رواية المرأة العربية لليافعين رواية “لمن هذه الدمية؟” أنموذجًا

يعنى هذا البحث بدراسة إسهامات المرأة في الرواية العربية لليافعين، والنظر في القضايا التي تعالجها، وذلك من خلال نموذج روائي للكاتبة تغريد النجار بعنوان

أ. إيمان محمود عبد الحميد الشاويش*

ملخص البحث

يعنى هذا البحث بدراسة إسهامات المرأة في الرواية العربية لليافعين، والنظر في القضايا التي تعالجها، وذلك من خلال نموذج روائي للكاتبة تغريد النجار بعنوان “لمن هذه الدمية؟”. لقد أدّت المرأة العربية دورًا ملموسًا في فنون الأدب العربي عامة والرواية العربية خاصة، تجاوبًا مع تغيرات العصر الحديث، وتفاعلاً مع مختلف قضايا الحياة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية وغيرها. وقد أولت المرأة العربية لأدب الأطفال عناية كبيرة في مجال القصة القصيرة خاصة، ويعد الاهتمام بأدب اليافعين اهتمامًا متأخرًا في وطننا العربي؛ إذ نجد قلة اهتمام في هذا الميدان.

وتمثل رواية “لمن هذه الدمية؟” نموذجًا روائيًا عربيًا يعنى بتشكيل الوعي الوطني لدى اليافعين، وتجلية الحقائق التاريخية بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وحفظ الذاكرة والهوية مع تعاقب الأجيال.

كلمات مفتاحية: أدب اليافعين، تغريد النجار، رواية المرأة، الناشئة، الهوية.

مقدمة

يتناول هذا البحث دراسة دور المرأة في الرواية العربية الموجهة إلى اليافعين. “لقد دخل أدب الأطفال في عصرنا الحالي صلب عملية تنشئة الأطفال بجميع أبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية، فهو بما يحمله من مضامين تؤثِّر في سلوك الأطفال واتجاهاتهم ويسهم في بناء شخصياتهم التي تقوم عليها في المستقبل شخصية المجتمع الجديد. لهذا يضطلع بوظائف كبرى في عمليات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية”[1]. وعلى الرغم من الاهتمام المتأخر بأدب الأطفال في الوطن العربي، إلا أن الجهات الرسمية كالجامعات، وبعض المؤسسات الثقافية، أخذت تولي لأدب الأطفال والناشئة عناية كبيرة، وذلك بتخصيص مقررات دراسية خاصة تحت مسمى أدب الأطفال، وكذلك عقد مسابقات عدة في مجال الكتابة للأطفال واليافعين. ولا يمكن إغفال أهمية الكتابة للأطفال بمختلف فئاتهم العمرية، حيث يسهم  هذا الأدب في التربية النفسية والاجتماعية والثقافية بصورة سليمة.

إنّ لكل مرحلة من مراحل عمر الطفل حاجاتها البيولوجية والنفسية، وإن لمرحلة الناشئة التي تتضمن الفئة من 13-18 خصوصيتها التي تفضي إلى ضرورة إيجاد المعارف الملائمة لها، والتأكد من توافق ما يقدم لها من رعاية على المستوى الأدبي بما يتوافق ونموها[2].

و”الأصل أن يكون الأدب الموجه للطفل خاضعا لمستواه، ومراعيا لفئاته العمرية، لأن الرسالة -النص- تخاطبه، وبالتالي من الأنسب أن يكون محكوما بثقافته وعمره ووجدانه وبيئته”[3]. ومن هنا فينبغي الكتابة في القضايا التي تشغل اليافعين والتواصل معهم للاطلاع على مشكلاتهم[4]، وبالتالي يجب تقمص دور اليافعين لمعرفة الطريقة التي يفكرون بها والاهتمامات التي تجذبهم والمشاعر والانفعالات التي تميز مرحلتهم العمرية دون إغفال أهمية التوجيه والارتقاء بالمستوى المعرفي والوجداني والجمالي لهذه الفئة.

