] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:11.

[46] سرور، علي. “محمد علي شمس الدين في جديده (يحرت في الآبار).. العالم قاس وقاتم ومكتمل على غموض وكآبات”، صحيفة البيان-www.albayan.ae، تاريخ النشر: 28 مارس 1999م، تاريخ الزيارة: 20 أبريل 2024م.

[47] عبد المطلب، محمد. البلاغة والأسلوبية. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م، ص:159.

[48] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص:377.

[49] المصدر نفسه، ص:103.

[50] الجرجاني، عبد القاهر. دلائل الإعجاز في علم المعاني. ص: 116.

[51] شمس الدين. المجموعة الشعرية الكاملة. ص: 118.

[52] المصدر نفسه، ص:146.

المصادر والمراجع

  • ابن جني، عثمان أبو الفتح. الخصائص، تح. محمد علي النجار. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1994م.
  • أبو ديب، كمال. في الشعرية، ط1. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987م.
  • أحمد، محمد فتوح. الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، ط2. القاهرة: دار المعارف، 1978م.
  • بارت، رونالد. مدخل الى التحليل البنيوي للقصص الأعمال الكاملة 2، ترجمة: منذر العياشي. الجزائر: مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م.
  • البياتي، عبد الوهاب. كنت أشكو إلى الحجر: حوارات. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993م.
  • جاكبسون، رومان. قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الوالي ومبارك حنون. المغرب: دار توبقال للطباعة والنشر، 1988م.
  • الجرجاني، عبد القاهر. دلائل الإعجاز في علم المعاني. لبنان: دار الكتب العلميّة، 1988م.
  • جفرسون، آن. النظرية الأدبية الحديثة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1992م.
  • الرواشدة، أميمة عبد السلام. شعريّة الانزياح – دراسة في الأعمال الكاملة للشاعر محمّد علي شمس الدين. الجزائر: جامعة مؤتة، 2005م.
  • زيتون، علي. لغة محمد علي شمس الدين الشعرية. بيروت: حركة الريف الثقافية، 1996م.
  • السد، نور الدين. الأسلوبية وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث، ج1. الجزائر: مطبعة دار هومة، 2010م.
  • سيبويه. الكتاب، تح. عبد السلام هارون، ج1، ط3. القاهرة: مطبعة الخانجي، 1988م.
  • شمس الدين، محمد علي. المجموعة الشعرية الكاملة، ج1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009م.
  • عبد المطلب، محمد. البلاغة والأسلوبية. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م.
  • الغذامي، عبد الله. الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، قراءة نقديّة في نموذج إنساني معاصر مقدمة نظريّة ودراسة تطبيقيّة. مصر: النادي الأدبي الثقافي، 1985م.
  • قندريس. اللّغة. ترجمة: عبد الحميد الدواخلي ومحمّد القصّاص. مصر: مكتبة الأنجلو المصرية، 1950م.
  • كنوني، محمد. اللغة الشعريّة دراسة في شعر حميد سعيد. بغداد: دار الشؤون الثقافيّة، 1997م.
  • كوهين، جان. بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري. الجزائر: دار توبقال للنشر، 1986م.
  • مبروكة، عزاوي. الرمز الديني في شعر محمد بلقاسم خمار، (رسالة جامعيّة). الجزائر: كلية الآداب واللغات، 2013م.
  • المسدي، عبد السلام. الأسلوبية وتحليل الخطاب، ط1. تونس: الدار العربية للكتاب، 1977م.
  • مطلوب، أحمد. معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها. العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1983م.

حمل المقالة