حقوق الطفل في أدبه ‬قراءة في رواية “منير.. الأبيض لا يليق بكم”

لتحميل المقال انقر هنا

 

 

 د. طارق البكري*

ملخص البحث:

نظرًا لاهتمامي بأدب الطفل وحقوقه؛ أصدرت عدة روايات للناشئة والشباب، وأحسب هذه الرواية أول رواية من نوعها للناشئة تتعلق بحق الطفولة بالرعاية الصحية والمساواة بعيدًا عن الإهمال والخطأ. صدرت بأكثر من عشر طبعات رسمية خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات، فضلاً عن توزيع آلاف النسخ الإلكترونية منها، وانتشارها في بعض المواقع ويتم تنزيلها مجانًا.

إن مرحلة الطفولة من أهم مراحل الحياة، ففيها تبدأ شخصية الإنسان في التكوّن والتأسس، لهذا كان الاهتمام بالطفل من أهم الأهداف التي يجب على الدول والمؤسسات والأفراد السعي لتحقيقها، فهو أمانة ويجب رعايته وتربيته وتنشئته التنشئة الصالحة. وحقوق الطفل لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها، ومنها حقه في العناية الصحية والرعاية النفسية الكاملة، في أي وقت وفي أي مكان يكون في حاجة إلى تلك العناية والرعاية.

كلمات مفتاحية:  منير، حقوق الطفل، الرعاية الصحية، الخطأ الطبي.

الطفل من حيث اللغة، فهو في اللسان “الصغير من كل شيء”[1] وشبيه ذلك في القاموس[2].  وحدد المعجم الوسيط الطفل بأنه: “المولود ما دام نعمًا رخْصًا[3]، والولدُ حتى البلوغ”[4]، وفي معجم اللغة العربية؛ “جئتُه والليل طفلٌ، أي في أولِه.. وعشبٌ طفل، أي لم يطل”[5].. وفي الاصطلاح؛ هو “الشخص الذي لم يبلغ سن الرشد بعد”[6]. وتشير المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى أن الطفل هو من “لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه”[7].

ويعتبر كثير من المتخصصين أن “مرحلة الطفولة من أهم مراحل الحياة عند الإنسان وأكثرها خطورة، فهي تتميز عن غيرها بصفات وخصائص واستعدادات، وهي أساس لمراحل الحياة التالية “[8].

وقد اتبعت في هذا البحث جانبًا متصلاً بالمنهج الوصفي التحليلي[9]، باعتباره مناسبًا لهذا النوع من الأبحاث القصيرة، وهو يهتم بتحديد الواقع، وجمع الحقائق عنه، وتحليل بعض جوانبه، بما يساهم في العمل على تحسينه وتطويره.. والرواية[10] تركز على حق الطفل في الرعاية الصحية، وما قد يتعرض له من أخطاء طبية، وما يستتبع ذلك من تقارير مغلوطة تؤدي إلى ضياع حق الطفل المريض، والذي ربما قد يتوفى نتيجة أخطاء طبية، أو جراء إهمال أو تقصير. كما أن الرواية تتعرض في جانب منها إلى الناحية القانونية، وما استتبعها من نقاش قانوني وحقوقي.

ويعود سبب اختيار موضوع البحث إلى ما نراه من حين لآخر من أخطاء طبية يتعرض لها المرضى عمومًا، والمرضى الأطفال خاصة، ولا شك أن الطب كما قالت المحامية ليلى الراشد في تقديم الرواية: “مهنة إنسانية، وجدت لِمساعَدة البَشر والأخذِ بيدهم ليعيشوا بلا آلام ولا أنَّات.. لكن أن تتحوَّل إلى مصدر للأحزان والدموع.. وأنْ تفقدنا أغلى الناس عندنا، وتحرمنا منهم إلى الأبد، نتيجة إهمال أو خطأ طبي؛ فهنا تنحرف المهنة عن أهدافها السّامية”[11].

وتبرز أهمية البحث من حق الطفل في الحماية والرعاية التامة، وضمان حقوقه وتمتعه بها وعدم تعريضه للخطر.. ولعل هذا ما استدعى أن تستحوذ الرواية على اهتمام كثير من المتخصصين، ومنهم من دعا لتكون جزءً من المقررات الدراسية في الكليات الطبية المختلفة، لكي يتعلم طلاب الطب وطلبة العلوم الطبية والتمريض، حيث شكلت الرواية بنظر البعض منهم “فرصة نادرة للتأمل والتفكر الأخلاقي المهني فيما كان وما يجب أن يكون.. كما تقدم لهم الأمل في أن يتعلموا منها ويجتهدوا ويعملوا ويبدعوا حتى يليق بهم الأبيض”[12]، فيما نصحت طبيبة متخصصة زملاءها وزميلاتها “من أصحاب الرداء الأبيض؛ بأن يقرأوا هذا الكتاب ويستفيدوا منه لتلافي الأخطاء الطبية”، متسائلة: “هل تحولت المستشفيات إلى مقابر من نوع جديد؟ وهل تحول ترولي نقل المريض داخل المستشفى إلى نعش متحرك يحيط به أصحاب الرداء الأبيض؟”[13].

حقوق الطفل وأدبه:

تبنّت الأمم المتحدة الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) عام 1966م، ومن الحقوق العامة التي تنطبق على الأطفال[14]: الحق في الحياة والحماية والتحرر من التعذيب، ومن المعاملة أو العقاب القاسيَين والحق بالتحكيم السريع، والحصول على معاملة ملائمة لأعمارهم. وأقرّت الأمم المتحدة مجموعة من الحقوق اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة 25/44 المؤرخ في 20 نوفمبر 1989م.

وتعتبر منظمة اليونيسف[15] أن اتفاقية حقوق الطفل هي الصك القانوني الدولي الأول الذي يلزم الدول الأطراف من ناحية قانونية بدمج السلسلة الكاملة لحقوق الإنسان، أي الحقوق المدنية والسياسية، إضافة إلى الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتقول إن الاتفاقية حققت القبول العالمي تقريبًا، وتم التصديق عليها حتى الآن من قبل 193 طرفًا.. وتتضمن 54 مادة، وبروتوكولين اختياريين.

وتشير الاتفاقية (المادة 24 الخاصة بالجانب الصحي)[16] إلى: أن الدول الأطراف تعترف بحق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه وبحقه في مرافق العلاج وإعادة التأهيل الصحي، وتبذل الدول قصارى جهدها لتضمن ألا يحرم أي طفل من حقه في الحصول على خدمات الرعاية الصحية هذه.

ماهية أدب الطفل:

يأتي دور أدب الطفل ليبرز في جانب مهم منه ضرورة رعاية حقوق الطفل والتركيز عليها، ولا سيما في روايات اليافعين، لما لها من تأثير كبير على الناشئة، ويكون التأثير أكبر إذا كانت التجارب الحقوقية واقعية، وشخوصها في سن متقارب مع القراء اليافعين.. وهو ليس مجرد شكل فني عام[17]، فخيوطه متداخلة متشابكة لا يمكن فصلها ببساطة.. بل يستحيل.

 وكلمة أدب ترتبط بالأخلاق والتربية وكذلك الحقوق، والأدب كما عرفه القدماء “هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف”[18]، أي كان الأدب عندهم بمعنى الثقافة.. وبمفهومه الفني الحديث “يختلف عن مفاهيم عديدة التصقت به عبر تاريخ الأدب العربي، لغةً واصطلاحًا، مثل معاني التأديب وتهذيب الخصال وإصلاح السلوك واكتساب العادات الحميدة، وهو في النهاية مجال تعبيري مكتوب، له فنونه النثرية والشعرية، مجال رحب محبب إلى النفوس ويستأثر بالقلوب، ويستهدف تنمية الوعي والشعور والأحاسيس”[19].

وأدب الأطفال يشبه أدب الكبار مع مراعاة حالة المستقبلين الأطفال ومستوياتهم الفكرية والنفسية، ولكنَّ “أدب الأطفال وإن اعتبرناه رافدًا للأدب بعامة، إلا أن له شخصيته وهويته، ورغم اتفاقه مع أدب الكبار في المبادئ العامة، إلا أنه يملك مقاييس جمالية خاصة”[20]، وهذا ما قد يجعله متفردًا في ذاته، وله مكانته العلمية المتجددة. وهو على العموم: “ذلك العمل الفني الإبداعي المكتوب أصلاً للأطفال حسب سنهم وخبراتهم، وكونه موجهًا للأطفال لا يحول دون تمتع النص بكفاءة فنية، متمثلة في جمال الأسلوب وسمو الفكرة، فثمة أعمال أدبية أنشئت في الأصل للصغار وأقبل عليها الكبار بمزيد من الدهشة والانبهار”[21]. ويرى بعض الباحثين[22] أن أدب الأطفال بمعناه العام يعني الإنتاج العقلي المدوَّن في كتب موجهة لهؤلاء الأطفال في شتى فروع المعرفة.