ومن الجدير بالذكر أنّ الطفل الفلسطيني يفرض عليه الواقع الذي يعيشه وينتمي إليه حاجة ملحة للارتباط بالوطن الذي تعرض للاحتلال، ويحمّله مسؤولية فَهْم ما يدور حوله سواء كان ممن بقي في أرضه أو تشرّد عنها. و”من هنا يأتي حقنا بالاحتفاء بقصص موجهة للأطفال، قادرة على هدم مكونات سياسية أحادية الجانب مغرضة، ترد في إطار ثقافة أصلية تتحدى وتحاول أن تفند أقوالا كثيرة كتلك التي يصدرها الفكر الصهيوني، في مسار يقترب من قراءة مضادة مؤثرة وفاعلة، تمتلك قدرة على تعرية التناقضات المحبوكة في الوجود الشكلي لنص ما. لا بد من الاعتناء بنصوص قادرة على هدم مكونات الحادثة الثقافية الصهيونية، وإعادة تركيبها… فالطفل العربي معنيّ بمعرفة الحقيقة، وهو ما يمكن تحقيقه عبر إطار فاعل في الكتابة يتبنى حالات كتابية تنحو إلى تفكيك خطاب الاحتلال، فتكشف للطفل في كل مكان عما حدث لفلسطين من وجهة نظر من وقع عليهم الظلم، مما يعد جزءا من ذاكرة فلسطينية لا بد من أن يحتفظ بها العقل والقلب معا”[5].

وقد تناول البحث الحديث عن دور الرواية في تشكيل الوعي تجاه “القضية الفلسطينية” ممثلا بالهوية والتراث العربي الفلسطيني، من خلال تحليل الأحداث والحوارات التي تمر بها الطفلة اليافعة في رواية “لمن هذه الدمية؟”.

كما تناول البحث صورة الآخر في الرواية؛ فقد ميّزت رواية “لمن هذه الدمية؟” بين صورتين للآخر، الأولى تمثلت بالآخر الصهيوني المحتل أو المؤيد للصهيونية والاحتلال، والثانية تمثلت بالآخر المفند للاحتلال المفتت للسردية الصهيونية.

مشكلة الدراسة

يمثل الأدب الذي تقدمه المرأة رافدًا مهمًا ومحوريًا في الأدب العربي ولا سيما الفن الروائي، يستحق الدراسة والتحليل. وفي مجال الرواية الموجهة إلى اليافعين كان للمرأة دور كبير في تسليط الضوء على هذه الفئة وإن كانت الرواية العربية الموجهة إلى اليافعين ما زالت بكرا. لذا يسعى هذا البحث لدراسة عمل فني روائي نسوي موجه لليافعين مستجليا الخصائص الموضوعية والفنية فيه.

أسئلة الدراسة

تطمح هذه الدراسة إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية:

– ما الرؤية التي تحملها رواية موجهة إلى اليافعين، ممثلة برواية “لمن هذه الدمية؟”؟

– هل نجحت الكاتبة في خطابها الروائي لليافعين فنيا على الرغم من تحميله بقضايا وموضوعات سياسية ووطنية؟

– كيف رسمت الرواية صورة الآخر؟

– كيف صورت الرواية المكان “فلسطين المحتلة” في ذهن المتلقي اليافع؟

أهمية الدراسة

تكمن أهمية هذه الدراسة في:

– تسلّط الضوء على نموذج روائي نسوي لليافعين؛ إذ تعد الروايات في هذا المجال ريادية.

– تكشف بعضًا من الخصائص الموضوعية والفنية للروايات الموجهة إلى اليافعين.

– تبين بعض إسهامات المرأة في الأدب العربي خاصة الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين.

– تدرس نموذجًا روائيًا يتناول قضية مصيرية تتعلق بالوجود العربي والاحتلال الصهيوني لفلسطين.

– تبين صورة الآخر، وتكشف سرديته وفق رؤية الرواية.

منهج الدراسة

فرضت طبيعة الدراسة قراءة النص الأدبي غير مرة، والوقوف عند ملامح الظاهرة المدروسة، ووصفها وتحليلها وتعليلها، وربطها بسياقها الاجتماعي، والبحث عن الشكل الذي قدم فيه المحتوى ودلالته، واقتضى ذلك الاستعانة بالمنهجين الاجتماعي والجمالي.

