السياق اللغوي وأثره عند علماء أصول الفقه

لتحميل المقال كاملا انقر هنا

السياق اللغوي وأثره عند علماء أصول الفقه

السياق اللغوي وأثره عند علماء أصول الفقه

د. شريفة اليزيدي*  

Email: s_alyazeedi@uaeu.ac.ae

ملخص البحث:

اهتمّ علماء أصول الفقه والفقهاء بالسياق اللغوي اهتماماً كبيراً، وعولوا عليه كثيرا في استنباط الأحكام الفقهية، واعتدوا به وسيلة للكشف عن المعنى المقصود، وربطوا دلالة اللفظ والتركيب اللغوي بقصد المتكلم. وقد وضع الأصوليون عدة طرق لدلالة اللفظ والتركيب اللغوي على الأحكام ومقاصدها، واختلفت مذاهبهم في ذلك.

وفي نهاية البحث يتبين لنا أن الأصوليين اعتدّوا بالسياق اللغوي، وعولوا عليه كثيرا في استنباط الأحكام الفقهية، ويعد بحثهم في طرق الدلالة واستنباط القصد من الأحكام من أهم وأوسع المباحث التي تناولت السياق اللغوي بالدراسة والتحليل.

كلمات مفتاحية: السياق اللغوي، التركيب اللغوي، الأصوليون، الفقهاء، الدلالة.

Abstract:

The scholars of jurisprudential principles and the jurists were interested in the linguistic context and relied heavily on it in deriving the jurisprudential rulings. They used it as a mean to reveal the intended meaning and they also linked the significance of the words and the linguistic structures with the speaker’s intention. The Muslim legists have developed a number of ways to display the meanings and purposes of words and linguistic structures in their relations to the jurisprudence, but their ways differed in that.

At the end of the research, we find that the Muslim legists attached great importance to the linguistic context. Their research on the semantic ways and drawing out the purpose of the rulings is considered one of the most important studies that dealt seriously and analytically with the linguistic context.

مقدمة:

اهتم علماء أصول الفقه والفقهاء بالسياق اللغوي اهتمامًا كبيرًا وعولوا عليه كثيرًا في استنباط الأحكام الفقهية واعتدوا به وسيلة للكشف عن المعنى المقصود وربطوا دلالة اللفظ والتركيب اللغوي بقصد المتكلم، فقد يصدر اللفظ أو التركيب اللغوي من غير قصد فلا يعتبر مدلوله، ويصدر مع القصد فيثبت مدلوله، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: “وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ وأنَّها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدًا لها مريدًا لموجباتها، كما أنّه لا بد أن يكون قاصدًا للتكلم باللفظ مريدًا له فلا بدّ من إرادتين: إرادة المتكلم باللفظ اختيارًا، وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى أكدّ من إرادة اللفظ، فإنّه المقصود واللفظ وسيلة”[1].

فالواضح من قول ابن قيم الجوزية أن الأصوليين يركِّزون على أمرين: الأول هو المتكلم صاحب القصد، والثاني هو اللفظ والتركيب اللغوي الذي اختاره المتكلم للتعبير عن قصده، فالقصد هو المعول عليه في اختيار اللّفظ والتركيب اللغوي، وبذلك يكون اللفظ والتركيب اللغوي وسيلة للدلالة على المعنى الذي يقصده المتكلم؛ لذلك وضع الأصوليون عدة طرق لدلالة اللفظ والتركيب اللغوي على الأحكام ومقاصدها واختلفت مذاهبهم في ذلك فذهب الحنفية إلى أن طرق الدلالة أربعة أقسام هي[2] : دلالة العبارة، دلالة الإشارة، دلالة النص، دلالة الاقتضاء.

بينما كان مذهب المتكلمين يقسم طرق الدلالة إلى قسمين أساسيين هما:

دلالة المنطوق ودلالة المفهوم.

ودلالة المنطوق هي: “ما فهم من دلالة اللفظ قطعا في محل النطق”[3]، أي أن يدل الكلام المنطوق على معنى أو حكم مذكور في هذا الكلام.