وفي الغرب هناك من يرى أن أدب الأطفال “مجموعة الكتابات التي يعتبرها الأطفال خاصة بهم، ولذلك فهو يضم كتب الأطفال بأنواعها المختلفة ومجلاتهم وصحفهم وما يكتب لهم في صحف الكبار ومجلاتهم، وغير ذلك”[23]، ويؤيد ذلك قولهم: إن أدب الأطفال “تصوير للحياة والفكر باستخدام اللغة على أن يكون ذلك بما يناسب مستوى الأطفال، وبذلك يحتوي على جميع ما يكتب للأطفال في مختلف المجالات”[24]، كما أنه “كل ما يقرأه الأطفال بشرط أن يكون مناسبًا لفهمهم وخبراتهم وانفعالاتهم”[25].

ما بين الخطأ والإهمال:

الخطأ هو :”ما ليس للإنسان فيه قصد”[26]، وبحسب تعريف المعهد الطبي الأمريكي هو “الفشل في إتمام عمل مقصود على الوجه المقصود، أو استعمال عمل خاطئ لتحقيق هدف ما”[27]، وُيعرّفه البعض بأنه انحراف الطبيب عن السلوك الطبي العادي والمألوف، وما يقتضيه من يقظةٍ وتبصّر إلى درجة يُهمل معها الاهتمام بمريضه، أو هو إخلال الطبيب بالواجبات الخاصة التي تفرضها عليه مهنته[28]، وهو ما يسمى بالالتزام التعاقدي.

وقيل إنه “عدم قيام الطبيب بالالتزامات الخاصة التي تفرضها عليه مهنته، ذلك لأن كل من يباشر مهنته تستلزم دراية خاصة يعد ملزمًا بالإحاطة بالأصول العلمية التي تمكنه من مباشرتها”[29]، وقيل إن “كل تقصير أو إهمال أو خروج من الطبيب في سلوكه على القواعد والأصول الطبية المتبعة”[30].

وموضوع الأخطاء الطبية ليس بجديد[31]، وتم الاهتمام به بشكل جيد عام 1990م حينما قامت الحكومة الأمريكية بالتحري إزاء خطأ طبي وقامت بنشر نتائج التحقيق، وكان أول تقرير رفع من طرف المنظمة الطبية (Institute of Medicine) عن الأخطاء الطبية عام 2000م، وتضمن إحصائيات لعدد من الأشخاص الذين يتوفون سنويًا في الولايات المتحدة.

ومسؤولية الخطأ الطبي قد تكون جماعية مشتركة وليست فردية، والخطأ قد لا يتعلق بالأفراد وإنما بالنظام الذي سمح بوصول الخطأ للمريض، والقضاء استقر على ضرورة أن يكون الخطأ الطبي واضحًا وثابتًا بصورة قاطعة، وأن الطبيب مسؤول عن جميع أخطائه مهما كان نوعها، سواء كانت يسيرة أم جسيمة، عادية أم فنية، فهو المسؤول عن كل تقصير، والقاضي وحده له الحق في تقدير الخطأ الطبي[32]. ويجدر التنبه إلى ضرورة الفصل بين المسؤولية عن الأخطاء الوارد حدوثها والمسؤولية

التقصيرية[33]، وكذلك المضاعفات التي يمكن أن تحدث ولا يكون للطبيب فيها أي مسؤولية، وبين موضوع أخطر من الأخطاء الطبية، وأقصد به موضوع الإهمال الطبي المتعمد أو نتيجة تقصير أو عدم مبالاة أو تركيز، وعدم إعطاء الطفل الوقت الكافي لدراسة المرض والتشخيص السريع، وعدم التسرع بالعلاج، ووضع خطة واضحة تؤدي إلى الشفاء بإذن الله مع الوضع في الاعتبار حصول مضاعفات خارجة عن إرادة الطبيب.

وهذه القضايا في حال حدوثها تمثل انتهاكًا صارخًا لحق الطفل في الرعاية الطبية الكاملة، حيث إن أي إهمال أو قصور يؤدي إلى تدهور في صحة الطفل المريض، وربما تؤدي إلى الوفاة كما حدث مع بطل رواية (منير.. الأبيض لا يليق بكم).. دون أن نغفل عما حدث بعد ذلك من محاولة طمس القضية، وتضييع حقوق الطفل ومن شابهه من الأطفال المرضى الآخرين الذين قد يتعرضون للمشكلات نفسها لكن لم يجدوا من يوثق ما جرى لهم. 

الأبيض لا يليق بكم:

كتب المؤلف (الأب/الشاهد) سابقًا العديد من الروايات والقصص المتنوعة الأهداف والأحجام والأفكار، ومعظمها كان موجهًا للأطفال والناشئة، ولم يحسب أنه سيأتي يوم ويكتب فيه رواية يتكلم فيها عن مأساة حقيقية حدثت مع طفل له في سن اليفاعة، كتب الرواية والجرح نازف، وحرص على أن تكون واقعية جدًا.. وأدبية جدًا، وهنا كانت المفارقة الشديدة الصعوبة. وطبعت الرواية أول مرة بعد نحو ستة شهور من وفاة ولده، قضاها في تدوين وتسجيل وتحري المعلومات، حتى خرجت الطبعة الأولى والثانية في لبنان، ثم طبعت في عدة دول عربية منها الأردن والكويت والإمارات العربية والجزائر وسوريا.. وانتشرت في مختلف الدول العربية، وكتب عنها كثير من الباحثين والنقاد.

طبعت الرواية عشر مرات، ثمان منها كاملة، ومرتين باختصار لتكون مناسبة لسن أصغر، وفي صيف 2019م طبعت في نسخة جديدة موسعة، تضمنت إلى جانب القصة الرئيسية تفاصيل القضية من الناحية القانونية، وحكم القضاء، وتقارير الأدلة الجنائية، ومكتب المحاماة، واللجنة الطبية التي تم تشكيلها بطلب من المحكمة، حيث تم تقديم معلومات خاطئة بنظر الأبوين والشهود، أدت إلى أحكام رأتها الرواية خاطئة، باعتبار المؤلف شاهدًا على ما حدث ولم يستطع إثبات الوقائع رغم وجود الأدلة والبراهين، فيما لم يقتنع بها القاضي، متجنبًا استدعاء الشهود، واعتبار كل ما قدم “أدلة مصطنعة”، واعتبر أنه: “لا يحق للمدعي اصطناع الأدلة”، ما استدعى الأب؛ ككاتب روائي وشاهد على الأحداث، أن يعيد كتابة الرواية لتكون مرجعًا توثيقيًا لحدث مهم جدًا، سقطت معه حقوق طفل توفي في المستشفى نتيجة مجموعة من التشخيصات الخاطئة والأدوية التجريبية الكثيرة الخاطئة والرعاية غير الدقيقة.

وهو يرى أنه لم يتم التحقيق في القضية بشكل جدي، فيما تم تأخير إجراءات التحقيق كثيرًا، ربما في محاولة لطمس القضية، وما يؤكد ذلك التلكؤ الكبير في تشكيل لجنة التحقيق وعدم إجراء تحقيق جدي مع رفض لجنة الخبراء وجود محامي المدعي، كما أنه لم تكن هناك استجابة سريعة للتحقيق، مع إغفال كثير من المعلومات والوقائع التي سجلت في تقرير لجنة التحقيق المقدم للمحكمة، عن قصد أو غير قصد، وإن كان لا يمكن الجزم بذلك، لأنَّه لا يمكن الاطلاع على النوايا، غير أن ما جرى قبل وخلال وبعد التحقيق من محاولة لطمس القضية، وعدم إعطائها حقها في البحث والتنقيب والسرعة اللازمة، أضاع حق الطفل، وجعل القضية في مهب الريح.

وبالعودة إلى الرواية التي صدرت في طبعتها الحادية عشرة وعلى صدر غلافها صورة الطفل الذي توفي قبل أن يبلغ السادسة عشرة من عمره، حيث قضى في المستشفى سبعة أشهر كاملة من 31-12-2014م حتى وفاته في 28-7-2015م. والرواية في هذه الطبعة مؤلفة من 192 صفحة، جاء في صفحتها الأولى أنها (الرواية الكاملة)، وأنها: “رسالة بيضاء إلى معشر الأطباء ورجال القانون”.

اعتبرت الباحثة المصرية انتصار عبد المنعم تحت عنوان: “الأبيض لا يليق بكم.. رسالة خالدة وبشر زائلون”[34]، أن الرواية “معجونة بالدم”، وأن الأحداث تتوالى من خلال ليلى (شقيقة منير في الرواية) في استرجاع لما حدث مع شقيقها، بداية من دخوله المستشفى لغاية خروجه من الحياة، وتبين أن التخييل جاء في الشخوص وليس في الأحداث، وأن التجارب مع المرض كانت موضوعًا لعدد غير قليل من الأعمال الأدبية، كتب روائيون وشعراء تجاربهم توثيقًا للحظات الألم التي انتهت بالشفاء وتجاوز المحنة، أو تخليدًا لذكرى مرورهم السريع بالحياة.

