صورة المرأة في روايات قماشة العليان: رواية “أنثى العنكبوت” أنموذجًا

صورة المرأة في روايات قماشة العليان: رواية

د. أسماء الصاعدي*

ملخص البحث

يهدف البحث إلى دراسة مدى حضور قضايا المرأة ونماذجها وأساليب تصويرها في الرواية السعودية، عبر دراسة هذا الحضور عند كاتبة من أهم كاتبات الرواية النسوية السعودية وهي “قماشة العليان”، ومن خلال نموذج روائي دال هو روايتها “أنثى العنكبوت”.

واتبع البحث منهج النقد النسوي، وتم تطبيقه على رواية “أنثى العنكبوت”. ومن أهم النتائج التي توصل إليها: حضور المرأة في خطاب العليان الروائي من خلال قضاياها المختلفة. وتشكل هذا الحضور عبر نموذجين نسويين، هما: المرأة المستلبة، والمتحدية، وتعددت أساليب هذا التصوير بين الأسلوب التصويري والاستبطاني والتقريري.

كلمات مفتاحية: الأدب النسوي، أنثى العنكبوت، صورة المرأة، قماشة العليان.

مقدمة

“قماشة العليان” كاتبة وروائية سعودية تتخذ من القضايا الإنسانية موضوعًا لرواياتها، ولا سيما قضية المرأة في العالم العربي عامة والسعودي خاصة، حيث تعاني من اضطهاد الرجل لها وتحكمه في شؤون حياتها المختلفة؛ مما يقيد فضاء حريتها، ويسلبها إرادتها، ويصادر حقها الطبيعي في الحياة، وطالبت الكاتبة بتحريرها من الاضطهاد والظلم الواقع عليها، وتمتعها بكافة حقوقها في التعليم والعمل ومناحي الحياة المختلفة؛ لتصبح عنصرًا فاعلاً يسهم في نهضة المجتمع وتطوره؛ حيث إن “تحرير الفرد ورقيه سبيل إلى تحرير المجتمع وتقدمه”[1]، وصوّرت العليان النموذج الإنساني في رواياتها ممثلاً في المرأة في آمالها وآلامها، وأحلامها وخيباتها، وقوتها وضعفها، وإقدامها وإحجامها، وسعيها الحثيث وراء مستقبل أفضل وفضاء أوسع يمنحها مزيدًا من الحرية والإنسانية.

هدف البحث

يهدف هذا البحث إلى دراسة صورة المرأة في روايات قماشة العليان متخذًا من روايتها “أنثى العنكبوت” أنموذجًا.

إشكاليات البحث

يطرح البحث التساؤلات التالية:

ما قضايا المرأة التي حضرت في رواية “أنثى العنكبوت”؟

ما النماذج النسوية التي قدمت في رواية ” أنثى العنكبوت”؟

ما أساليب تصوير المرأة في رواية “أنثى العنكبوت”؟

منهج البحث

المنهج الذي اختاره هذا البحث هو منهج النقد النسوي، الذي يهتم بدراسة الكتابة النسوية وقضاياها وتجليات ذلك في الخطاب الأدبي.

الدراسات السابقة

هناك عدة دراسات تم إنجازها حول أدب قماشة العليَّان، منها:

  • “المرأة الجديدة في قصص قماشة العليَّان”، سمير الشريف، 2003م، وهذه الدراسة قراءةٌ في مجموعتها القصصية (دموع في ليلة الزفاف).
  • “الرؤية والتشكيل في أعمال قماشة العليان الروائية”، سالم ياسين الفقير،2011م، والكتاب في الأصل رسالة ماجستير أعدت في قسم اللغة العربية بجامعة مؤتة عام 2009م، ويرى الباحث إن العليان من حيث الرؤية تناولت العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن حيث التشكيل وظفت المكان والزمان والشخصيات والحبكة، وبذلك تكون اعتمدت الإطار العام الذي تندرج تحته الرواية العربية.
  • “بناء الزمكانية في روايات قماشة العليَّان”، ذكرى الفريدي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، جامعة القصيم، السعودية، 2012م، وتكشف الباحثة من خلال دراستها عن نوعين مختلفين من الزمكان الروائي تمثلا في الزمكانية الأصيلة، والزمكانية التابعة، واحتوت كل منهما على العديد من التقنيات السردية المختلفة.
  • “الرواية عند قماشة العليَّان دراسة نقدية تحليلية”، ريم الرويثي، رسالة ماجستير غير منشورة في قسم اللغة العربية، جامعة طيبة، السعودية، 2014م، وتناولت الباحثة فيه فن الرواية عند العليَّان في خمسة فصولٍ: الأول في الرؤى والمضامين، والثاني في الشخصيات والأحداث، والثالث في المكان والزمان، والرابع في اللغة، والخامس في السرد والحوار.
  • “صورة الرجل في روايات قماشة العليَّان”، عصام أبو شندي، 2019م، وقدم الباحث عدة صور للرجل في روايات العليَّان، هي: صورة الرجل الذي يشبه الشيطان ويتحكم في مصير الشخصيات، وصورة الرجل الضعيف الذي تسيطر عليه شخصيات أخرى قوية، وصورة الرجل المريض، وصورة الرجل الإيجابي التي تعد نادرة في روايات العليَّان.
  • “بناء المفارقة في الرواية النسائية السعودية: مقاربة سردية موازنة لروايتي الوارفة لأميمة الخميس وعيون قذرة لقماشة العليَّان”، إسماعيل محمـد، 2020م، وخلص الباحث إلى اتكاء الروايتين على بناء المفارقة لإحكام السرد وتقويته، ومن أنواع المفارقات التي ظهرت في كلا الروايتين: مفارقة التضاد، ومفارقة الإنكار، ومفارقة السخرية، ومفارقة الفجاءة.

ويختلف هذا البحث عن الدراسات السابقة في اشتغاله ضمن عينةٍ محددةٍ، وهي رواية “أنثى العنكبوت”. وتعتقد الباحثة -من خلال تطبيق منهج تحليل الخطاب النسوي عليها- صلاحيتها لتقديم قضايا المرأة ونماذجها الإنسانية المختلفة؛ مما يسهم في تقديم صورة للمرأة في روايات قماشة العليَّان.