الرواية وتشكيل الوعي تجاه “القضية الفلسطينية” ممثلا بالهوية والتراث العربي الفلسطيني

تعبّر الهوية عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الأساسية والجوهرية، التي تميّزه عن غيره وتجعله متفردًا، كما تعبر عن خاصية المطابقة؛ أي مطابقة الشيء لنفسه أو لمثيله. فالهوية الثقافية لأي شعب هي المقدار الثابت والأساسي والجوهري والمشترك من السمات والقسمات والخصائص العامة التي تميّز حضارة عن غيرها من الحضارات. إن انعدام شعور الفرد بهويته نتيجة عوامل داخلية وخارجية قد يولّد لديه أزمة في الهوية التي تفرز بدورها أزمة في الوعي، فتؤدي إلى ضياع الهوية نهائيا[6]، والهوية لا تتجزأ، ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ولا تصنف في خانات محدودة ومنفصلة عن بعضها البعض… بل هوية واحدة من مجموعة عناصر لا تتطابق بين شخص وآخر[7].

ومن هنا ينبغي تربية وتعزيز الأجيال الصاعدة لتمثل هذه الهوية دون شوائب أو تشوهات ليكون لديهم الوعي الكافي لفهم الثوابت التي تشكل الشخصية الحضارية.

 وتبدو الذاكرة عن الوطن لدى الفلسطيني الذي يحلم بأرضه المفقودة، كرحم دافئ وجليل، لا نقص فيه ولا خلل. كما لو كانت الذاكرة بيتا قديما من بيوت القرى، التي كانت والتي تضيف إليها ذاكرة اللاجئ ما شاءت من ألوان وصور الجمال[8] .

وتنعكس هذه الذاكرة بصورة جلية في رواية “لمن هذه الدمية؟”[9]، فبينما تخوض الجدة “ليلى” رحلتها في البحث عن دمية لحفيدتها الصغيرة ندى البالغة من العمر خمس سنوات. تعرض الرواية من خلال السرد والحوار بعض القضايا المتعلقة بالوجود العربي والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. فمع أن أحداث الرواية يدور معظمها في “شيكاغو” في الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن الشخصية الرئيسة “ليلى” تعرض جانبًا كبيرًا من حياتها وحياة أسرتها في فلسطين ولبنان من خلال استرجاع العديد من الذكريات التي ترتبط بها أحداث الرواية بطريقة أو بأخرى.

ويشكل العنوان شبكة دلالية لافتتاح النص والانطلاق منه نحو جذب المتلقي وتبئيير انتباهه[10]. ويمثل عنوان الرواية “لمن هذه الدمية؟” العتبة الأولى التي تثير المتلقي وتشعل فضوله لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال الذي سترتبط به أحداث الرواية من خلال رحلة مثيرة تقوم بها الحفيدة “أروى” لمعرفة كيف وصلت دمية جدتها ليلى إلى شيكاغو بعد أن تركتها في فلسطين بعد الاحتلال لأكثر من خمسين عامًا.

وتصل الحفيدة إلى الدمية من خلال بحثها عن دمية شبيهة بدمية جدتها في شبكة الإنترنت في أحد المواقع الإلكترونية، بالصدفة تجد لعبة جدتها نفسها، مما يثير حماستها وفضولها لمعرفة السر الكامن وراء الدمية.

إن الدمية تشكل حلقة البحث عن الحق الضائع وعن الوطن المسلوب، من خلال تعريف المتلقي اليافع بتاريخ فلسطين وحقيقة الاحتلال؛ إذ تعيد تشكيل الوعي وتعزز الانتماء وتحدد الموقف من الآخر من خلال توضيح الهوية الحقيقية للمكان وللإنسان.