وترى أنَّه عندما يصم الأطباء آذانهم عن أنين المرضى، وتتبلد مشاعرهم ساخرين من وجع وحزن قلوب الآباء والأمهات على أحبتهم، وعندما تتبدل طرقهم في التعامل مع المريض وأهله وفقًا للمستشفى ما بين عام حكومي وخاص، وعندما يصم المسؤولون والقضاة آذانهم، ولا يسمعون شكاية المظلوم رغم ما يقدم من أدلة تشير إلى الجناة القتلة، تجيء الكتابة كحل وحيد تتيح سرد المظلمة، وعرض القضية بصورة كاملة، وذكر ما رفض الجميع سماعه في الوقت المناسب، و”رغم أن الرواية حقيقية الأحداث، إلا أنها تتخذ الشكل المعتاد للرواية بما فيها من التخييل المتعلق باختراع شخصيات تجيء على ألسنتهم وقائع ما جرى لمنير، مثل شخصية ليلى وعامل النظافة، أي أن التخييل جاء في الشخوص وليس في الأحداث”[35].

والرواية “تبدأ بليلى الطبيبة الجوالة ابنة بائع الملابس القديمة الجوال، التي تطوعت لتعالج المرضى في أنحاء متفرقة من العالم، رفقة زميلها الطبيب الجراح عاصم الذي أصيب بشظية في رجله اليمنى في مخيم للنازحين، وكلاهما عاشا الحروب وشاهدا الضحايا.. ثم تتوالى الأحداث من خلال ليلى في استرجاع لما حدث مع شقيقها منير، وكيف أن القاضي رفض سماع شهادتها كاملة وقاطع حديثها، فما كان منها إلا أن قررت كتابة ما كانت تريد قوله في رسالة توجهها للقاضي لأنها “موقنة بأن قلب القاضي أرق من جناح فراشة”، فكتبت: “لك الحق كاملاً فيما تقضي، ولا أزعم غير ذلك، لكنه أخي يا سيدي، أخي.. فتحوا بطنه دون أن يخبرونا، حقنوا عنقه بأدوية لا حصر لها.. أهانوه واحتقروه وأهملوه، صنعوا من جسده مسرحا للتجارب الفاشلة ولعبة لكل واهم بأنه أفضل طبيب في الدنيا وأكثر فهما من غيره….”[36].

ولكن كان “الحكم مبرمًا ولن يتغير”، مهما قدموا من أدلة على خطأ أطباء لا يليق بهم اللون الأبيض، ولذلك كان إهداء الرواية موجهة إلى كل طبيب يليق به الأبيض، وإلى كل من فقد حبيبًا بخطأ طبي، بل هي رسالة بيضاء إلى معشر الأطباء ورجال القانون.

وأشارت كاتبه المقال إلى أن ليلى قررت في الرواية أن تعمل على تغيير مسار حياتها، وأن تكون طبيبة حاذقة مخلصة لعملها، حتى يليق بها اللون الأبيض فعلاً وقولاً.. ومن خلالها تتوالى بالتدريج قصة معاناة منير ما بين تشخيص خاطئ للمرض وأدوية ضلت طريقها إلى مريض آخر لتستقر في عنق منير أو في يده أو في معدته، فيما هو راقد لا يستطيع دفع الضر عن نفسه.. أليس في ذلك أكبر انتهاك لحقوق الطفل؟

وتتضمن الرواية تفاصيل ما جرى للفتى الغض الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ومعاناة الأسرة من التعامل غير الإنساني لبعض الأطباء الذين يشخصون المرض من غير الكشف على المريض أو الحضور إلى غرفته لمعاينته، وتعالي بعضهم على وجع المريض، وسخرية بعضهم من أحزان وقلق أبيه وأمه، ورفضهم العمل لتسهيل سفره للعلاج بالخارج عندما سنحت له الفرصة، وعدم البدء بالتحقيق إلا بعد عامين من وفاته. ورغم ذلك نجد أن ليلى لا توجه أصابع الاتهام للقضاة أو كل الأطباء، بل كانت موضوعية بحيث ذكرت النماذج الإنسانية الطيبة التي يليق بها البياض، حتى وإن كانت قليلةً جدا.

وكتب الدكتور كمال رشيد، أستاذ الأدب الحديث ونقده في جامعة البلقاء التطبيقية الأردنية، قائلاً: إن الرواية تخالف كل الروايات بكل أنواعها وأطيافها، فلا تجنح إلى لغةٍ أدبية مجازية، ولا إلى زخرفة لغوية ساحرة، وإنما تعتمد لغة تقريرية مباشرة لتقرر حقيقة ما، فتستغني عن المقدمة والتقديم والاستهلال الوصفي، وتبدأ بحوار يؤرخ بداية المرض والمعاناة، من مرض بسيط إلى أمراض شتى تتشكل وتتنامى بفعل أخطاء طبية متعددة، بسبب إهمال وتقصير من أطباء وممرضين يلبسون اللباس الأبيض، لذا تبدأ الرواية بالحوار، وتبدأ الحكاية بالتشكل والظهور تباعًا، من زمان ومكان وشخوص وأحداث.

وقال إن الرواية تتحدث عن الأخطاء الطبية التي تسود في الأوساط الطبية والمستشفيات العربية التي لا تؤدي إلى الشفاء، بل إلى عاهة دائمة، أو إلى قتل، وسرعان ما تموت القضية بموت صاحبها. ومن هنا نجد الموضوع يشفع لهذه المباشرة والتقريرية أن تسود صفحات الرواية، لتعبر عن صرخة ألم، وعن فضح المستور، ونقل القضية إلى الرأي العام.

و”هكذا يتصدى الأديب لهذه القضية، وهو يروي القصة الحقيقية لنجله منير، وقد كان ضحية لهذه الأخطاء الطبية الفادحة، يأتي ليروي الحكاية بدمع عينيه وبنبضات قلبه المكلوم، فيوثق ويؤرخ لحالة تشابه حالات، ويدوّن حكاية تحاكي حالات، هنا وهناك، في المشافي الطبية، ويجعلها صرخة مدوية، ويجعل من قضيته قضية رأي عام، وهي ما يجب أن تكون”[37].

ويشير إلى أن الرواية تمتاز رغم مباشرتها بجماليات أدبية متعددة، ويبدأ بالعتبة الأولى حيث العنوان والذي يعد الاشتباك الأول بين القارئ والنص، فنجد العنوان عنوانين: [منير] عنوانًا رئيسًا، وجملة “الأبيض لا يليق بكم”.. فـ”منير”: اسم فاعل، وهو مصدر للنور، حيث كان أو حيث أشير إليه، إذ يكون اسمًا ويكون عاكسا على الأشياء، والأبيض: حيث كان يكون منيرًا أيضًا، وعندما نقرأ العنوانين معًا فعندها تحدث المفارقة والتنافر.

كما أن جملة “الأبيض لا يليق بكم” تعد تناصًا مع عنوان لرواية أحلام مستغانمي [الأسود يليق بك]، وهذا العنوان إذ يتناص مع ذاك العنوان ويحاكيه إلا أنه يخالفه قلبًا وقالبًا، فإذا كان فضاء أحلام مستغانمي رومانسيًا؛ فإن الفضاء هنا يتحدد بمكان واحد وهو المستشفى، وأبطاله من الأطباء والممرضين، وإذا كان الأسود في رواية مستغانمي يحل بحلة جمالية، فإن الأبيض في هذه الرواية يحل بحلة سوداوية، وإذا كان فضاء الرومانسية لأحلام قد فرض لغة رومانسية شاعرية، فإن لغة البكري جاءت مباشرة تحاكي العامة لا الخاصة، وهنا نجد المفارقة خير مفتاح للدخول إلى هذه الرواية.

ويضيف أنه ومن خلال قراءة التنويه الذي سبق النص نقرأ: [الرواية خيالية وأي تشابه بينها وبين الواقع مصادفة]، غير أن الرواية حقيقية فاقت الخيال، مما يجعل هذه الجملة التنويهية مقصودة بحد ذاتها، مما يفرض تلك المفارقة بين الواقعي والخيالي، والواقعي والمثالي، والقبح والجمال.

كما يجد الكاتب العنوان بألفاظه: [منير.. الأبيض لا يليق بكم] هي أكثر الألفاظ تكرارًا وتوظيفًا في الرواية، ولا تصبح لفظة منير اسمًا لمسمى فقط، وإنما تصبح لفظة دالة لها معنى، تحاكم الأسماء الظاهرة والمستترة الأخرى، ويصبح هو الضمير الحي الحاضر، أو الغائب أو المغيب، هو الذات والموضوع، هو المحكي عنه والحكاية التي تروى ويجب أن تروى، حتى لا تكون هنا ضحية أو هناك.