الكاتبة قماشة العليَّان

قماشة عبد الرحمن صالح العليَّان، روائية وكاتبة سعودية معاصرة “حصلت على بكالوريوس في الكيمياء من جامعة الملك سعود، وتنقلت بين عدد من الوظائف”[2] التعليمية والإدارية، وهي عضو في عددٍ من الاتحادات والجمعيات، منها “اتحاد الكتاب العرب في سوريا، والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون… وعضو في عددٍ من المنتديات القصصية في العالم العربي”[3].

صدرت لها عدة مجموعات قصصية، منها: “خطأ في حياتي” (1991م)، و”الزوجة العذراء” (1992م)، و”دموع في ليلة الزفاف” (1996م). كما صدرت لها عدة روايات، منها: “عيون على السماء” (1997م)، و”أنثى العنكبوت” (2000م)، و”بكاء تحت المطر” (2000م)، و”بيت من زجاج” (2000م)، و”عيون قذرة” (2009م)[4]، و”بديل الوطن” (2021م).

وحصلت على عدة جوائز، منها: جائزة أبها عام 1997م عن روايتها “عيون على السماء”، وجائزة المبدعات العربيات في الشارقة عام 2000م عن روايتها “أنثى العنكبوت”، وجائزة الرياض للمبدعين في الثقافة والأدب عام 2006م، ودرع التميز من النادي الأدبي في المنطقة الشرقية بالسعودية عام 2002م؛ لتميزها في القصة والرواية، وشهادة تكريم من المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر عام 2002م[5].

رواية “أنثى العنكبوت”

فازت الرواية الثانية للكاتبة قماشة العليَّان بعد روايتها الأولى “عيون على السماء”، بجائزة المبدعات العربيات في الشارقة عام 2000م، وتُرجمت إلى اللغة الإنجليزية. تدور الرواية حول عائلة سعودية في الرياض تعاني من اضطهاد الأب لأفرادها، وتحكمه فيهم وفق ثقافة ذكورية مستبدة، وكان من نتائجها كراهية مضمرة تجاهه، وتحول البيت إلى جحيم طافح بشتى ألوان الظلم والمعاناة، وانفراط شمل العائلة وتشتتها، وتتألف هذه العائلة من “أبو صالح” الذي يمثل نموذج الأب الشرقي الذي تحكمه العادات والتقاليد المجتمعية التي لا تترك لأفراد عائلته أي مساحة من الحرية، إضافةً إلى ما يتميز به من قسوة ناتجة عن فهم خاطئ لمعنى القوامة، و”أم صالح” وهي امرأة كبيرة في السن تعاني قسوة زوجها وتعنيفه لها، ونتج عن ذلك إصابتها بمرض انفصام الشخصية، وترددها بين البيت ومستشفى الصحة النفسية، مع دور هامشي لا يكاد يذكر في بيتها وحياة أبنائها وبناتها، وساءت حالتها النفسية ودخلت المستشفى وتوفيت بعد أن علمت بعزم زوجها الزواج من امرأة أخرى، و”صالح” الابن الأكبر الذي أحب ابنة الجار وأعلن عن رغبته لأبيه، لكنه رفض طلبه مخبرًا إيَّاه أنه سيتزوج من ابنة عمه خلال عدة أيام، و”بدريَّة” الابنة الكبرى التي تتزوج من “أحمد” وهو شاب سكير قاس تُجبر من والدها على تحمله رغم مبالغته في ضربها وإيذائها، و”سعاد” التي حرمها والدها الدراسة وأبعدها عن البيت تخلصًا من مشكلاتها المستمرة مع زوجته الجديدة بتزويجها برجل أكبر منها، و”ندى” التي أصيبت بمرض والدتها وتوفيت في مستشفى الصحة النفسية منتحرة بعد أن تناولت كمية كبيرة من الدواء، وأما “خالد” و”محمد” فقد هربا من بطش أبيهما ودرسا وعملا وتزوجا في الخارج، و”أحلام” الابنة الصغرى وبطلة الرواية، التي تحملت قسوة والدها، وكافحت من أجل إكمال دراستها، وعملت بالتدريس في قرية نائية، وحين تقدَّم لها “سعد” -وهو شاب القرية وشاعرها المثقف- رفض والدها وزوجها من تاجر كبير السن، يقسو عليها ويضربها ضربا مبرحا بعصاه التي يتنقل بها في البيت، وفي محاولتها الدفاع عن نفسها تنتقم منه بضربه على رأسه بعكازته التي يتوكأ عليها فيموت في الحال.

وتسمية الرواية بـ”أنثى العنكبوت” مأخوذة من أنثى العنكبوت الحقيقية التي تقوم بالتخلص من زوجها بعد عملية التزاوج، فالبطلة هنا تتخلص من زوجها بقتله؛ لأنها ترى أنه مصدر شقائها في الحياة، وتحاول أن تقتل فيه أيضًا أباها الذي عانت منه الأمرين، وهي ترى أنه السبب في مصيرها البائس إلى مستشفى الصحة النفسية ثم إلى السجن أخيرًا.

التعريف بالأدب النسوي

يعرف “الأدب النسوي” بأنه “الأدب الذي يؤكد وجود إبداع نسائي وآخر ذكوري لكل منهما هويته وملامحه الخاصة وعلاقته بجذور ثقافة المبدع وموروثه الاجتماعي والثقافي، وقد يتسع مفهوم الأدب النسوي ليشمل الأدب الذي تكتبه النساء، والأدب الذي يكتبه الذكور عن المرأة من أجل أن تتلقاه المرأة، وكل أدب… يهتم بالتعبير عن تجارب المرأة اليومية والجسدية، ومطالبها الذاتية، فهو أدب نسوي”[6]، وتمكنت المرأة من خلال هذا الأدب أن “تبني وجهة نظر خاصة بها تجاه قضايا المجتمع المحيطة بها، واستطاعت أن تفصل كتاباتها عن أسلوب الرجل ولغته من خلال تخليها عن تقليد الخطاب الذكوري والخضوع لسلطة الرجل الثقافية”[7]، ووجدت الكاتبة النسوية في الفنون السردية ولا سيما القصة والرواية متنفسًا لها؛ لما تتمتَّع به من فضاء فسيح يمنحها مساحة مفتوحة على الإبداع لتعبر عما يختلج في داخلها من قضايا ومشكلات.