ونجد ذلك في غير موضع في النص الروائي؛ فسعيد صديق أروى “الحفيدة اليافعة” يقول متحمسًا بعد أن عرف بأمر الدمية: “ألن يكون رائعًا ومثيرًا لو تمكنا من أن نعرف ماذا حصل للدمية منذ أن تركتها جدتك في بيت عائلتها في يافا سنة 1948م إلى أن عثرت عليها حفيدتها بالصدفة في الولايات المتحدة عام 2002م؟ أظن أن جدتك ستفرح كثيرا لو تمكنا من ذلك، فهذه الدمية تعني لها الكثير”[11]. وفي حوار ليلى الخيالي مع الدمية تعرض جانبًا من المعاناة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني نتيجة الاحتلال الصهيوني، وتبين الهجرة الاضطرارية نتيجة تنكيل الاحتلال: “هل أنت غاضبة مني لأنني تركتك في يافا؟ لا… لا تغضبي مني، فلم يكن بمقدوري أن آخذك… أتذكرين أصوات طلقات الرصاص في المدينة والانفجارات المتتالية؟… أتذكرين الشعور المتسمّر بالرعب ونحن نسمع عن أعداد الذين قتلوا والذين طردوا من بيوتهم وقراهم…”[12].

إن ذكريات ليلى محملة بالألم والقهر الذي لم يرحم طفولتها، فعلقت ذكريات فظيعة لما جرى لأهلها وللناس حين هاجمهم الاحتلال. فتقول مسترجعة ذكرياتها: “كان البحر يعجّ بجموع الناس التي تبحث عن طريق الخلاص من جحيم الحرب والعدوان، حيث كانت قوات الهاجناه والبلماح تلاحقهم وتطلق عليهم الرصاص لتحثهم على المغادرة…”[13].

وهكذا شكّل تيار الاسترجاع مصدرًا مهمًا في البناء السردي؛ للكشف عن الذكريات التي تحمل صورة الماضي، والحقيقة التي تحرص رؤية الرواية على إيصالها لجيل اليافعين الذين لم يروا الوطن “فلسطين” وربما يخشى أنهم لم يرتبطوا به حق الارتباط.

ومن هذه الصور السردية التي تعمل على حفظ الذاكرة، وبالتالي حفظ تاريخ أمة وهوية شعب من الضياع، تقول الجدة: “كانت الأخبار التي تردنا من فلسطين تزداد سوءًا يومًا بعد يوم… أعلن اليهود دولتهم وانتصروا في طرد أهل البلد، ووضعوا بعض من تبقى في سجون مفتوحة، من المفارقة أنهم أسموها “جيتو” وفرضوا على آخرين الحكم العسكري حيث منعوهم من مغادرة مدنهم أو بلداتهم دون الحصول على إذن من السلطات العسكرية فيها. احتلت عائلات يهودية مهاجرة البيوت العربية بأثاثها وذكرياتها وأحلام من عاشوا فيها”[14].

وفي استرجاع ليلى للذكريات عرضت الرواية نموذج الأم المثابرة، تلك المرأة التي لا يكسرها الاحتلال وتساند عائلتها في أحلك الظروف. “أما أمي، فقد كانت حقا سيدة رائعة أثثت لنا بيتا جميلا من أقل القليل. اشترت من بائع الخضار صناديق خشبية، واشترت من سوق “سرسق” للأقمشة قطعا من عينات وبواقي القماش بسر بخس. ثمّ حوّلت الصناديق الخشبية إلى خزانتين، واحدة للملابس وأخرى للأحذية…”[15].

وتكرس الرواية حرص الأم على أن يتقلى أولادها التعليم مهما كانت الظروف فغرس قيمة العلم من أعظم القيم التي لم تغفلها الرواية.

“بعد أن سجلنا أبي في المدارس، قال عاهد: “سأعمل وأساعد أبي، لا حاجة لي للدراسة وللمدرسة. “كانت أول مرة أرى فيها أمي غاضبة لهذه الدرجة. صرخت في وجهه قائلة: “ماذا تقول يا ولد؟ أهم شيء في الدنيا العلم والمدرسة، بدون العلم ما بيسوى الإنسان شي. اسمعوا مني منيح، ما رح يفيدكم غير العلم. حطوها حلقة بودنكم …حتى لو متنا من الجوع بتكملوا تعليمكم… سامعين شو بقول؟ اللي بدو يشتغل منكم يشتغل بالاجازات وأيام العطل”[16].

لقد راوح البناء السردي في تشكيله للهوية الوطنية بين الماضي ممثلا بالذكريات، والحاضر ممثلا بإلقاء المحاضرات وعقد المؤتمرات، فالذاكرة تستحضر المكان “فلسطين” الذي لم يكن سهلا على أهله مغادرته، فتبقى صورة المكان حاضرة لارتباطه بالهوية والجذور.