وكما يكون (الأبيض) لونًا دالاً على الطهارة والنقاء والطيبة، فإنه يصبح لونًا مفارقًا لهذه المعاني: “كان يتمالك نفسه بقوة ليخفي دمعة حزن يخفق بها قلبه الأبيض”[38].. وتصبح مفردتا “يليق” و”لا يليق” دالتين على المفارقة والسخرية والنقد والاستهزاء، حيث يستوجب المقام مقالها: “لا يقبلها الطبيب المخلص الذي يليق به اللون الأبيض”[39].. و”أي طبيب يليق به الأبيض يرضى بأن ينقلب 180 درجة من دون سابق إنذار”، و”كيف يمكن أن نثق بعد اليوم بمثل هذا البياض المزيف للحقائق المنكر للوقائع؟”[40].

ويذكر المقال أن هذه الرواية قامت على عرض مشاهد متعددة من آلام هذا المريض، وقد وظفت هذه المقابلة أو المفارقة بين لفظتي يليق أو لا يليق.. بين الأبيض والألوان الأخرى، بين صوت المريض وصراخه وصمت الأطباء وتجاهلهم، وجعلت الحكاية تُسرد على لسان راوٍ بسيط وهو الشاهد على الواقعة والقضية، فكان عامل النظافة الذي يكنس القمامة ويخفيها عن أعين الزائرين، وهو الراوي الذي يكشف ويروي أخطاء الأطباء، ويصبح هذا الراوي الذي ليس له كلمة في عالم الطب والأطباء، وليس له ثوب الأطباء، يصبح هو صاحب القلب الأبيض، وصاحب الكلمة الفاصلة والشاهدة، ويكتب لكلمته الخلود بخلود الأدب الذي يحفظ القضية.

ويضيف: “قيل قديمًا إن أخطاء الأطباء مدفونة تحت الأرض، وها هو طارق البكري ينشرها بلغة خالية من الأخطاء ليحاكم فيها أخطاء الأطباء، حتى يبقى لهذه المهنة ألقها وبياضها ونورها وصدقها، وألا يكون هذا اللباس الأبيض إلا لمن يليق بهم من أصحاب العلم والأخلاق وخدمة الإنسانية”.

ويخلص إلى القول: “لقد جاءت هذه الرواية مباشرة، وجنحت إلى التصريح لا إلى التلميح، لتقول كلمتها دون أن تحتاج إلى تفسير أو تأويل، ولتخاطب العامة والخاصة، ولتصبح القضية قضية رأي عام، وقد كانت، كما نجحت في أن تكون”.

الجانب الحقوقي والقانوني للرواية:

ركّزت الرواية على الجانب الحقوقي للطفل والخاص بالرعاية الصحية والإنسانية الكاملة، كما ركّزت على الجانب القانوني وما تم في المحكمة من مناقشات، وما ورد في تقرير الأدلة الجنائية وقرار الاستئناف ورد المحامية التي تولت القضية فضلاً عما قاله الوالد أمام القاضي، علمًا بأنه لم يكن للطفل المعني خيار في القرار الطبي، مع أنه حق من حقوقه[41] التي فقدها منذ البداية، نظرًا لتسرع الأطباء، ولاستسلام أسرة المريض لأي طلبات يطلبونها، وعدم الاعتراض عليها، فيما كان هو يبدي امتعاضه من حين لآخر دون استجابة له، قبل أن يفقد قدرته على الاعتراض، ثم اضطر للخضوع التام أمام هول الأحداث التي مر بها.

وتبين الرواية في مضامينها وبشكل غير مباشر كثيرًا مما تكفله مواثيق حقوق الطفل المدنية ومنها الحقوق الصحية، وكذلك كل الاتفاقيات الدولية والقوانين والدساتير المحلية للدول إضافة إلى الجوانب الإنسانية التي يحكمها الضمير البشري، دون إغفال مسألة لا شك فيها، ومفادها أن الشخصيات العامة، والمؤسسات بكل أنواعها، وجميع الأفراد يبدون علنًا كل الحرص على رعاية الطفولة من مختلف جوانبها، والرواية لا تتطلع إلى النوايا بقدر ما تتطلع إلى الوقائع المدرجة فيها، وتؤكد أن حدوث هذه الواقعة لا يعني اتهامًا لجميع عناصر الوسط الطبي، “الذي نكن له كل احترام وتقدير”، كما تؤكد الرواية نفسها ذلك بشكل واضح.

وتشير بعض المؤسسات الصحية[42] إلى جانب من حقوق الطفل المريض استنادًا لقوانين وحقوق الطفل الذي يتوقع أفضل رعاية، وأن يعلمه الأطباء والممرضات بكل ما يحتاجه هو وأسرته عن مرضه ليتحسن ويصبح بصحة جيدة، وأن يعامل كطفل يكبر مع احتياجات ومصالح خاصة، وأن يبكي لأنه وحيد وخائف، ولديه الحق بأن يتوقع فهم مشاعره، وأن يحصل على محبة ورعاية واهتمام باحتياجاته اليومية، كما يتوقع غرفة أنيقة نظيفة مع معدات تعمل، وأن يكتب له الأشخاص الذين يهتمون به ما يتوجب ولا يتوجب عليه فعله، وأن توضع خطط لمساعدته على التحسن، وأن يعرف أن الأطباء والممرضات سيتحدثون عن العناية به فقط للأشخاص المفيدين، وأن يتمكن من إبلاغهم بأنه غير سعيد عن الرعاية التي يتلقاها في حال شعوره بذلك، متوقعًا الإنصات إليه باهتمام لشرح أسباب عدم سعادته وتفهمها وإيجاد حلول لها.

والرواية التي صدرت في مارس عام 2016م صدرت طبعتها الأخيرة الكاملة في صيف عام 2019م، أي بعد مرور نحو أربع سنوات كاملة من وفاة بطل القصة، وبعد فترة قصيرة من صدور قرار الاستئناف في مصلحة المدعى عليهم، وهي الطبعة 11، وتتضمن تفاصيل كثيرة حدثت ما بعد الموت في صيف 2014م، ولا تروي فقط الأحداث الخاصة بالمستشفى كما وردت في الطبعات السابقة، حيث تنتقل عدسة الرواية الجديدة من أروقة المستشفيات إلى قاعات المحكمة والأدلة الجنائية، وكلية الطب، حيث تم تشكيل لجنة طبية -قيل إنها محايدة- من ثلاثة أطباء متخصصين للتحقيق في القضية.

وهنا تأخذ الرواية منحى جديدًا لم يطرح سابقًا، فبعد أن كانت القضية محصورة في الأخطاء الإهمال كما يعتقد الوالدان، سجلت مماطلة بتشكيل لجان التحقيق، وفي التعاون مع الأدلة الجنائية، إما عن طريق التلكؤ في تشكيل لجنة التحقيق الطبية، أو عن طريق اللامبالاة من الجهات الطبية المسؤولة، حيث تقدمت الأسرة بعدد من الشكاوى إلى مكتب وزير الصحة (ثلاثة وزراء متتالين) فضلاً عن طلب التدخل من وزير العدل نظرًا للمماطلة في تشكيل لجنة تحقيق، لكنها لم تلق آذانًا صاغيةً.

وتشير الرواية في جانب منها إلى بيان أصدرته جمعية حقوق الإنسان[43]  (الوطنية) عبرت فيه عن استنكارها الشديد لتهاون المسؤولين بوزارة الصحة وكلية الطب والمماطلة بالتحقيق “رغم مرور 450 يوماً”، وهو تاريخ صدور البيان في الـ 26 من أكتوبر عام 2016م، حيث لم يتم التحقيق في ظروف وفاة الطفل منير في أحد المستشفيات، ولم يتم دون الحصول على أي تقرير من أي جهة تحقيق كانت في ملابسات الوفاة.

وأضافت الجمعية أنه بناء على المعلومات المتوفرة لديها فقد تم بداية تشكيل لجنة تحقيق من قبل إدارة الشؤون القانونية في وزارة الصحة بعد مرور حوالي خمسة أشهر من الوفاة بناء على شكوى قدمها الأب، لكن للأسف لم يصدر أي تقرير من تلك اللجنة، ورغم الاستفسار المتواصل عن تقرير اللجنة لم يتم تقديم أي معلومات حول التقرير.

تقرير لجنة الخبراء:

اعتبرت الرواية أن تقرير لجنة الخبراء تضمن الكثير من الأخطاء في بعض الوقائع والأحداث، فضلاً عن بعض المسائل الأخرى التي تهدر حق الطفل المتوفى، وهذه الردود تم تقديمها إلى القضاء، ولم يتم الأخذ بها، واعتبر القضاء كما جاء في الرواية أنه: “لا يحق للمدعي اصطناع الأدلة”. وكان رأي الكاتب أنه ما دام القضاء قرر أن كلام المدعي “مصطنع”، وهذه مفردة مهذبة معناها “الكذب”، كان من المفترض اتهام المدعي بتضليل القضاء وتقديم أدلة مصطنعة، ومعاقبته.. لكن هذا لم يحدث.