القسم الأول: قضايا المرأة في رواية “أنثى العنكبوت”.

تقدم رواية “أنثى العنكبوت” للكاتبة قماشة العليَّان مختلف القضايا التي تعكس واقع المرأة في المجتمع السعودي، وما تفرضه عليها العادات والتقاليد الاجتماعية من اضطهاد يسلبها حريتها واتخاذ قرارها في الأمور التي تتعلق بمصيرها، بحيث يمكن القول بأن هذه الرواية تضمَّنت في تضاعيفها مقاربة واقعية لقضايا المرأة ومشكلاتها وما ينتج عن هذه المشكلات من تبعاتٍ تهدّد كيان الأسرة والمجتمع بأسره.

وتعود معظم قضايا المرأة ومشكلاتها إلى العادات والتقاليد، التي ترسّخ لاضطهاد المرأة واستلاب كيانها، وهذا الاضطهاد “لا يرجع إلى الشرق أو الغرب أو الإسلام أو الأديان، ولكنه يرجع أساسًا إلى النظم الطبقية الأبوية في المجتمع البشري كله”[8]. ويشير المصطلح الأبوي إلى “علاقات القوة التي تخضع في إطارها مصالح المرأة لمصالح الرجل، وتتخذ هذه العلاقات صورًا متعددةً بدءًا من تقسيم العمل على أساس الجنس، والتنظيم الاجتماعي لعملية الإنجاب، إلى المعايير الداخلية للأنوثة التي تعيش بها، وتستند السلطة الأبوية إلى المعنى الاجتماعي الذي تم إضفاؤه على الفروق الجنسية البيولوجيَّة”[9]. والقضية الأساسية التي تلح عليها العليَّان في روايتها هي احترام كيان المرأة وإرادتها باعتبارها إنسانًا له حريته وكرامته في المقام الأول، في محاولة للتخلص من المفهوم التقليدي للأنوثة الذي يقيد فضاء المرأة ويحصره في الزواج والإنجاب والأمومة؛ حيث أكدت ضرورة مساواتها بالرجل ومنحها حقها في التعليم والعمل والعيش الكريم. ومن أهم القضايا التي حضرت في الرواية: العنف الجسدي والنفسي، وتعدد الزوجات، وتحميلها مسؤولية التحرش الجنسي بها، والمرأة المطلقة، والأرملة، والعانس، والعاملة، والإجبار على الزواج، وكل قضية من هذه القضايا لا تعرض بصورة مستقلة بحيث تشكل قضية الرواية الأساسية بل تتصل ببعضها لتشكل رؤية كلية شمولية تنتصر للمرأة وقضاياها.

قضية العنف الجسدي والنفسي

قضية ضرب المرأة وتعنيفها جسديًا ونفسيًا نابع من تصور خاطئ للذكورة والأنوثة ومفهوم القوامة المترتب عليه، فالذكر يصنف دائمًا بأنه كامل العقلية والأهلية وتصنف المرأة بأنها ناقصة عقل ودين، ووضعها اجتماعيًا في مستوى عقلي أقل من الرجل يعني أنها تحتاج إلى التربية والتوجيه ولو بطريق العقاب، وهذا التوجه يلقي بتبعاته على صحة المرأة الجسدية والنفسية وصحة أطفالها، ويمتد ليطال المجتمع ويهدد كيانه أيضًا. وتعد هذه القضية الأكثر حضورًا في روايات العليَّان عامة وفي هذه الرواية خاصة، فهي دليل صارخ على التسلط الذكوري في أوضح أشكاله، وتناولت الكاتبة هذه القضية من خلال عدة شخصيات، منها: شخصية “أم صالح” وبناتها “بدرية” و”ندى” و”أحلام”. تقول عن “أم صالح” التي قررت الخروج من البيت انتصارًا لكرامتها بعد زواج زوجها عليها: “اقترب من أمي، وبدلاً من أن يهدئ من روعها صفعها بعنفٍ، وازداد صراخها وهيجانها”[10]، وأما “بدرية” فإن “زوجها سكير عربيد دأب على ضربها طوال حياتها معه حتى حملت وأجهضت”[11].

قضية تعدد الزوجات

من المفاهيم الخاطئة المرتبطة بمفهوم القوامة اعتقاد الرجل بأن من حقه التعدد في الزوجات بلا قيد أو شرط، مع أن الإسلام حين أباح التعدد قيده بشروط، وهي: العدل والقدرة المادية والجسدية، والرجل يسوغ لنفسه هذه الممارسة لوجود عيب أو مرض في زوجته، لكن في اختياره زوجة ثانية صغيرة في السن مفارقة صارخة لما يدعيه، وتقارب الكاتبة هذه القضية من خلال شخصية “أم صالح” التي انقلبت حياتها رأسًا على عقب بعد زواج زوجها عليها “جاءتها الضربة القاصمة من حيث لا تدري ولا ندري، فقد تزوج أبي، تزوج بفتاة صغيرة لا تتجاوز سنها العشرين عامًا”[12]. إن تعدد الزوجات مدمر لنفسية المرأة، ومهدد لكيانها ووجودها؛ ولذلك نزل الخبر على رأس “أم صالح” نزول الصاعقة، ولا يتورع الزوج عن تقييد أفعال الزوجة وتصرفاتها حتى بعد زواجه عليها، فحين تهم بمغادرة البيت تفاجأ بقوله “أعيدي الحقيبة إلى مكانها يا أم صالح، وكوني هادئة وطيبة فلن تخرجي من بيتك إلا إلى القبر”[13].