أما دلالة المفهوم فهي: “ما فهم من اللفظ في غير محل النطق”[4]  أي أن اللفظ يدل على معنى أو حكم غير مذكور في الملفوظ.

1 دلالة المنطوق : تنقسم دلالة المنطوق إلى قسمين: دلالة المنطوق الصريح، ودلالة المنطوق غير الصريح[5].  ويقوم السياق اللغوي بدور رئيسي في تحديد المعنى المقصود من المنطوق الصريح وغير الصريح بوصفه صاحب العلاقة المباشرة لتحديد المعنى المراد قوله، وتظهر أهميته بشكل واضح في استنباط المعاني التابعة غير الظاهرة حيث إنه يقود السامع إلى إدراك معانٍ أخرى لا يدل عليها المعنى الظاهري للفظ أو التركيب اللغوي؛ لذلك سنقف بشيء من التفصيل على قسمي المنطوق عند الأصوليين باعتبارهما وسيلتين لاستنباط المعاني[6].

1-1- دلالة المنطوق الصريح: هو دلالة اللفظ أو التركيب اللغوي على القصد بمجرد سماعة من غير حاجة إلى تأمل أو إعمال فكرة ويستوي في ذلك أبناء اللغة الواحدة وقد عرّفه المتكلمون من الأصوليين بقولهم: “فالصريح ما وضع اللفظ له فيدل عليه بالمطابقة أو التضمن”[7]،  أما الأحناف من الأصوليين فقد أطلقوا عليه مصطلح (عبارة النص) وقد عرفوه بقولهم: “هو فيما سبق الكلام له وأريد به قصدًا”[8]، فالواضح من تعريف الفريقين أن المنطوق الصريح يقصد به الدلالة الأصلية التي يفيدها ظاهر اللفظ والتركيب اللغوي والتي ينتقل إليها الذهن انتقالا مباشرا فإذا ما استُخدِمت دلت بظاهر صيغتها على القصد الذي يريده المتكلم من اللفظ والتركيب اللغوي مثال ذلك قوله تعالى: “…. وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَواْ…. ” (البقرة:275) حيث دلّ النص بمنطوقه الصريح على جواز البيع وتحريم الربا فجواز البيع دلّ عليه التركيب اللغوي (وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ) وتحريم الربا دل عليه التركيب اللغوي (وَحَرَّمَ ٱلرِّبَواْ)[9].

1- 2 – دلالة المنطوق غير الصريح: وهو “ما لم يوضع اللفظ له بل يلزم مما وضع له فيدل عليه بالالتزام”[10]، أي أنّه المعنى أو الحكم المقصود ضمنا من اللفظ أو التركيب اللغوي وإذا وقفنا في هذا التعريف عند عبارة (فيدل عليه بالالتزام) فإنّنا سنجد أنّها تشير إلى أنّ دلالة المنطوق غير الصريح يقصد به الدلالة التابعة وهي الدلالة التي ينتقل الذهن فيها من اللفظ أو التركيب اللغوي إلى معناه الظاهر، ومنه إلى معنى آخر لازم له فدلالة معناه الظاهر تدل على معنى آخر يدركه المتلقي وتساعده على ذلك القرائن السياقية المختلفة، ويرى الأصوليون أنَّ الدلالة التابعة أو دلالة المنطوق وغير الصريح ينجم عن نوعين من علاقات المعنى:

النوع الأول: ما ينجم عن علاقات التفاعل بين الألفاظ ومعاني النحو وهو ما يعرف  بمصطلح العلاقات النسقية* أو السياقية. وهذا النوع من الدلالة التابعة يتكون من تظاهر ثلاثة أمور وهي:

  • بنية الإخبار.
  • السياق بشقيه المقالي والحالي.
  • الأسلوب.

النوع الثاني: ما ينجم عن التعبيرات الفنية كالمجازات والكنايات وهو ما يعرف بمصطلح العلاقات الاستبدالية.