كما تضمنت الرواية ردًا على قرار اللجنة تؤكد أنَّ فيه إغفالاً متعمدًا لبعض الحقائق، ولقضايا أثارها الأب، وأخطاءً في الزمان والمكان، وخلطًا في الأحداث والأشخاص، وعدم دقة كثير المعلومات. كما أنه لم يتم التحقيق في الحقن والأدوية التي أخذها الطفل المتوفى بالخطأ وكانت لمرضى آخرين، وخاصة حقنة في (وريد الرقبة) كانت ذاهبة لمريض مسن لديه غيبوبة سكر بحسب قول الدكتورة المسؤولة التي شاهدت بنفسها ورقة الخطأ الموضوعة في ملف منير، وكذلك إعطاء منير (كيس حديد) في الدم مباشرة (وريد اليد) وكانت أيضًا لمريض آخر.. وهذ الكلام مدون في تقرير الأب الموجه للجنة ومع ذلك لم تقم اللجنة بذكره من قريب أو بعيد.

وألمحت إلى أنَّه لم يكن متوقعًا أنَّ لا يتضمن التقرير دفاعًا عن الأطباء الذين تضامنوا للدفاع عن أنفسهم ولم يتضامنوا للدفاع عن حق الطفل بالعلاج الصحيح، وكانوا وقتها متفرقين غير متضامنين، ولم يجتمعوا إلا مرة واحدة بحسب التقرير نفسه، علمًا بأن رئيس وحدة الجهاز الهضمي وقتها قال بالحرف الواحد: “عندما يفضى الشباب يجتمعون”، وهذا معناه أنهم لم يجتمعوا إلا عندما وصل منير إلى مرحلة صعبة جدًا، وكان اجتماعهم على “الواقف”، كما قال أحد الأطباء لأم الطفل المتوفى.

كما أن التقرير بحسب الرواية تضمن مجموعة كبيرة من المغالطات والمعلومات، إضافة إلى تجاهل الكثير من البيانات التي أبلغ بها والد المتوفى لجنة التحقيق في تقرير مكتوب في نحو عشرين صفحة، ولم تقم اللجنة بالإجابة عليه ولا بالتحقيق في معظم المسائل التي طرحها الوالد، فضلاً عن تحريف للحقائق، أو ذكرها ناقصة بما يناسب المدعى عليهم، وإضافة معلومات لم تحصل أبدًا على أرض الواقع.

وأغفل التقرير وجود جرح كبير في بطن الطفل، اكتشفه والده عند القيام بغسله وتجهيزه للدفن، وأن الأب لم يحصل على رد من المستشفى عن سبب الجرح، وأنه تقدم بأكثر من ثلاث شكاوى لمدير المستشفى وأخرى لوزير الصحة وجميع الوكلاء يطلب تفسيرًا لهذا الجرح، لكنه لم يصل إلى جواب، ومع ذلك تجاهلت لجنة التحقيق ذكر هذا الموضوع والإشارة إليه لا من قريب ولا من بعيد رغم خطورته الشديدة، وقيام المستشفى بإجراء لم يتم أخذ إذن ولي أمر الطفل قبل إجرائه، كما أنهم لم يفيدوه عن سبب ذلك رغم سؤاله المتكرر ووجود ثلاثة شهود.

أوضح التقرير أن الأدلة الجنائية طلبت بتاريخ 21/8/2016م من عميد كلية الطب تشكيل لجنة تحقيق من الكلية، وبتاريخ 15/1/2017م ورد كتاب من عميد الكلية بأن اللجنة طلبت مقابلة والد للاستماع إليه وأصر على حضور المحامي وهذا ما رفضته اللجنة الطبية ولم تستمع إلى والد المتوفى الذي قدم تقريرًا مكتوبًا لها، وبذلك سقط حق الأسرة بشرح ما حدث مباشرة للجنة، واستغرق إعداد التقرير نحو سنة كاملة وخرج بكمية كبيرة من الأخطاء والخيالات غير الحقيقية.

وتشير الرواية إلى كثير من الأخطاء التي وردت في التقرير وأضاعت حقوق الطفل المتوفى، ومنها: أن الطفل المتوفى أصيب في أبريل عام 2014م بضعف حاد بالعين اليمنى، ويحدد التقرير بأن هذا الضعف كان خلال وجوده في بلد آخر، رغم أنه كان في البلد نفسه بدليل الفحوصات والتقارير التي تحدث عنها تقرير اللجنة، علما بأن هذا الموضوع ليس له أي علاقة بموضوع التحقيق لكنها كما يبدو محاولة للإيهام بأن الطفل كان مقيمًا في الخارج وأتى به أهله من بلده لكي يستفيد من العلاج المجاني في المستشفيات الحكومية علماً أن العلاج ليس مجانيًا بالكامل، كما أن الطفل كان مقيمًا بشكل رسمي ولديه تأمين صحي.

وجاءت بعض استنتاجات أعضاء اللجنة وتحليلاتهم الطبية البحتة بما له علاقة بما يطرحه الأب من مسائل غير طبية.. وتعرضت اللجنة إلى جوانب طبية ثانوية حتى تبين أنها قامت بدراسة معمقة، فيما هي لم تعرف حتى من أين جاءت بعض المعلومات كما هو واضح في بعض الصفحات.

وهناك مسألة خطيرة يذكرها التقرير وهو إجراء موضوع الفحص الذري مرتين، حيث قررت المستشفى إجراء مسح ذري لمنير دون أن يتم الانتباه إلى أنه كان قد أجرى الفحص نفسه قبل بضعة أشهر، ولا ضرورة لهذا الفحص، وعرضه لمخاطر كثيرة لعدم تحمل جسمه للإشعاع، علما بأن هذا المسح الذري كما قال لنا بعض الأطباء لا يجدر القيام به في فترات متقاربة ولم تكن له فائدة.. كما أنه تم تأخير موعد هذا الفحص لمدة شهر تقريبًا رغم حالة المريض الحرجة، وقاموا خلال هذه الفترة بتجاهله تمامًا ولم يعد الأطباء يدخلون غرفته إلا نادرًا، حتى تدهورت صحته.

قرّروا قبل ذلك أنهم سيخرجون منير من المستشفى، وقرروا وقف جميع الأدوية والمحاليل الوريدية والاستعاضة عنها بأدوية عن طريق الفم، واستمر ذلك لمدة أسبوع كامل، حتى تدهورت حالة منير، وأصيب بهزال شديد، دفع الطبيب إلى وضع أنبوب مغذ في عملية أجريت في غرفة العمليات، لكن بعد أيام وبسبب أخطاء في وضع المحاليل وبشهادة طبيب الكلى، وارتفاع نسبة الحموضة بالدم كاد منير وقتها يصاب بفشل كلوي، وتم نقله على عجل إلى العناية المركزة، وكانت الطبيبة هناك مستعدة لوضعه على جهاز غسيل الكلى كما أخبروها، لكنها رفضت ذلك وأعادته إلى غرفته في أقل من ربع ساعة.

حق الفقراء:

“أو ليس من حق الفقراء أن يفرحوا كما يفرح غيرهم؟”[44].. جملة قالتها ليلى في الرواية، وقد امتلأ قلبها في أيام دراستها الجامعية الأولى بالحزن والكآبة، لكنها حاولت إخفاء حزنها وكآبتها حتى لا يلحظ همها أحد. هي تعلم أنَّ للطب فوائد لا تعد ولا تحصى، وأنه مهنة إنسانية عظيمة كما يقول كثير من الناس، لكنها تدرك في المقابل ما يحيق بالطب من أخطار ومسؤوليات جسام، ومن أخطاء عظام قد تكون مميتة، فخطأ الطبيب، وهو في الغالب الأعم غير مقصود، قد يغرم المريض الغالي والنفيس، وربما كان الثمن حياته، لكنها تعلم أيضًا أن مقابل كل خطأ طبي هناك ملايين من المرضى خفف الطب عنهم آلامهم، واستعادوا عافيتهم بفضل الأطباء الذين يبذلون جهدهم الكامل.

هي تدرك أنَّ الخطأ لا يمكن أن يكون مقصودًا من طبيب، لكنَّه عندما يقع لا يجوز أن نسميه بغير اسمه، كما أن الطبيب عندما يقع في خطأ قد يتهرَّب من مسؤولياته، ويقوم بالبحث عن تبريرات كثيرة لكي لا يؤدي الخطأ إلى ضرر يؤثر أو يضر بحياته المهنية، وبخاصة عندما يكون الخطأ ناتجًا عن إهمال حقيقي، أو عن سوء تقدير، لأنَّه في النهاية لم يَمنحه ما يلزمه من وقت وافٍ وتحقيق ودراسة لحالة المريض الذي يعالجه، أو ربما لعدم التركيز والاهتمام اللازمين.

وتقول الرواية: “كم سمع الناس وقرأوا فيما مضى من زمان عن أمور لا تحب ليلى أن تذكرها ولا أن تتذكرها.. وكم تعجبوا من تحوُّل الطب في بعض الأحيان من واجب إنساني يقوم به نخبة القوم، إلى مجرد وجاهة اجتماعية يسعى إليها الساعون من الأهل أو الأبناء أنفسهم، بحثًا عن مهنة تدر عليهم المال الوفير، وتجعل الناس بحاجة ماسَّة إليهم، إرضاء لرغباتهم، وتشريفًا لمكانة يبحثون عنها، كأنها علاج شاف لعقدة نقص في نفوسهم”[45].