قضية التحرش الجنسي بالأطفال

من القضايا الشائعة في المجتمعات المحافظة تعرض المرأة عامة والطفلة خاصة للتحرش الجنسي بها، وهذا التصرف يعكس يقين الرجل التام بنجاته من العقاب، فالمجتمع المحافظ يخشى الإبلاغ عن الجاني تحسبًا لانتشار ما يعده فضيحة، وهذا يعزز هذا السلوك السلبي في المجتمع ما لم توجد قوانين رادعة تحد من ارتكابه، وتعرضت الكاتبة لهذه القضية من خلال محاولة اغتصاب “أحلام” من قبل أحد الجيران، ورغم أن العناية الإلهية حالت دون ذلك، إلا أن ردة الفعل كانت غير متوقعة “فوجئت بصفعته المدوية على صدغي، تلتها صفعة أخرى ثم صفعات وصفعات، وهو يدمدم بكلمات متقطعة: لقد انهارت الأخلاق، سوء تربية، البنت كبرت وانحرفت، ليس في بيتي من تكون ساقطة الأخلاق”[14]، فالأب يحمّل ابنته مسؤولية التحرش الجنسي بها، وهذا من الاستبداد والاضطهاد لحق المرأة عامة والطفلة خاصة.

قضية المرأة المطلَّقة

يحصل الطلاق نتيجة عدم التوافق بين الزوجين مما يدفعهما إلى الانفصال، ومن الأمور التي تستدعي الطلاق في العرف الاجتماعي: كراهية المرأة الرجل لسوء أخلاقه كأن يكون بخيلاً، أو سكيرا، أو معنفًا لها، ومع أن الطلاق يعد حلاً في مثل هذه الحالات إلا أن النظرة الذكورية تعد الطلاق وصمة عار، والمرأة المطلقة امرأة سيئة السمعة؛ لأنها خالفت القاعدة السائدة (من البيت إلى القبر)، فالطلاق خطيئة لا يجوز ارتكابها مهما كانت الظروف، وحضرت هذه القضية في الرواية من خلال شخصية “بدريَّة” التي عادت إلى بيت أهلها بعد عام كامل من الزواج قضته في همومٍ وأحزانٍ وذل وانكسار، وهي تطلب الانفصال عن زوجها، فجاء الرد حاسما من أبيها: “ليس عندنا مطلقاتٌ في العائلة ولن يكون، ستعيشين مع زوجك وتتحملين معه كل الصعوبات ثم تموتين معه، فبناتي اللاتي أزوجهن لا يعدن أبدًا إلى بيتي، هيا .. هيا انهضي لتعودي إلى زوجك”[15].

قضية المرأة الأرملة

تواجه الأرملة -التي مات زوجها- رفضًا قاطعًا لحقها في الزواج والحياة من جديدٍ، وإن تزوجت فمن أقارب الزوج فقط حفاظًا على الأبناء، وهذه النظرة الذكورية ترى أن تظلَّ في دائرة الإهمال والنسيان، وأن تكرس حياتها من أجل أبنائها فقط، وإن خالفت ذلك فإنها تتهم بالخيانة وعدم الوفاء للزوج المتوفى، والأرملة إنسان في المقام الأول ويجب عدم حرمانها حقها في الحياة، أو اختيار مستقبلها، وظهرت قضية الأرملة في الرواية من خلال شخصية “بدرية”، فبعد وفاة زوجها “أصدر أبي قراره الثاني دون أن يجد من يعارضه، أن تبقى في بيتها مع أطفالها دون زواج طوال حياتها، فالأرملة لا تتزوج مرةً أخرى في عرف أبي وقوانينه الجائرة”[16].

قضية العنوسة

العنوسة كلمة تطلق على من تجاوز سن الزواج، والأسباب التي تقف خلف هذه المشكلة اجتماعية، مثل: غلاء المهور، وارتفاع تكاليف الزواج، ورفض تزويج الفتاة من خارج قبيلتها، أو شخصية، مثل: رغبتها في إكمال دراستها وتعليمها، أو طمع والدها في راتبها، وقد يدفع الخوف من العنوسة الفتاة إلى الارتباط بأي رجل حتى ولو لم يوجد أي تكافؤ بينها وبينه، وتعرضت الكاتبة لهذه القضية من خلال شخصية المعلمة “صباح” فهي “غير متزوجة، لكنها تتمنى الزواج بشدة وبأي شكل، وكثيرًا ما قالت ضاحكةً: لو خطبني حارس المدرس لتزوجته، وهي متخرجة من الجامعة منذ خمس سنواتٍ، ولم تتعين في هذه الهجرة سوى منذ عامين فقط، وتنتظر نقلها إلى المدينة بدون أي جدوى، فليس لها واسطة ولا زوج يرغب في وجودها إلى جواره كما قالت مرارًا وتكرارًا”[17].

قضية المرأة العاملة

تنبع حاجة المرأة للعمل من قيامه بتأمين متطلباتها الشخصية واحتياجاتها المادية، وجعلها تقف على قدم المساواة مع الرجل متغلبة على فكرة التمييز بينها وبينه، والحياة المعاصرة تتطلب المرأة العاملة؛ لتعدد متطلبات الحياة وعدم قدرة الرجل وحده الوفاء بحاجات الأسرة المادية، كما أن المجتمع يحتاج كلاً من الرجل والمرأة ليسهما في نهضته وتقدمه، وتنطلق بعض العادات والتقاليد من نظرةٍ ذكوريةٍ ترى البيت المكان الأول والأنسب للمرأة، غافلةً عن أهميته في تقدير ذاتها، ودعمها في أوقات الأزمات مثل وفاة زوجها، وما يترتب عليه من حاجتها إلى الإنفاق على البيت وتعليم الأبناء. وتناولت الكاتبة هذه القضية من خلال شخصية “أحلام” التي تصف مشاعرها بعد حصولها على الوظيفة فتقول: “يومي الحقيقي في مدرستي الجديدة، اليوم الذي سأمارس فيه مهامي الوظيفية، وسألتقي فيه بطالباتي القليلات، وأعلمهن وأعطيهن من كل نفسي، من كل ما اختزنته من تجارب في الحياة، من حبّي للعمل، من حبّي للدنيا بأسرها، كنت مرحةً متفائلةً، أشعر بأن الدُّنيا بدأت تبتسم لي رغم تكشيرها في وجهي الأعوام السابقة”[18]، ومن خلال شخصية المعلمة “فوزيَّة” فهي “متزوجةٌ وأم لطفلين، ورغم خلافاتها المستمرة مع زوجها بسبب الوظيفة إلا أنها مستقرة عائلياً”[19]، فالعمل يجعل المرأة أكثر ثقةً بنفسها، ويساهم في الاستقرار الأسري.