“يا ابني، عندما غادرنا يافا، كنا نظنّ أننا سنعود بعد أن تهدأ الأوضاع. اعتقدنا أننا سنغيب بضعة شهور في أسوأ الأحوال. لم يرغب أبي بمغادرة يافا أبدا، كيف يرغب أحد في ترك وطنه؟ أبي يعشق يافا، فبيتنا الذي يعتز به هناك وكذلك عمله وأصدقاؤه وباقي أفراد عائلته؛ لكنّ الأمور بدأت تسوء في يافا، وأمي كانت حاملا في الشهر السادس…”[17].

ومن خلال دعوة سعيد لصديقته أروى حفيدة الدكتورة ليلى، تظهر الرواية اهتمامًا خاصًا بمدينة يافا التي تعد من أوائل المدن الفلسطينية التي تعرضت للاعتداء من قبل الصهاينة ومن ثم احتلال هذه المدينة مع العديد من المدن الفلسطينية الأخرى.

يقول سعيد: “للأسف نسيت أن آخذ رقم هاتفك بعد المحاضرة، فطلبته من جدتك. أرجو ألا تمانعي. أنا رئيس نادي السينما في الجامعة، وأرجو أن تقبلي دعوتي لحضور عرض خاص لفيلم “نعيم ووديعة” للمخرجة نجوى نجّار. أنا متأكد أنه سيعجبك فهو يحكي قصة مدينة يافا قبل عام 1948م. أليست هذه مدينة أجدادك في فلسطين؟…”[18].

وتمثل ليلى الشخصية الوطنية الفاعلة، فهي أستاذة جامعية وناشطة في التعريف بهوية فلسطين، وهي تستعد لإلقاء محاضرة في جامعة “دي بول” بعنوان “سرقة التراث والهوية الوطنية. كيف نتصدى لها؟”[19]، فنلاحظ اهتمام الرواية بتناول موضوعات مهمة كالتراث والهوية الوطنية وهي محملة بالتساؤلات التي تثير اهتمام وفضول اليافع لمعرفة دلالاتها.

إن الرواية تسعى لتعميق الهوية العربية الفلسطينية ولتجليتها من أية شوائب يشوهها الاحتلال من خلال تركيز الرواية على إبراز ملامح التراث سواء في الأزياء، أو الأثاث، أو الفنون، أو أسماء الأماكن والمعالم في فلسطين.

تقول ليلى مستعيدة ذكريات طفولتها: “خرجت مع إخوتي إلى المدرسة. ذهب عاهد وحسني وعوني باتجاه طريق مدرسة العامرية، أمّا أنا ومريم فمضينا في الاتجاه المعاكس نحو مدرسة الزهراء” [20] ، مع توضيح في الهامش أن هذه أسماء مدارس للذكور والإناث في مدينة يافا.

وتقول معرّفة ببعض أسماء الألعاب التراثية: “بينما تحلقت بعض الفتيات في مجموعات وهن يلعبن” الإكس” و”نط الحبل”….”[21]. ومن خلال لباسها تحاول ليلى الحفاظ على هويتها: “كانت نظارات القراءة تتدلى حول رقبتها، وشال مزيّن بالتطريز الفلسطيني يلف كتفيها، كان الشال شعارها الدائم الذي تضعه على كتفيها في كل محاضرة، وفي كل مقابلة تلفزيونية” [22]. بالإضافة لذكر بعض المناسبات التراثية والوطنية كموسم النبي روبين وموسم قطف ثمار البرتقال[23].

ويبقى أن نشير إلى بناء الأحداث التتابعي على الرغم من استحضار الذكريات إلا أن مجريات الأحداث والمغامرة التي تقوم بها الحفيدة أروى للبحث عن دمية الجدة تسير بخيط حدثي مترابط ومتتابع، يدفع بعضه بعضا إلى الأمام. وهناك من يشير إلى أن ذلك مفتاح النجاح في بناء رواية الفتيان ووفق نسق التتابع هو عينه الذي جعل من هذا النسق مقبولا بل ملائما لهذه الرواية ولقارئها،أي أن يسير الخط الحدثي باستقامة واتجاه واحد إلى الأمام (المستقبل)، بدون قطع أو خلخلة أو تعقيد أو تشابك مما قد نجده في غالبية الأنساق الأخرى[24].