وتؤكد الرواية أن “الطب ليس مهنة.. وأن هذه أول جملة يجب علينا أن نحفظها في كتاب الحياة، وليس في كتب الطب”[46]. وهذه الجملة الأخيرة لطالما رددتها ليلى خلال دراستها نقلاً عن طبيب شهير، وحتى بعد أن تخرجت في الجامعة بقيت على هذه الحال في ترديدها، لأنها تؤمن بأن: “الطب ليس مهنة كما يظن البعض” كما قالت ذلك ذات مرة في مقابلة تلفزيونية.

وتتذكر ليلى كيف تجرأت للدفاع عن قضيتها وقضية عائلتها التي لم تهدأ يومًا، ولم يخفت وهجها، ولم يبهت ضجيجها، ولم تلتئم جراحها. تتذكر عندما تحدثت أمام القاضي بجرأة قبل تلاوته قراره النهائي الحاسم وبعد قوله إنه لا يحق للمدعي اصطناع الأدلة، فإذا لم يكن من حق المدعي البحث عن الدليل لإثبات حقه، فكيف من حق المدعى عليه أن يطرح أدلة مفبركة غير صحيحة؟؟! كانت تتكلم بقلب مجروح.. غير أن القاضي لا يمكنه الحكم دون إثبات.. وأمها وأبوها لم ينسيا لحظة كلمتها التي عبرت عما يجيش في صدرهما من ألم.

عادت بها الذاكرة إلى تلك اللحظات، حين وقفت فيها أمام القاضي بجرأة غير معهودة. وتجاوزت أعراف المحاكم لتتحدث رغم صدور الحكم. لكن القاضي قاطع كلامها فلم تكمل ما تريد قوله، فكتبت له رسالة تتضمن كلامًا خارجًا عن مألوف المحكمة. كانت ليلى موقنة بأن قلب القاضي أرق من جناح فراشة، وأنه إذا قرأ كلامها فسوف يتأثر. لكنها تعتقد في المقابل أن الرسالة لم تصل. وكتبت ليلى في رسالتها:

“يا حضرة القاضي.. لك الحق التام الكامل غير المنقوص يا سيدي بأن تحكم كما تشاء، وفيما تشاء، وكيفما تشاء.. وإن حكمك الذي يقول: (لا يحق للمدعي أن يصطنع دليلاً)، فهذه الجملة وإن كانت مسجلة في ملفاتك القانونية كقاعدة يعتمد عليها لرد القضايا ورفض بيانات المدعي؛ فإنها لن تعيق بحثي عن الأدلة. والقول بالاصطناع يقابله الاختلاق، وأعتقد -وقد أكون مخطئة نظرًا لجهلي بالقانون- أن في ذلك تهمة لو كنتَ مقتنعًا بها فقد يكون لزامًا عليك أن تتهمنا بتحريف القضية وتضليل العدالة، لا مجرد الحكم برد القضية دون توقيع العقاب على محاولة تضليل آثمة، ما دمت تحدثت عن اختلاق للأدلة… لكنك لم تفعل!!! ولا أدري إن كان ذلك هو المعتمد والمتوافق عليه، لكني لا أتفهم كيف يترك من يضلل العدالة طليقًا دون عقاب؟؟؟ بل كيف لنا أن نصطنع الأدلة ولا تحقق في ادعاءاتنا “المصطنعة” كما رأيتها، وفيها ما فيها من حرف للعدالة عن مسارها، وهذه رؤية تستوجب زجَّنا بالسجون تزامنًا مع ختم القضية لصالح المدعى عليه!!

سيدي القاضي… من حقي أن أتكلم ومن الكرم أن تصغي، لكني ما إن بدأت الحديث حتى ابتسمت وسارعت بإنهاء كلامي، ورفضت أن تسمع مني الحقيقة كما أراها، ثم قررت سريعًا رفض ما قدمناه من أدلة وشهود، قاضيًا في قرارك المكتوب أنه لا يحق للمدعي “اصطناع” الأدلة والوقائع! فكيف يا سيدي ترفض أن تسمعني وقد قلتُ “حقًا” فيما سمعت كلامهم واتخذته دليلاً حتميًا.. لك الحق كاملاً فيما تقضي، ولا أزعم غير ذلك. لكنه أخي يا سيدي.. أخي.. فتحوا بطنه دون أن يخبرونا. حقنوا عنقه بأدوية لا حصر لها من كل صنف، ومنها ما هو بالخطأ ومنها ما لا ضرورة له، عصروا دمه، أهانوه واحتقروه وأهملوه، صنعوا من جسده مسرحًا للتجارب الفاشلة. ولعبة لكل واهم بأنه أفضل طبيب في الدنيا وأكثر فهمًا من غيره.. دون رحمة واعتبار. حتى حانت ساعة الوفاة.

ليس لدينا يا سيدي القاضي اعتراض على الموت.. فالموت حق لا مفر منه، طال العمر أم قصر، وكل إنسان ملاقيه ولو اجتمع كل أطباء العالم حوله، لكن اعتراضي على فظاعة ما حدث.. فالمشكلة لم تنته عند الموت احترامًا وإجلالاً لهيبته.. بل استمروا في تجردهم من الإنسانية.. وأنكروا.. بل كذبوا.. وقدموا لك تفاصيل غريبة، في ظاهرها الصحة وفي باطنها ضلال وتضليل”[47].

وتستعيد ليلى أيضًا أنها بعد خمسين يومًا من الاستنكار الذي أعلنته جمعية حقوق الإنسان؛ تقدمت هي أيضًا، باسم أسرتها، بشكوى إلى أعضاء اللجنة المختصة في مجلس النواب، لعلها تستطيع الاستعانة بهم لاسترداد حق أخيها المتوفى.. وجاء في شكواها:

“نتقدم إليكم بشكوى تفيد بقيام المسؤولين في وزارة الصحة وكلية الطب بالتهاون والمماطلة في التحقيق في ظروف وفاة الطفل منير في أحد المستشفيات، رغم مرور نحو 500 يوم على وفاته، دون الحصول على أي تقرير من أي جهة تحقيق كانت في ملابسات الوفاة. علما بأنه قبل نحو سنة تم تشكيل لجنة تحقيق من قبل إدارة الشؤون القانونية في وزارة الصحة بعد مرور حوالي خمسة أشهر من الوفاة بناء على شكوى قدمها والده، ولكن للأسف لم يصدر أي تقرير من تلك اللجنة، ورغم الاستفسار المتواصل عن تقرير اللجنة؛ لم يتم تقديم أية معلومات حول التقرير.. وتم التستر على نتائج التحقيق التي توصلت إليها اللجنة.

وبعد لجوء والد منير إلى القضاء تم توجيه الإدارة العامة للأدلة الجنائية بتاريخ 21 أغسطس 2016م بمخاطبة عميد كلية الطب لتشكيل لجنة ثلاثية من الكلية، وللأسف لم تتجاوب كلية الطب مع الطلب وبدون معرفة الأسباب. وكان الطفل المتوفى دخل المستشفى على قدميه بتاريخ 31 ديسمبر 2014م، وظل فيها مدة سبعة أشهر حتى تدهورت صحته في ظروف غامضة، وظل هناك حتى توفي بتاريخ 28 يوليو 2015م.

وكان منير تعرض خلال تلك الفترة لإهمال فاضح، كتبت عنه الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي، لكن الجهة الطبية كانت تمعن بإهمال هذا الطفل، ومن ذلك إعطائه أدوية كثيرة لا فائدة لها، فضلاً عن إعطائه أدوية كانت لمرضى آخرين.. وتشخيصه أكثر من خمسة تشخيصات خاطئة، ورفض الأطباء استشارة آخرين، وعرقلة سفره عن طريق إحدى الجهات العليا كانت ترغب بذلك، ثم عرقلة سفره بعد تبرع أحد كبار المسؤولين الرسميين بالدفعة الأولى لمستشفى فرنسي، ثم تكفل رجل أعمال بكامل التكاليف.

كما أن الوفاة كانت بسبب بكتيريا أصابته بالتسمم ولم تتم معالجته على الفور، ولم يتم ذكر البكتيريا في تقرير الوفاة، تهربا من حقيقة الأمر. إضافة إلى أخطاء أخرى كثيرة. لذا ندعو اللجنة الموقرة للاستماع إلى والد الطفل منير والتحقق من هذه الوقائع المؤسفة وغيرها من الحقائق التي لا تليق بالإنسانية.. ونأمل منكم التدخل الفوري حتى لا يتم تدمير ما تبقى من ثقة بالرعاية الصحية وتوجيه المختصين بإيضاح نتائج التحقيق في ملابسات الوفاة للرأي العام، مع إيضاح الآليات المستخدمة في التحقيق، ومن هي الأطراف التي شاركت فيه.. كما يجب معرفة الأسباب التي أدت إلى تأخير تشكيل لجنة التحقيق في كلية الطب وتجاهل طلب الجهات المسؤولة”[48].