قضية الإجبار على الزواج

الإجبار على الزواج يعني منع الفتاة حقها في اختيار الزوج المناسب لها، وإعطاء الأب هذا الحق ليقوم بتزويجها إما برجل قريب لها من العائلة نفسها، أو آخر من خارجها يكون غنيًا مقتدرًا قادرًا على إسعادها، ومصير هذا الزواج الفشل غالبًا، وتبلغ العادات الاجتماعية سطوتها حين تجبر الفتاة على الزواج المبكر، أو الزواج غير المتكافئ فيكون الفارق العمريّ كبيرًا بين الزوجين، وتتناول الكاتبة هذه القضية من خلال عدة شخصيات، مثل “بدرية” التي لم تعلم عن زواجها سوى قبل بضعة أيامٍ من موعده المحدد، و”سعاد” التي قيل لها: ستتزوجين غدًا، و”أحلام” التي يزوجها والدها من أبي علي “الشيخ السبعينيّ تاجر قطع الغيار، زوج لامرأتين، وأب لخمسة عشر ولدًا وبنتًا، إنه مصير سعاد يعود إلي مرةً أخرى، كلا إنه أسوأ من مصير سعاد”[20].

القسم الثاني: النماذج النسوية في رواية “أنثى العنكبوت”,

تجلت في رواية “أنثى العنكبوت” نماذج متفاوتة للمرأة تجمع مختلف الخصائص السلوكية والاجتماعية والمعرفية والنفسية، وبالرغم من تعدد هذه النماذج وتفاوتها غير أنه يمكن التركيز على نمطين أساسيين، وهما: نموذج المرأة المستلبة، ونموذج المرأة المتحدية، وفيما يلي تفصيل لهذين النموذجين.

نموذج المرأة المستلبة

المرأة المستلبة هي المرأة المستسلمة للإرادة الذكورية، الخاضعة للأعراف المجتمعيَّة في جميع الأمور المتعلقة بحياتها وتقرير مصيرها، ويتجلى نموذج المرأة المستلبة في رواية “أنثى العنكبوت” في: الأم المريضة العاجزة، والزوجة السلبية المجبرة على تنفيذ مطالب الزوج -ولو على حساب ذاتها- دون تردد، والابنة التي ترضخ لرغبة والدها في تزويجها بمن يريد، والمرأة المستلبة فاقدة للسلطتين الاقتصادية والاجتماعية؛ مما يضطرها إلى الخضوع والاستسلام والقبول بالمصير المفروض.

وتمثل هذا النموذج في رواية “أنثى العنكبوت” عدة شخصيات، منها: “أم صالح” التي تؤدي دور الأم المريضة العاجزة التي أوصلها خضوعها واستلابها إلى الإصابة بمرض انفصام الشخصية ودخول مستشفى الصحة النفسية ثم الموت، فهي عاجزة عن تقديم أدنى دورٍ لأبنائها وبناتها، لا تملك قرارًا، ولا تبدي رفضًا أو اعتراضًا، وتتمثل ردود أفعالها تجاه سلطة الزوج المتجبر في الدعاء والشكوى بـ”لا حول ولا قوة إلا بالله”: “تلك الراقدة في فراشها دومًا، أو القابعة في مقعدها أحيانًا، أو الغائبة في المستشفى شهورًا طويلةً لم أكن أعتبرها سوى جزء من أجزاء البيت، كقطعة أو ديكور نعيش به أو بدونه، بوجوده أو عدمه، هكذا كان إحساسي بها بلا تزييف أو بهتان، لا مبالاة تجاه أمي”[21]، و”بدرية” التي تقول عنها “إنها مسلوبة الإرادة، مشلولة التفكير، إنها عاجزة عن اختيار مستقبلها وإخضاع أبي لإرادتها، إنها عاشت وستموت كما أراد لها تمامًا، أرملة وحيدة كسيرة تربي أولادها دون حلم غير أحلام اليقظة، أو آمال غير أمل الصحة والستر، أو رؤية غير رؤية أولادها وهم يكبرون ولا شيء آخر”[22].

نموذج المرأة المتحدية

المرأة المتحدية هي التي خرجت من حالة الاستسلام والخضوع إلى حالة الوعي بحقها في الحياة وتقرير المصير والعيش الكريم الذي يجعلها تتمتع بكافة حقوقها، فهي تتحدى ظروفها وتواجه في سبيلها كثيرًا من العقبات التي تقرّر التغلب عليها، وتنجح  في ذلك رافضة دور الضحيَّة المستسلمة لقدرها، وإنها تبحث عن الحرية والإرادة الضروريتين للحياة.