صورة الآخر في رواية لمن هذه الدمية؟

ميّزت رواية “لمن هذه الدمية؟” بين صورتين للآخر، الأولى تمثلت بالآخر الصهيوني المحتل أو المؤيد للصهيونية والاحتلال، والثانية تمثلت بالآخر المفند للاحتلال المفتت للسردية الصهيونية.

أ صورة الآخر المؤيد للصهيونية

فنجد فئة من الحضور في المحاضرة التي تلقيها الدكتورة ليلى عن التراث الفسطيني تثير شغبا وتشويشا؛ لأنها ترفض الاعتراف في حق الفلسطينيين بفلسطين..”امتلأت القاعة بالحضور الذين كان معظمهم من طلاب الجامعة، وكان بعضهم من الجالية العربية في المدينة. وكالعادة في مثل هذه اللقاءات، فقد جلست مجموعة من الشباب الذين ارتدوا قمصانا قطنية عليها رموز صهيونية في الصف الخلفي في أحد جانبي القاعة، وهم على أهبة الاستعداد للمشاغبة والتشويش على المحاضرة”[25].

لقد أثّر هذا الحدث في الحفيدة أروى ودفعها للتمسك أكثر بهويتها وجذورها والدفاع عن الحقيقة الغائبة:

“خرجت أروى من القاعة وهي ترتجف غضبًا. لم تكن لتهتم قبل هذا اليوم بالنقاش الدائر حول فلسطين، فلطالما اعتبرته موضوعًا سياسيًا مملاً بامتياز، فهو لا يعنيها شخصيا ولا حاجة لأن تفهمه أو تتفاعل معه؛ فهي كما كانت تقول لنفسها أمريكية المولد، ولكنها عندما استمعت لجدتها وهي تتحدث بشغف وقوة ويقين، شعرت لأول مرة بالانتماء إلى جذورها، وأيقنت أن ما تشعر به أكبر من الولادة بكثير”[26].

 وهكذا تسعى الرواية لربط اليافع العربي بهويته وبقضايا أمته وفهم حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، دون تحويل النص الروائي لمجرد معلومات تاريخية جافة. كما مثلت خاتمة الرواية لحظة التنوير وهي تمسك الجيل الجديد بوطنه وعدم نسيانه كما يدعي الاحتلال.

وفي مطار اللد أثناء زيارة ليلى وحفيدتها أروى لفلسطين تتم معاملتها من قبل جنود الاحتلال بطريقة فظة حين عرفوا أن ليلى من أصل فلسطيني. أما المرأة التي سكنت في بيت ليلى وأهلها في فلسطين فقد استاءت من زيارة ليلى لبيت أهلها وقامت بطردها.

ب صورة الآخر المفند للصهيونية

وتمثلت هذه الصورة بشخصية “نوريت” التي كانت وعائلتها أول من سكن بيت ليلى بعد أن تم تهجيرها وأهلها منه، إلا أن نوريت وقفت موقفا معاديا للاحتلال، وغادرت فلسطين معترفة بأحقية الفلسطينيين فيها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل عملت كناشطة لحقوق الإنسان، وقامت بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين في محاكم الاحتلال ثم في الولايات المتحدة الأمريكية. تقول “نوريت” لليلى بعد أن تقابلتا في الولايات المتحدة بعد مغامرة البحث عن رحلة الدمية التي قامت بها أروى وصديقتها: “أظن أنّ من حقك أن تعرفي ما حصل بعد أن غادرتم بيتكم. لا يوجد عندي كلمات تبرر كلّ ما حدث وما زال يحدث حتى الآن. ولكن منذ أن كنت طفلة في نفس عمرك، وأنا أشعر بفداحة ما قمنا به…”[27].