ودلالة المنطوق غير الصريح على القصد يتفاوت أبناء اللغة الواحدة في إدراكها والاستدلال بها على قصد المتكلم فمنها البين الواضح الذي يدرك بأدنى تأمل ومنها الخفي الذي لا يدرك إلا بطلب تأمل وإعمال فكر ويستلزم ذلك معرفة كاملة بنظام اللغة الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي وكذلك معرفة الظروف والملابسات المحيطة بالنص، فقد يختلف الأسلوب في التركيب اللغوي باختلاف مكوناته أو باختلاف مواضع هذه المكونات بين الحذف والذكر أو بين التقديم أو التأخير والمعنى واحد فيظل قصد المتكلم واحدا غير مختلف وقد تتفق مكونات التركيب اللغوي ولكن تختلف معانيها فيكون القصد في هذه الحالة مختلفا باختلاف المعنى الذي تحمله مكونات التركيب اللغوي وفي ذلك يقول ابن القيم :”الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقديم والتأخير والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا”[11]. وقد قسم المتكلمون من الأصوليين دلالة المنطوق غير الصريح إلى ثلاثة أقسام هي: دلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء، ودلالة الإشارة، وقد اتفق الأصوليون الأحناف مع المتكلمين في تعريفها بنفس المصطلحات[12].

أ دلالة الاقتضاء: يحدث في بعض الحالات أن تتوقف استقامة الكلام على معنى لفظ مقدر خارج عن صيغة التركيب اللغوي وهذا المعنى المقدر هو ما يطلق عليه الأصوليون مصطلح (دلالة الاقتضاء) لأن استقامة الكلام تقتضي هذا المعنى المقدر وتطلبه ويعرفه الغزالي فيقول: “ما يسمى اقتضاء وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون في ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن قول المتكلم صادقا إلا به أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ  شرعًا إلاّ به، أو من حيث يمتنع ثبوته عقلا إلاّ به”[13]،  نفهم من هذا التعريف أن دلالة الاقتضاء يدل عليها لفظ مقدر غير منطوق في التركيب اللغوي وهذا اللفظ المقدر يكون مرتبطا بالضرورة مع ذلك التركيب اللغوي وعدم تقديره في التركيب اللغوي يؤدي إلى أحد الأمور التالية.

1- أن المتكلم غير صادق.

2- أن لا وجود للملفوظ في التركيب اللغوي شرعًا.

3- أن يمتنع ثبوت الملفوظ في التركيب اللغوي عقلاً.

ومن ذلك نستنتج ملحوظتين:

الملحوظة الأولى: أن دلالة الاقتضاء على القصد ليس طريق الدلالة بصيغة التركيب اللغوي أو بصيغة معناه بل هي بدلالة معنى اللفظ المقدر الذي اقتضته استقامة الكلام وهذا يعني أنَّ دلالة الاقتضاء عند الأصوليين تتعلق بالبنية العميقة وليس لها علاقة بالبنية السطحية المرتبطة بالكيفية التي يتم بها نطق التركيب اللغوي وتختلف البنية العميقة في الشكل عن البنية السطحية، ومصدر هذا الاختلاف هو اللفظ المقدر الذي عن طريقه تنشأ دلالة الاقتضاء فمثلا يتكون الشكل في البنية السطحية لقوله تعالى: وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا…. (يوسف:82). من وحدتين معجميتين ظاهرتين (اسأل، القرية) وتم بموجبهما نطق التركيب اللغوي، أما الشكل في البنية العميقة لهذا التركيب اللغوي ذاته فإنه يتكون من الوحدتين المعجميتين السابقتين بالإضافة إلى وحدة معجمية مضمرة هي (أهل) فالمعنى في الآية (واسأل أهل القرية) وهذه البنية العميقة هي المكون الدلالي للتركيب اللغوي السابق؛ أي أن معنى التركيب اللغوي يتوقف على وحداته المعجمية وعلى العلاقات النحوية التي بين هذه الوحدات المحتملة في البنية العميقة التي تظهر فيها وهذا يعني أن دلالة الاقتضاء تكون بواسطة الوحدات (الألفاظ أو التراكيب) المقدرة التي تضمنها البنية العميقة والتي تتطلبها استقامة الكلام، وقد تكون هذه الوحدات (الألفاظ أو التراكيب) المقدرة جزءً من التركيب اللغوي أو تركيبًا لغويًا تامًا أو أكثر من تركيب لغوي[14].