ويتجلى نموذج المرأة المتحدية في رواية “أنثى العنكبوت” في: الابنة القوية، التي تحرص على اتخاذ موقف خاص يميزها في كل ما يحيط بها من مواقف وظروف، فهي ترفض إلغاء الذات لصالح الآخرين، والمرأة المتحدية تتمتع بسلطات متعددة اقتصادية واجتماعية؛ تمنحها الاستقلالية والشعور بالأمان ورفض الخضوع والاستسلام والقبول بالمصير المفروض، والتطلع إلى الأفضل في خياراتها الشخصية، وعدم القبول بالأقل لصالح حياة على هامش الحياة، وتتساءل الكاتبة في الرواية عن الحرية “هل الحرية هي السعادة، الانطلاق، التحرر من كل شيء وأي شيء، أم هي حرية الرأي، حرية الكلمة، وحرية التفكير، أم تراها الثورة على التقاليد والأحكام البالية المتوارثة منذ آلاف السنين”[23]، وتمثل هذا النموذج في رواية “أنثى العنكبوت” في شخصية الابنة الصغرى وبطلة الرواية “أحلام” التي تغلبت على ظروفها القاسية واستطاعت أن تبني شخصية مستقلة تتسم بالقوة والعناد والتحدي، ومن مظاهر ذلك:

– تقديرها لذاتها بعامة وجسدها الأنثوي بخاصة، وهذا يدل على تصالحها معه لتحقيق التوازن العقلي والجسمي المطلوب، تقول: “حانت مني التفاتة نحو المرآة الكبيرة في حجرتي، تساءلت هل عيناي من العيون الملهمة؟ ولم لا؟ لأول مرة أرى جمالي في عيون ذاتِي، نعم إنني أملك عينين رائعتين حالكتي السواد، ورموشا طويلة غزيرة، وجسدا رائعا فاتنا، وشعرا أسودا مسترسلا، لقد كانت أمي جميلة… وأورثتنا الجمال”[24].

– تصالحها مع بنات جنسها، ولا سيما زوجة الأب التي لم تخض معها معارك خاسرة تعود عليها بالندم، بل سعت إلى كسبها في صفها وتكوين علاقة حيادية معها أساسها الاحترام، تقول: “علَّمتني الأيام أن أعامل زوجة أبي بحياد تام، لا حب  أو كراهية أو صداقة أو حقد، تحاشيت كل ما من شأنه خدش القوالب وتحطيم الحدود وتجاوز الأسوار، فعشنا يجللنا الاحترام المتبادل والثقة والوِفاق”[25].

– رفضها استلاب هويتها وكيانها، وإلغاء وجودها، تقول: “لن أدع أبي يتحكم بمصيري، لن أرضخ للطوفان وأحني رأسي للعاصفة وأتزوج الرجل العجوز ثم أحيا على الهامش وأموت… لن أتركه يدفنني وأنا على قيد الحياة، بل سأتشبث وأحاول وأقاوم، وأدافع عن حريتي، عن وجودي”[26].

– انتقامُها لذاتها عند شعورها باستحالة الحياة مع زوجها الذي كان مستمرًا في تعذيبها وركلها وضرب رأسها بالجدار لتغرق في دمائها، تقول: “وخرج المارد الحبيس في داخلي ليعلن عن انتهاء فترة صمته، دفعته بكلتا يدي، ازداد جنونه وهو يرى تمردي وجسارتي، فأمعن في ضربِي، ولم أشعر إلا ويداي تمتدان إلى عصاه الغليظة الملقاة على الأرض، وأهوي بها بكل قواي على رأسه الفارغة فأحطمها بضربة واحدة، ليتهاوى إلى جواري فاقدًا للوعي، وفاقدًا للحياة كذلك”[27].

القسم الثالث: أساليب تصوير المرأة في رواية “أنثى العنكبوت”:

تنوعت أساليب تشخيص المرأة في هذه الرواية بين الأسلوب التصويري والاستبطاني والتقريري.

الأسلوب التصويري

يعرف الأسلوب التصويري بأنه “الأسلوب الذي ينتهج رسم الشخصية الروائية من خلال حركتها وفعلها وحوارها، ومن خلال حديث الشخصيات الأخرى عنها، فيصورها وهي تخوض صراعها مع ذاتها، أو مع غيرها، أو مع ما يحيط بها من قوى اجتماعية أو طبيعية”[28]، ويلاحظ في هذه الطريقة أن الروائي يبقى محايدًا ليسمح للشخصية بالتعبير عن نفسها من خلال الحديث والحوار بين الشخصيات، وأهم التقنيات المستخدمة في هذا الأسلوب: تقنية الحوار الخارجي الذي يكشف عن مستوى الشخصية اللغوي والثقافي وأفكارها ومعتقداتها، بالإضافة إلى حديث الشخصيات عنها. 

ومن الشخصيات التي تم تقديمها عبر الأسلوب التصويري: شخصية “بدرية” الأخت الكبرى لأحلام، التي كان للحدث دورٌ كبيرٌ في نموها وتفاعلها مع ذاتها وبيئتها، وتركز الرواية على ما تتمتع به من حنان وعطف يجعلها تبدأ تجربة الأمومة في سن مبكرة، في سن الخامسة عشرة مع أختها “أحلام”، وتتزوج وتنجب في وقت مبكر أيضًا، وبعد وفاة زوجها رفض والدها كل من يتقدم لخطبتها لأن واجبها أن تكرس حياتها من أجلهم فقط غير عابئة بنفسها، وتوضح تقنية الحوار الخارجي ذلك عبر الحوار التالي الذي يدور بينها وبين أختها أحلام:

“- لقد رفض أبي، رفض أبي زواجي.

انقبض قلبي وأنا أسألها بهمس:

– وهل سترضخين له، هل سترفضين الزواج من عبد الله؟

اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحاول منعها بقوة جبارة كيلا تبدو ضعيفة أمامي، ثم قالت بصوت متهدج:

– إنني أم يا أحلام، وأولادي لهم الأولوية في حياتي دائمًا، وهم رسالتي الأولى والأخيرة فلن أتخلى عنهم من أجل أي رجل كان.

قاطعتها مشفقةً:

– إنه ليس أي رجل، إنه عمهم وسيرعاهم كأبيهم الراحل تمامًا، فلن تتخلي عنهم مطلقًا، أهذا حقًا رأيك يا بدرية أم هو رأي أبي؟”[29].

وكذلك تم تصوير شخصية “بدرية” من خلال هذا الأسلوب عبر تقنية حديث الشخصيات الأخرى عنها، فـ”أحلام” تصفها فتقول: “بدرية جميلة متألقة لا تبدو عليها سنها التي تربُو على تسع وثلاثين، بل تبدو أقل من ذلك بكثير، رغم جراحها وعذاباتها المتوالية ومشاكل أولادها التي لا تنتهي… وهي بالإضافة لجمالها وأدبها خلوقة خجولة ترضى بالقليل وتقنع بأي شيء”[30].