علماً أن كل هذه النداءات لم يكن لها أي آثار تذكر، فضلاً عن الشكاوى الرسمية التي قدمت مباشرة في مكتب وزير الصحة ووكيل الوزراء والوكلاء المعنيين ومدير المستشفى، وكان مصيرها الإهمال.

خاتمة البحث:

كشفت الرواية في فصولها مجموعة من الوقائع والأحداث التي تبين انتهاكات متنوعة لحقوق الطفل، ومنها ما تناوله التقرير الجنائي، فضلاً عن محاولة طمس القضية وتضليل القضاء من قبل تقرير لجنة الأطباء.. وقد نجح في ذلك خاصة مع تجنب المحكمة استدعاء الشهود.

كما أن التقرير كشف وبكل وضوح بأن ما يقوله الأب بشأن التشخيصات الخاطئة كان واقعًا واستتبعته كمية كبيرة من الأدوية لا ضرورة لها لكن القاضي لم يأخذ بذلك. كما يثبت التقرير حدوث عدوة بكتيرية قاتلة من داخل المستشفى، وذلك مع توقع الأطباء بأنها ستحدث دون أي إجراءات استباقية، مثل تعقيم الغرفة، وتعقيم أدوات المريض. فيما ينفي إعطاء المريض عقار (سوماتوستاتين) بادعائه رفض عائلته بينما المريض ظل يأخذ الدواء لمدة شهرين كاملين. وهذا يدل على محاولة التقرير تضليل القضاء بشكل مؤكد وثابت بالوقائع والأدلة لكن لم يأخذ بها القاضي.

ولم يذكر التقرير سبب جرح كبير وجده الأب في بطن ابنه المتوفى أجري دون علمه قبل موته أو ربما بعد موته لأخذ أعضاء داخلية منه وهذا الأمر جريمة في الحالتين. كما امتنع التقرير عن التحقيق في كثير من الأمور التي ذكرها والد الطفل في تقرير مقدم إلى اللجنة.

وقد تم إعطاء المريض كمية كبيرة من الكورتيزون بتشخيص خاطئ ما أدى إلى دخوله غرفة العناية المركزة فيما يذكر التقرير أسبابًا أخرى تنفيها الوقائع.. ومعظم الأدوية الهائلة التي أخذها المريض كانت بسبب تشخيصات خاطئة، وترجيحات خاطئة وغير جازمة وضئيلة الاحتمال، وتعبيرات كثيرة مشابهة تضمنها التقرير.

ويثبت التقرير الرسمي أنه تم إجراء عملية في الحوض -دون تخدير- لأخذ عينة نخاع عظمي ما عرض الطفل للألم شديد وللخطر رغم “ضآلة” النتيجة المتوقعة حسب تأكيد التقرير نفسه.

وبناءً على هذه النقاط وما ذكر سابقًا، وما ذكره الأب في تقريره المقدم إلى اللجنة والمكون من 20 صفحة ولم تأخذ به اللجنة فيما ورد من أقوال الأب، يتبين بوضوح، وبإقرار لجنة التحقيق في سياق تقريرها أن الطفل توفي نتيجة عدوى بكتيرية من المستشفى، ونتيجة إهمال واضح بعدم إجراء حماية للمريض، وبسبب أدوية كثيرة، ونتبين بكل وضوح أن سبب الوفاة هي العدوى المسممة للدم، والمسؤولة عنها المستشفى، فضلا عن التشخيصات الكثيرة الخاطئة والإهمال الكبير للأطباء، وعدم دخول غرفته لنحو أربعة أشهر كاملة، وتأكيد أحد الأطباء أنه في المكان الخطأ، وإجراء صور إشعاعية وذرية وعملية النخاع العظمي غير الضرورية بتاتا إضافة إلى القيام بكثير من عمليات أخذ العينات غير الضرورية من الأمعاء، وكمية الأدوية العالية، حيث كان هناك تسرع بإعطاء الأدوية المختلفة وتعريض الطفل للخطر ونزيف الدم دون معالجة سريعة، وتجويعه أربعة أيام لخطأ منهم، ثم إخضاعه لنظام غذائي قاس جدًا بأطعمة غير شهية وقاسية على المضغ فكيف الأمعاء، عندما تم تشخيصه خطأ على أن مرضه (سلياك) علما أن التغذية كان تشرف عليها العائلة ولم تكن منظمة بالتنسيق مع طبيبة التغذية حسب قول الطبيبة نفسها للعائلة.

إن كل هذه المسائل تجعلنا نؤكد وبكل اطمئنان أن الإهمال والتسرع وعدم التحقيق الجدي هو سمة هذا التقرير الذي حاول في النهاية نفي التهمة عن الجهاز الطبي المعالج رغم أنه أكدها بكل وضوح، حيث أكد سبب الوفاة، وتعدد التشخيصات الخاطئة، وتعدد الأدوية والعمليات غير الضرورية وغير المفيدة مع العلم المسبق لدى الأطباء المعالجين بضرر الأدوية التي أعطيت له بشكل خاطئ. وكان أحد الأستاذ في كلية الطب والاستشاري في المستشفى نفسه صرح أن الأدوية إذا استخدمت بشكل غير سليم وزادت عن حدها تتحول إلى سم.. 

ومن هنا لا بد من النظر إلى أهمية إيلاء مثل هذه القضايا اهتمامًا كبيرًا من مختلف الوسائط المجتمعية، وعدم اعتبار الموضوعات المشابهة مجرد قضاء وقدر، مع كامل الإيمان بقضاء الله وقدره، وهذا الإيمان لا يعارض أهمية الاعتناء برعاية الإنسان وحماية حقوقه وخاصة الأطفال الصغار والناشئة، والسعي لكي يعامل هؤلاء معاملة خاصة، ولا يتم وضع الناشئة مع كبار السن في غرفة واحدة ولا في جناح واحد، وإلزام الطبيب في المستشفيات الحكومية بمعاملة الطفل المريض معاملة لائقة، وعدم إهمال هذا الأمر تحت أي ظرف كان، مهما كانت مكانة الطبيب، مع الإقرار بصعوبة هذا الأمر، لأسباب عدة، فضلاً عن إلزام المستشفيات الحكومية على رعاية الأطفال المرضى كما تعاملهم المستشفيات الخاصة، لا أن يعامل بطريقة جافة من طبيب بينما الطبيب نفسه تتغير ملامح وجهه عندما يكون في المستشفى الحكومي.

وهذه التطلعات قد لا يمكن تحقيقها وخاصة ما يتعلق بنفسيات الأطباء ونظرة بعضهم إلى المرضى في المستشفيات الحكومية كونه يعمل كموظف ولا يعمل في مستشفى استثماري، وربما لا بد من اتخاذ قرار شجاع بأن يختار الطبيب بين الخاص والعام، فلا يكون عندها ازدواجية بالتعاون.. مع الشك بالقدرة على اتخاذ مثل هذا القرار.. وقد تعمد الدول إلى خطة مستقبلية بتوعية المجتمع، وفتح أوسع مجال لدراسة الطب لتوفير أكبر عدد من الأطباء ويتم اختيار طلاب الطب بناء على معايير إنسانية تكون لها أهمية موازية للمعايير العلمية.

ومن جانب لجان التحقيق الطبية؛ لا بد من أن تكون التحقيقات شفافة وعلنية، وأن يسمح للمدعي بالمشاركة في حضور التحقيقات، والإدلاء بكل المعلومات المتاحة، وحمايته من الأضرار التي قد يتعرض لها، وأن يسمح له ولمن يوكله من المحامين بالاطلاع على تفاصيل التحقيق، ومعرفة كيف سارت خطوات التحقيق، والرد عليها بالتفصيل، ضمن الأصول القانونية، وعدم اعتبار الأدلة التي يقدمها مجرد “أداة مصطنعة” لتضليل التحقيق، ومعاقبة كل الجهات التي تحاول عرقلة التحقيق وتضليله، وبشكل خاص الجهات المسؤولة في وزارات الصحة التي تمتلك عادة ملفات المرضى، وبإمكانها التخلص من الأدلة وحرف القضية عن مسارها بكل سهولة.

وقد تكون قضية منير من أبرز القضايا المعاصرة التي تم توثيقها كاملة في سياق روائي موجه للناشئة، ما يحتاج إلى الاعتناء بهذه الرواية وإيلائها أكبر اهتمام، ونشرها على أوسع نطاق، لما تتضمنه من فوائد تعود بالنفع على جميع فئات المجتمع، سواء من الأطباء أنفسهم أو من المرضى، وكذلك من المؤسسات المعنية بالصحة، وكذلك المؤسسات القانونية.