الملحوظة الثانية: أنَّ الألفاظ أو التراكيب المقدرة في البنية العميقة التي تتم بموجبها استقامة الكلام ثلاثة أنواع، وهي:

1- ما يجب تقديره لضرورة صدق الكلام ويقصد به مطابقة الكلام للواقع وعدم مخالفته له ولا تتحقق هذه المطابقة إلا بتقدير المحذوف  من التركيب اللغوي، ومثال ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “دفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”[15]، فإن ذات الخطأ والنسيان لم يرفعا عن الأمة بدليل وقوعها في كل منها مع أنَّ ظاهر نص الحديث يفيد أنّهما مرفوعان عنهما، وحتى يتطابق كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مع الواقع لا بد من تقدير محذوف من النص وهو كلمة (إثم) أي (وضع عن أمتي إثم الخطأ).. وبهذا التقدير يتم مطابقة الكلام للواقع.

2- ما يجب تقديره لضرورة صحة الكلام عقلا ويقصد به تصور صحة بنية التركيب اللغوي بتقدير المحذوف لتكون دالة على المقصود وهذا لا يعني أنَّ البنية السطحية للتركيب اللغوي لغو لا فائدة فيه إنّما هي سليمة التركيب نحويا ودلاليا غير أنّها لا تدل على القصد دلالة صحيحة إلا بتقدير المحذوف الذي تتضمنه البنية العميقة وقد يكون المحذوف جزءً من التركيب اللغوي كما في قوله تعالى: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ……”(المائدة:3) فإنه يقتضي إضمار كلمة (أكل) في البنية العميقة ليصح الكلام عقلا والتقدير (حرم عليكم أكل الميتة والدم).

3- ما يجب تقديره لصحة الكلام شرعًا مثال ذلك قوله تعالى: “أيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 184) فإنَّ صحة الكلام شرعًا تقتضي تقدير جملة (فأفطر) أي (من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر  فعدة من أيام أخر) فقضاء رمضان يرتبط بالإفطار للمريض والمسافر وذلك لإضمار جملة (فأفطر) التي يتوقف على تقديرها صحة الكلام شرعا[16].

ب دلالة الإيماء: وهي التي يكون فيها اللفظ أو التركيب اللغوي دالا على المقصود بمضمونه وليس بصيغته ومنطوقه وقد عرفها الغزالي بقوله: “فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب”[17]، وبالنظر في التعريف نرى أن دلالة الإيماء ترتكز على التعليل أو العلة التي تفهم من مضمون اللفظ أو التركيب اللغوي وليس من منطوقه ولولا هذه العلّة لكان اقتران الحكم باللفظ أو التركيب اللغوي غير مقبول حيث إنَّ الرابط بين الحكم واللفظ أو التركيب اللغوي هو التعليل المفهوم من اللفظ أو التركيب اللغوي والذي أدى إلى الحكم. ومثال ذلك قوله تعالى: “وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ  فاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (المائدة:38)حيث يفهم من مضمون لفظ التركيب اللغوي أنَّ السرقة علة للحكم بقطع اليد وهي غير منطوق  بها ولكنها لازمة لمعنى الفاء في قوله (فاقطعوا) إذ إنَّ حرف الفاء في اللغة يدل على التعقيب ويلزم من هذا المعنى الذي وضعت له الفاء معنى آخر وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها وهذا اللزوم حسب وضع اللغة وليس حسب العقل أو الشرع فصار بذلك الحكم بقطع اليد مقترنا بالدلالة المفهومة من اللفظ أو التركيب اللغوي وهو السرقة أي أن السرقة سبب للحكم بقطع اليد[18].