الأسلوب الاستبطاني

الأسلوب الاستبطاني هو الأسلوب الذي يمكن الروائي من “ولوج العالم الداخلي للشخصية الروائية وتصوير ما يدور فيها من أفكار، وما يتصارع فيها من عواطف وانفعالات”[31]، ومن ثم فإن الهدف منه التحليل النفسي للشخصية، ويستعمل هذا الأسلوب في نوعين من الروايات هما: رواية تيار الوعي، والرواية الذهنية، ومن الشخصيات التي تم تقديمها عبر هذا الأسلوب: شخصية أحلام بطلة الرواية، واستعملت الكاتبة في تقديمها عدة تقنيات، مثل: الحوار الداخلي والتذكر والحلم والتداعي.

فالحوار الداخلي كان ملازما لشخصية “أحلام” على امتداد الرواية من أولها إلى آخرها وذلك للتعبير عما تعانيه من كآبة وحزن وخوف وقلق من المستقبل، وكيف تحولت حياتها تمامًا بعد وقوعها في الحب، تقول: “رباه ماذا دهاني وما الذي غير الدنيا في عيني فبدت أجمل، والسماء أشد زرقة والنجوم أكثر لمعانا؟ ما هذه الفرحة الغريبة الطارئة على عالمي؟ … غابت عن ذاكرتي كل المآسي العائلية، ودموعي التي ذرفتها لأجلها، لتبقى صورته الوحيدة في تلك الدار العتيقة عالقة بوجه ذاكرتي تأبى الزوال”[32].

والتذكر أو استدعاء الذكريات القديمة هو محطة ترتادها الشخصية بغرض تفسير الحاضر، أو ربطه بالماضي، أو الهروب منه، تقول في محاولة لتفسير خيباتها المتتالية، وشقائها المستمر “ما زلتُ أذكر حتى اليوم ليل زفاف شقيقتي بدرية، كنت في السادسة من عمري على وجه التقريب، بقيت تلك الليلة محفورة في ذاكرتي لا تبرحها، أحسستُ بالفقد والحرمان والضياع، لعبتُ في حفلة زفافها وضحكت ورقصت، وحينما عدنا إلى البيت بدونها صرخت بلوعةٍ تمزّق القلوب، ركضتُ في أنحاء البيت أبحثُ عنها”[33].

وتعبر تقنية الحلم عن تفكير البطلة الدائم فيمن فقدتهم فهي تتطلع إلى لقائهم ولو في المنام، أو ربما هي رسائل ضبابية مبهمة غيرُ مفهومة، تحتاج التوضيح والتأويل، تقول “حلم غريب هزَّني حتى النخاع، حلمت بأمي بوجهها الحبيب، معالم الحزن المرتسمة في عينيها السوداوين، غير أنها في الحلم كانت ترتدي وشاحًا أبيض على رأسها، كانت تبكي في الحلم وتنتحب وتشد يدي بقوة عجيبة، وعلى لسانها كلمة واحدة ترددها بما يشبه الهمس، لا تتركيه… لا تتركيه… لا تتركيه، أمي من هو؟ ويطلُّ وجه شقيقتي ندى وهي تخفي وجهها بيديها، ندى ندى  أمي أمي”[34].

وتسهم تقنية تيار الوعي والتداعي الحر في الكشف عن طبيعة الشخصية التي تخالف ما تقوله أو تفعلُه، فشخصية “أحلام” شخصية متحدية تجد نفسها في حيرة من أمرها بين ما تعتقده وما تفعله، تقول: “رغم أنني أعرفُ أن ما أفعله هو الخطأ بعينه لكنني لا أدري لماذا أفعله، إنني لم أحادث رجلاً في حياتي، ولا أتصور تلك العلاقات القائمة بين الفتيات والشبان، فإنها في عرفي محرمة وممنوعة ومستحيلة أيضًا”[35].

الأسلوب التقريري

الأسلوب التقريري هو الأسلوب الذي يصوّر الروائي فيه شخصياته “من الخارج ويحلل عواطفهم ودوافعهم وأفكارهم وإحساساتهم وكثيرًا ما يُصدر أحكامه عليهم”[36]، وهو أسلوبٌ مباشرٌ يقدّم فيه الكاتب الشخصية بصيغة الفعل الماضي “كان”، والشخصية التي تُقدم بهذا الأسلوب شخصية جامدة باهتة الملامح محكوم عليها مسبقًا، مما يجعل هذا الأسلوب أقرب إلى الأسلوب التقريري الصحفي، وهذا الأسلوب يحول “دون تعمق الشخصية ومن ثم ربطها بالأحداث ربطًا عضويًا، بحيث يتبادل كل منهما التأثير من خلال التوتر المستمر المتصاعد”[37]، ومن أهم تقنيات الأسلوب التقريري تشخيص الشخصية بإسباغ الأوصاف الموجزة التي تدل عليها لكنها تعجز عن جعلها حية نابضة متفاعلة مع الأحداث.

ومن الشخصيات التي تم تقديمها عبر الأسلوب التقريري: شخصية “سعاد”، فتقول عنها “سعاد المتهورة المندفعة التي تتحدث بلا تفكير وتعمل بلا عقل يحركها الجنون والطيش، سعاد الجميلة الجريئة ذات الابتسامة المميزة والشعر الأسود الغجري، سعاد التي أخرجتها يا أبي من مدرستها، ودفعت بها في زواج غير متكافئ من أجل خلافات تافهة مع زوجتك على كل شيء وأي شيء… هي بريئة يا أبي رغم شراستها، طيبة رغم جنونها، لم تكن تدري لسذاجتها إنك قد دفنتنا وقتما واريت أمي التراب، فمتنا معها في نظرك لتبدأ حياة جديدة”[38]، فالكاتبة هنا قدمت الشخصية دفعة واحدة للقارئ بالتركيز على الصفات الجسدية الخارجية فوصفتها بالجمال والجرأة والابتسامة المميزة والشعر الأسود الغجري. كما ركزت على صفاتها النفسية والخلقية أيضًا فوصفتها بالتهور والاندفاع والطيش والبراءة والطيبة والسذاجة، وهذه الصفات التقريرية الجاهزة تسطح الشخصية وتجمدها ولا تعطي القارئ فرصة للتفاعل معها بل تحكم عليها بالأحكام المسبقة المعدة سلفًا، وهذا الأسلوب يستعمل غالبًا في تقديم الشخصيات الثانوية.