ويصوّر السرد فداحة أن تتحول الضحية إلى جلاّد فلا يبرر احتلال فلسطين وتشريد أهلها الاتكاء على ما تعرض له بعض اليهود من قبل أوروبا من اضطهاد أو تمييز. فتسرد “نوريت” كيف رحلت إلى فلسطين وهي طفلة صغيرة مع أهلها لتحل محل أسرة فلسطينية شردت عن بيتها ووطنها. فتقول: “ككثير من العائلات اليهودية، عانينا واضطهدنا في أوروبا. كثير من أفراد عائلتي أعدموا في “المحرقة النازية”… أنا لا أحاول أن أتبرأ مما فعلناه بكم، أو أن أختلق أعذارا لأبرر ما حلّ بكم بسببنا… ثم “تقص عليها ما حدث معهم في أوروبا والوعد بأرض اللبن والعسل”[28]. وهذا الأمر دفعها لتصبح ناشطة في حقوق الإنسان “منذ أن هاجرت نوريت إلى الولايات المتحدة ما برحت تعمل بنشاط مع الجمعيات اليهودية المساندة لحقوق الفلسطينيين حيث حرصت على المشاركة في جميع أنشطة هذه الجمعيات، فكتبت المقالات في الصحف، وشاركت في المظاهرات المساندة لحق الفلسطينيين في العودة”[29].

لقد تركت “نوريت” فلسطين لأنها لم تستطع أن تشارك في مأساة الشعب الفلسطيني. وكأن هذه دعوة ضمنية للآخر المنصف في اتخاذ قرار حاسم والانسحاب من المشاركة في الظلم الواقع على الإنسان الفلسطيني. إنّ قصة الدمية وعودتها إلى الجدة قد ترمز إلى الحق الذي لا بدّ أن يعود في النهاية إلى أصحابه وكذلك حين أعادت “نوريت” دفتر المذكرات الخاص بليلى يؤكد هذا الأمر؛ فالحق ينبغي أن يعود إلى أصحابه.

وإذا حاولنا تعليل تقديم الرواية لصورتين مختلفتين للآخر فيمكن القول بأن الرواية تحاول تقديم رؤية حقيقية محددة عن حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي؛ فالآخر اليهودي لا يمثل طرفًا في الصراع إلا إذا كان محتلاً صهيونيًا، أو داعمًا للاحتلال، فالصراع ليس صراعًا دينيًا. ومن هنا يتشكل الوعي لدى المتلقي بتنحية الأطراف غير المشمولة بالصراع؛ فيصبح أكثر وعيًا وإدراكًا وتوازنًا في تعامله مع الآخر.

خاتمة البحث

سعى هذا البحث لتسليط الضوء على الجهود التي تبذلها المرأة العربية في رفد العمل الأدبي الروائي العربي الموجه إلى اليافعين خاصة، وقد تناولت هذه الدراسة رواية “لمن هذه الدمية؟” للكاتبة تغريد النجار، وقد توصلت الدراسة إلى:

– وازنت الرواية بين التشكيل الفني المناسب لفئة اليافعين من حيث الاهتمام بالمغامرة والتشويق وحب البحث والفضول، وتوظيف التكنولوجيا كالبحث والتسوق عبر الإنترنت وبين الرؤية التي ينهض عليها العمل الروائي بتعزيز قضايا الأمة لدى الناشئة، وتأكيد الهوية العربية لفلسطين، وتعرية السردية الصهيونية.

– ميّز النص الروائي بين صورتين للآخر، المؤيد للصهيونية والمفند لها، وبالتالي تحديد أطراف الصراع، وزيادة الوعي لدى الناشئة.

-حرص السرد على إبراز صورة المرأة المثقفة المكافحة، التي ترتبط بالوطن وقضاياه، بالإيمان والعلم والحوار المنفتح دون تعصب، كما تشير إلى الدور المهم الذي تمارسه المرأة في تنشئة الأطفال واليافعين وتثقيفهم ورفع الوعي لديهم.

– سعت الرواية لتعميق الهوية العربية الفلسطينية، ولتجليتها من أية شوائب يشوهها الاحتلال، من خلال تركيز الرواية على إبراز ملامح التراث سواء في الأزياء، أو الأثاث أو الفنون، أو أسماء الأماكن والمعالم في فلسطين.

– كما سعت الرواية لربط اليافع العربي بهويته وتاريخه وقضايا أمته، من خلال فهم حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي دون تحويل النص الروائي إلى معلومات تاريخية جافة.

* كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية، اليمن.

[1] عليان، ربحي. أدب الأطفال، ط1. عمان: دار صفاء للنشر والتوزيع، 2014م، ص:18.

[2] الهيتي، هادي. أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه، ط1. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م، ص:13.

[3] مقدادي، موفق. البنى الحكائية في أدب الأطفال، ط1. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2012م، ص:102.

[4] آيكن، جون. مهارة الكتابة للأطفال، تر: يعقوب الشاروني وسالي راجي، ط1. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2012م، ص:168.

[5] إبراهيم، رزان. إشكاليات ورؤى نقدية في قصص الأطفال، ط1. عمّان: الدار الأهلية للنشر، 2020م، ص:63.

[6] القلقيلي، عبد الفتاح وأحمد أبو غوش. الهوية الوطنية الفلسطينية، خصوصية التشكيل والإطار الناظم، ط1. فلسطين: المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2012م، ص:10.

[7] معلوف، أمين. الهويات القاتلة، تر: نهلة بيضون، ط4. بيروت: دار الفارابي، 2016م، ص:12.

[8] دراج، فيصل. ذاكرة المغلوبين، الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني، ط1. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي،2002م، ص:7.

[9] حازت رواية “لمن هذه الدمية؟” على جائزة اتصالات لكتاب الطفل في الإمارات عن فئة الأطفال واليافعين لعام 2019م.

[10] حليفي، شعيب. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، ط1. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة،2004م، ص:9.

[11] النجار، تغريد. لمن هذه الدمية؟، ط1. عمّان: دار السلوى، 2019م، ص:43.

[12] المصدر نفسه، ص:87-88.

[13] المصدر نفسه، ص:88.

[14] المصدر نفسه، ص:98.

[15] المصدر نفسه، ص:102.

[16] المصدر نفسه، ص:103.

[17] المصدر نفسه، ص:55.

[18] المصدر نفسه، ص:41.

[19] المصدر نفسه، ص:8.

[20]المصدر نفسه، ص:13.

[21] المصدر نفسه، ص:13.

[22] المصدر نفسه، ص:32.

[23] المصدر نفسه، ص:154-164.

[24] كاظم، نجم. رواية الفتيان خصائص الفن والموضوعات، ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014م، ص:225.

[25] النجار، تغريد. لمن هذه الدمية؟. ص:31.

[26] المصدر نفسه، ص:33.

[27] المصدر نفسه، ص:124.

[28] المصدر نفسه، ص:124 و126.

[29] المصدر نفسه، ص:185.

المصادر والمراجع

  • إبراهيم، رزان. إشكاليات ورؤى نقدية في قصص الأطفال، ط1. عمّان: الدار الأهلية للنشر، 2020م.
  • آيكن، جون. مهارة الكتابة للأطفال، تر: يعقوب الشاروني وسالي راجي، ط1. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2012م.
  • حليفي، شعيب. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، ط1. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة،2004م.
  • دراج، فيصل. ذاكرة المغلوبين، الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني، ط1. المغرب: المركز الثقافي العربي،2002م.
  • عليان، ربحي. أدب الأطفال، ط1. عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع، 2014م.
  • القلقيلي، عبد الفتاح وأحمد أبو غوش. الهوية الوطنية الفلسطينية، خصوصية التشكيل والإطار الناظم، ط1. فلسطين: المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2012م.
  • كاظم، نجم. رواية الفتيان خصائص الفن والموضوعات، ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014م.
  • مرتاض، هوية العلامات في العتبات. في نظرية الرواية، ط1. الكويت: المجلس الوطني للثقافة الفنون، 1998م.
  • معلوف، أمين. الهويات القاتلة، تر: نهلة بيضون، ط4. بيروت: دار الفارابي، 2016م.
  • مقدادي، موفق رياض. البنى الحكائية في أدب الأطفال، ط1. الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2012م .
  • النجار، تغريد. لمن هذه الدمية؟، ط1. عمّان: دار السلوى، 2019م.
  • الهيتي، هادي. أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه، ط1. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م.
    تحميل البحث