ج دلالة الإشارة: يعرفها البزدوي بأنها: “دلالة اللفظ على حكم غير مقصود ولا سيق له النص ولكنه لازم للحكم الذي سيق لإفادتها لكلام وليس بظاهر من كل وجه”[19] يقصد من ذلك أن دلالة الإشارة هي دلالة اللفظ أو التركيب اللغوي على معنى لازم للمعنى الأصلي ولكن لا يقصده المتكلم وهذا المعنى المدلول عليه بطريق الالتزام إنّما يدرك بواسطة التأمل أو خفائه بين المعنى الأول والمعنى الثاني فإذا كان التلازم ظاهرا فإنّ المعنى يفهم بأدنى تأمل، وإذا كان خفيا فإن المعنى يحتاج من المتلقي فضل تأمل ودقة نظر[20].  مثال ذلك قوله تعالى: “وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصلُهُ ثلاثُونَ شَهْراً …” (الأحقاف: 15)،  حيث نجد في تفسير هذه الآية عند الأصوليين أن “الثابت بالعبارة ظهور المنة للوالدة على الولد لأن السياق يدل على ذلك، والثابت بالإشارة أنَّ أدنى مدة الحمل ستة أشهر فقد ثبت بنص آخر أنَّ مدة الفصال حولان كما قال تعالى: “… وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ…” (لقمان:14) فإنما يبقى للحمل ستة أشهر ولهذا خفي ذلك على أكثر الصحابة رضي الله عنهم واختص بفهمه ابن عباس رضي الله عنهما فلما ذكر لهم ذلك قبلوا منه واستحسنوا قوله”[21].

يتضح من ذلك أنَّ الآية الكريمة جاءت في سياق إظهار فضل الأم (الوالدة) على الولد وهذا واضح من ظاهر الآية ولكن بالنظر الدقيق في مدة الحمل والفصال وهي ثلاثون شهرا وربط ذلك بقوله تعالى في آية أخرى بأنَّ مدة الفصال هي عامان أي أربعة وعشرون شهرًا فإنَّ المتبقي للحمل يكون ستة أشهر فقط وهي أقل مدة للحمل وهذا ما ثبت بالإشارة في هذه الآية وهذا الفهم الدقيق لهذا الحكم اختص به ابن عباس رضي الله عنهما ولم ينتبه إليه بقية الصحابة رضوان الله عليهم لتفاوتهم في فهم إشارة النص.

2- دلالة المفهوم: وهو ما يسميه الأصوليون الأحناف دلالة النص. ويعرفه السرخسي بقوله: “هو ما ثبت بمعنى النظم لغة لا استنباطا بالرأي لأنَّ للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به فالألفاظ مطلوبة للمعاني وثبوت الحكم بالمعنى المطلوب به وهو الإيلام ثم ثبوت الحكم بوجود الموجب له فكما أنَّ في المسمى الخاص ثبوت الحكم باعتبار المعنى المعلوم بالنظم لغة فكذلك في المسمى الخاص الذي هو غير منصوص عليه يثبت الحكم بذلك المعنى”[22].  نفهم من ذلك بأن دلالة المفهوم أو دلالة النص – كما يسميها الأحناف-تدل على أن القصد يفهم من المعنى الذي  يدل عليه اللفظ أو التركيب اللغوي لغة ولا تدل عليه صيغة اللفظ أو التركيب اللغوي صراحة وسمي مفهوما لأن اللفظ أو التركيب  اللغوي دل على أمر غير مصرح به، وهذا الأمر فهم بواسطة دلالة المعنى اللغوي الذي دلّ عليه معنى اللفظ أو التركيب اللغوي.

ومثال ذلك قوله تعالى: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً” (الإسراء:23) فالواضح من ظاهر الآية أن النهي هو عن التأفيف، والتأفيف له صورة معلومة ومعنى هو الأذى وباعتبار هذا المعنى المعلوم لغةً تثبت الحرمة في سائر أنواع الكلام التي ثبت فيها معنى الإيذاء من شتم وغيره وينسحب إلى ذلك الإيذاء بالأفعال كالضرب وغيره.

ويمكننا تفصيل ذلك كالتالي:

اللفظ أو التركيب اللغوي: التأفيف.

المعنى اللغوي المعلوم من اللفظ أو التركيب اللغوي المعلوم: جميع أنواع الإيذاء بالكلام أو الأفعال.

 الحكم بدلالة المفهوم: تحريم جميع أنواع الإيذاء للوالدين بالكلام أو الأفعال.