خاتمة البحث

تناول هذا البحث صورة المرأة في روايات قماشة العليَّان من خلال أنموذج تطبيقي هو رواية “أنثى العنكبوت”، وخرج بالنتائج التالية:

– سجَّلت المرأة حضورًا طاغيًا في رواية قماشة العليان “أنثى العنكبوت”؛ ذلك إنها كاتبة نسوية يحضر لديها الوعي الأنثوي بما تكتبه من روايات تنتصر للمرأة، وتدافع عن حقوقها، وتكتب عن قضاياها بهدف رفع الظلم الواقع عليها، الناتج عن العادات والتقاليد المتوارثة التي تفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.

– تناولت العليَّان مختلف القضايا النسوية، مثل: العنف الجسدي واللفظي، وتعدد الزوجات، والتحرش الجنسي بالأطفال، والمرأة المطلقة والأرملة والعانس والعاملة، والإجبار على الزواج.

– ظهرت النماذج النسوية في الرواية، ممثلة في نمطين رئيسين، هما: المرأة المستلبة، والمرأة المتحدية. وتنوعت أساليب تصوير المرأة في الرواية بين الأسلوب التصويري، والاستبطاني، والتقريري.

– ويوصي البحث بمزيد من الدراسات التي تتناول الإنتاج الأدبي للكاتبة قماشة العليان، باعتباره أدبا ينتصر للأنثى من خلال تعرية العادات والتقاليد المتوارثة، وبيان زيفها، وإعاقتها لنمو المجتمع الذي ينهض بكل من الرجل والمرأة.

* جامعة طيبة، المملكة العربية السعودية.

[1] وادي، طه. صورة المرأة في الرواية المعاصرة، ط1. القاهرة: مركز كتب الشرق الأوسط، 1973م، ص:58.

[2] الملك عبد العزيز، دارة. قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، ط1، ج2. الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2013م، ص:1183.

[3] المرجع نفسه، ص:1183.   

[4] دارة. قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية. ص:1184-1183.

[5] المرجع نفسه، ص:1183.

[6] خليل، إبراهيم. النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، ط1. عمان: دار المسيرة للنشر،2007م، ص:135-134.

[7] مناصرة، حسين. النسوية في الثقافة والإبداع، ط1. إربد: عالم الكتب الحديث، 2008م، ص:71.

[8] السعداوي، نوال. الوجه العاري للمرأة العربية، ط1. القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1994م، ص:7.

[9] جامبل، سارة. النسوية وما بعد النسوية دراسات ومعجم نقدي، تر: أحمد شامي، ط1. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة،2002م، ص:22.

[10] العليان، قماشة. أنثى العنكبوت، ط1. لبنان: شركة رشاد برس، 2002م، ص:16.

[11] المصدر نفسه، ص:13.

[12] المصدر نفسه، ص:11.

[13] المصدر نفسه، ص:16.

[14] المصدر نفسه، ص:14.

[15] المصدر نفسه، ص:13.

[16] المصدر نفسه، ص:21.

[17] المصدر نفسه، ص:28.

[18] المصدر نفسه، ص:27.

[19] المصدر نفسه، ص:27.

[20] المصدر نفسه، ص:27.

[21] المصدر نفسه، ص:11.

[22] المصدر نفسه، ص:173.

[23] المصدر نفسه، ص:9.

[24] المصدر نفسه، ص:55.

[25] المصدر نفسه، ص:19-20.

[26] المصدر نفسه، ص:160.

[27] المصدر نفسه، ص:195.

[28] كامل، سماحة. رسم الشخصية الروائية في روايات حنا مينة، ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999م، ص:140.

 [29] العليان. أنثى العنكبوت. ص:48.

[30] المصدر نفسه، ص:43. 

[31] كامل. رسم الشخصية في روايات حنا مينة. ص:41.

[32] العليان. أنثى العنكبوت. ص:88. 

[33] المصدر نفسه، ص:11.

[34] المصدر نفسه، ص:59.  

[35] المصدر نفسه، ص:105.

[36] أمين، أحمد. النقد الأدبي، ط1. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1963م، ص:123.

[37] السعافين، إبراهيم. تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، ط1. بغداد: دار الرشيد،1980م، ص:299.

[38] العليان. أنثى العنكبوت. ص:110.

المصادر والمراجع

  • أمين، أحمد. النقد الأدبي، ط1. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1963م.
  • جامبل، سارة. النسوية وما بعد النسوية دراسات ومعجم نقدي، تر: أحمد شامي، ط1. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002م.
  • خليل، إبراهيم. النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، ط1. عمان: دار المسيرة للنشر، 2007م.
  • السعافين، إبراهيم. تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، ط1. بغداد: دار الرشيد، 1980م.
  • السعداوي، نوال. الوجه العاري للمرأة العربية، ط1. القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1994م.
  • العليان، قماشة. أنثى العنكبوت، ط1. بيروت: شركة رشاد برس، 2002م.
  • كامل، سماحة. رسم الشخصية الروائية في روايات حنا مينة، ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1999م.
  • الملك عبد العزيز، دارة. قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، ط1. الرياض: دارة الملك عبد العزيز،2014م.
  • مناصرة، حسين. النسوية في الثقافة والإبداع، ط1. إربد: عالم الكتب الحديث، 2008م.
  • وادي، طه. صورة المرأة في الرواية المعاصرة، ط1. القاهرة: مركز كتب الشرق الأوسط، 1973م.
    تحميل البحث