وبذلك يتضح الفرق بين المنطوق والمفهوم، فالمنطوق – كما ذكرنا سابقا – يعول على اللفظ المنطوق والمصرح به ودلالاته بينما المفهوم يعول على المفهوم من معنى المنطوق.

ومن هذا كله يتبين لنا أن الأصوليين اعتدوا بالسياق اللغوي وعولوا عليه كثيرًا في استنباط الأحكام الفقهية ويعد بحثهم في طرق الدلالة واستنباط القصد من الأحكام من أهم وأوسع المباحث التي تناولت السياق اللغوي بالدراسة والتحليل.

[1] العبيدان، د. موسى بن مصطفى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، (دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، ط1، 2002م)، ص: 271.

[2] ينظر: السرخي ، أصول الفقة ، ج1،ص :236.

[3] الآمدي، علي بن أبي علي، الإحكام في أصول الأحكام، دط،1968م)، ج3، ص: 62.

[4] المرجع نفسه، ص: 62.

[5] ينظر: شرح القاضي عضد الملة والدين لمختصر المنتهي الأصولي، (مصر: مكتبة الكليات الأزهرية، 1973م)، ج 2، ص: 171.

[6] العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 273.

[7] شرح القاضي عضد الملة والدين لمختصر المنتهي الأصولي،ج2، ص: 172.

[8] الخبازي، المغني في أصول الفقه، تحقيق: فارس أحمد مرعي (رسالة الدكتوراه) جامعة الأزهر، كلية الشريعة، 1976م، ص: 102.

[9]  العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 274- 276.

[10] عضد الملة واليدين، شرح القاضي عضد الملة والدين لمختصر المنتهي الأصولي، ج2، ص: 172.

* العلاقة بين المكونات المتتابعة في الكلمة أو التركيب (ينظر: معجم المصطلحات اللغوية، رمزي منير البعلبكي،

ط1، بيروت: دار العلم للملايين، 1990م، ص: 492).

[11] الجوزية، ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار الفكر، 1977م)، ص: 146.

[12] العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 276- 278.

[13] الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: محمد مصطفى أبو العلا، (مصر: الشركة الوطنية الفنية المتحدة،  1971م)، ص: 371.

[14] العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 278- 280.

[15] ابن بطال، شرح صحيح البخاري، الرياض: مكتبة الرشد، ط1، ج6،ص: 127.

[16]  العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 280- 282.

[17] الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ج1، ص: 372.

[18] العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 286.

[19] البزدوي، علي بن محمد، أصول الفقه، (مكتبة الصنايع، د.ط، 1307هـ)، ج1، ص: 68.

[20] العبيدان، موسى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، ص: 287.

[21] السرخسي، أصول السرخسي،ج1، ص:237.

[22] المرجع نفسه، ج1، ص: 241.

المصادر والمراجع:

  • القرآن الكريم.
  • ابن بطال، شرح صحيح البخاري، الرياض: ج6، مكتبة الرشد، ط1.
  • الآمدي، علي بن أبي علي، الإحكام في أصول الأحكام، ج3، دط،1968م.
  • البزدوي، علي بن محمد، أصول الفقه، ج1، مكتبة الصنايع، دط، 1307هـ.
  • البعلبكي، رمزي منير، معجم المصطلحات اللغوية، بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1990م.
  • الجوزية، ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر، 1977م.
  • الخبازي، المغني في أصول الفقه، تحقيق: فارس أحمد مرعي (رسالة الدكتوراه) جامعة الأزهر، كلية الشريعة، 1976م.
  • شرح القاضي عضد الملة والدين لمختصر المنتهي الأصولي ،ج2، مصر: مكتبة الكليات الأزهرية، 1973م.
  • العبيدان، د. موسى بن مصطفى، دلالة تراكيب الجمل عند الأصوليين، دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، ط1، 2002م.
  • الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: محمد مصطفى أبو العلا، مصر: الشركة الوطنية  الفنية المتحدة، 1971م.

* محاضرة في الكلية الجامعية، جامعة الإمارات العربية المتحدة، الإمارات العربية المتحدة.