ولعل هذه الرواية تكون سببًا في إصلاح الكثير من الخلل الطبي والقانوني في حال وجوده، كما أنه سوف يستفيد منها طلاب العلوم الطبية، وجميع مقدمي الرعاية الطبية، حتى نقلل من الأخطاء التي تحدث حاليًا وقد تحدث مستقبلاً، وبذلك تكون وفاة الفتى منير منارة تضيء طريق الآخرين.

* أستاذ أدب الطفل في كلية التربية الأساسية، الكويت.

 

1 ابن منظور، لسان العرب،ج11، (بيروت: دار صادر، 2008م)، ص: 401.

2 الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج4، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1995م، ص: 7.

[3] الرخص هو الشيء الناعم (ابن منظور، لسان العرب، ج7، ص: 40.

[4] مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ج2، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط2،)، ص: 506.

[5] مجموعة مؤلفين، معجم اللغة العربية، ج6، (بيروت: دار المحيط، ط1، 1995م)، ص: 860.

[6] مجموعة مؤلفين، دائرة المعارف العالمية world book Encyclopedia، ج15، نشر وترجمة مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، (الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1996م)، ص: 592.

[7] https://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CRC.aspx

[8] بريغش، محمد حسن، أدب الأطفال أهدافه وسماته، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3، 1997م)، ص: 14.

[9] أبو النصر، مدحت، قواعد ومراحل البحث العلمي، (القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2004م)، ص:131.

[10]  البكري، د.طارق، منير.. الأبيض لا يليق بكم، (الكويت: المؤلف، ط11، 2019).

[11] المصدر نفسه، ص: 6.

[12] بوحيمد، د. منال منصور، رسالة لأبنائنا من مقدمي الرعاية الصحية مستقبلاً من طلبة وكليات العلوم الطبية والتمريض، بتصرف، من مقدمة رواية: (منير.. الأبيض لا يليق بكم)، المصدر نفسه، ص: 4.

[13] الشومر، د. هند، منير والأخطاء الطبية، جريدة الأنباء، الكويت، تاريخ العدد: 30 أكتوبر 2017م، www.alanba.com.kw.

[14]  انظر: ميثاق حقوق الطفل. https://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CRC.aspx

[15] انظر:  https://www.unicef.org/arabic/crc/34726_50765.html

[16] https://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CRC.aspx

[17] انظر: البكري، طارق، كامل كيلاني رائدًا لأدب الطفل العربي، قراءة في اللغة والمنهج والأسلوب، (لبنان: دار الرقي، ط1، 2006م)، ص: 2.

[18] ابن خلدون (عبدالرحمن بن محمد) المقدمة، (تونس:  دار المعارف ط1، 1991م)، ص: 319.

[19] زلط، أحمد، أدب الطفولة.. أصوله ومفاهيمة رؤى تراثية، (القاهرة: الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط4، 1997م)، 19- 20.

[20] الحديدي، علي، في أدب الأطفال، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط6، 1992م)، ص: 100.

[21] القديري، ممدوح، أدب الطفل العربي، (القاهرة: مركز الحضارة العربية، ط1، 1999م)، ص: 12.

[22] نجيب، أحمد، القصة في أدب الأطفال، (بيروت: دار الحدائق، ط1، 2000م)، ص: 17.

[23] Betzner, Sean, 1956, Exploring Literature With Children, New York. Teachers College, Columbia University,P.4.

[24] Anderson, William and Groff, Patrick, 1972, A New Look at Children’s Literature  California: Belmont Wadsworth Publishing Company,P.3.

[25] Huch, Charllots, 1976, Children’s Literature in the Elementary School. New York: Holt, Rinhart and Winston,P.5.

[26] الجرجاني، عبدالقادر، التعريفات، بيروت-لبنان: دار الكتب العلمية، ط1، 1983م)،ص: 85.

[27] تقرير معهد الطب الأمريكي 1999(TOERR IS THAMAN. NOVEMBER) أشار إليه: وسيم فتح الله: الخطأ الطبي وآثاره، القاهرة: النهضة العربية، ط1، ص: 8.    

[28] بيطام، د. سميرة، الخطأ الطبي بين التجريم والتبرئة، مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب www.wefaqdev.net ، تاريخ النشر: 29 ديسمبر 2015م، تاريخ الزيارة: 28 نوفمبر 2019م.

[29] زيدان، سلام، مسؤولية الطبيب الجزائية، (بغداد: دار الكتب والوثائق، ط1، 2016م)، ص: 108.

[30] فايد، محمد، المسؤولية الجنائية للأطباء، (القاهرة: دار النهضة العربية،1987م)، ص: 224.

[31] المصدر نفسه، باختصار.

[32] بيطام، د. سميرة، الخطأ الطبي بين التجريم والتبرئة، بتصرف.  

[33] عساف، وائل تيسير محمد، المسؤولية المدنية للطبيب: دراسة مقارنة،  أطروحة الماجستير، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، 2008م، انظر: 13.

[34] عبد المنعم، انتصار، الأبيض لا يليق بكم.. رسالة خالدة وبشر زائلون، ميدل إيست أون لاين https://meo.news، تاريخ النشر: 16 يوليو 2019م، تاريخ الزيارة: 30 نوفمبر 2019م.

[35] المرجع نفسه.

[36] المرجع نفسه.

37 رشيد، د. بلال كمال، المفارقة في رواية منير (الأبيض لا يليق بكم) الصدى.نت  http://elsada.net

[38] البكري، منير.. الأبيض لا يليق بكم، ص: 143.

[39] المصدر نفسه، ص: 46.

[40] المصدر نفسه، ص: 108.

41 زعنون، فتيحة، حق الطفل المريض في المشاركة في القرار الطبي، مجلة دفاتر السياسة والقانون، جامعة وهران، الجزائر، ع 18، يناير 2018م، ص:  169- 182.

[42] مستشفى السلام الدولي، الكويت، وثيقة حقوق الأطفال http://sih-kw.com/Children_Bills_of_Rights_Ar.cms

[43] الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان  http://www.kuwaithr.org

[44] البكري، منير.. الأبيض لا يليق بكم، ص: 08.

[45] المصدر نفسه، ص: 09.

[46] المصدر نفسه، ص: 16.

[47] المصدر نفسه، ص: 20-23.

[48] المصدر نفسه، ص: 34-35.

المصادر والمراجع:

  • ابن خلدون، المقدمة، تونس: دار المعارف، ط1، 1991م.
  • ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، ط1، 2008م.
  • أبو النصر، مدحت، قواعد ومراحل البحث العلمي، القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2004م.
  • بريغش، محمد حسن، أدب الأطفال أهدافه وسماته، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3، 1997م.
  • البكري، طارق، كامل كيلاني رائدًا لأدب الطفل العربي، قراءة في اللغة والمنهج والأسلوب، لبنان: دار الرقي، ط1، 2006م.
  • البكري، طارق، منير.. الأبيض لا يليق بكم، الكويت: المؤلف، ط11، 2019م.
  • الجرجاني، عبدالقاهر، التعريفات، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1983م.
  • الحديدي، علي، في أدب الأطفال، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط6، 1992م.
  • زعنون، فتيحة، حق الطفل المريض في المشاركة في القرار الطبي، مجلة دفاتر السياسة والقانون، جامعة وهران، الجزائر، ع 18، يناير 2018م.
  • زلط، أحمد، أدب الطفولة. أصوله ومفاهيمة رؤى تراثية، القاهرة: الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط4، 1997م.
  • زيدان، سلام، مسؤولية الطبيب الجزائية، بغداد: دار الكتب والوثائق، ط1، 2016م.
  • عساف، وائل تيسير محمد، المسؤولية المدنية للطبيب: دراسة مقارنة، أطروحة الماجستير، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، 2008م.
  • فايد، محمد، المسؤولية الجنائية للأطباء، القاهرة: دار النهضة العربية،1987م.
  • الفيروز آبادي، القاموس المحيط، بيروت: دار الجيل، ط1، 1995م.
  • القديري، ممدوح، أدب الطفل العربي، القاهرة: مركز الحضارة العربية،ط1، 1999م.
  • مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ج2، بيروت: دار إحياء التراث العربي ط2.
  • مجموعة مؤلفين، دائرة المعارف العالمية  world book Encyclopedia، ج15، نشر وترجمة مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1996م.
  • مجموعة مؤلفين، معجم اللغة العربية، ج6، بيروت: دار المحيط، ط1، 1995م.
  • معهد الطب الأمريكي 1999 (TOERR IS THAMAN. NOVEMBER) أشار إليه: وسيم فتح الله: الخطأ الطبي وآثاره، القاهرة: النهضة العربية، ط1.
  • نجيب، أحمد، القصة في أدب الأطفال، بيروت: دار الحدائق، ط1، 2000م.

مواقع إلكترونية:

  • اليونيسف: اتفاقية حقوق الطفل unicef.org/arabic/crc/34726_50765.html
  • الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان kuwaithr.org
  • بيطام، د. سميرة، الخطأ الطبي بين التجريم والتبرئة، مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب wefaqdev.net
  • رشيد، بلال، المفارقة في رواية منير (الأبيض لا يليق بكم) http://elsada.net
  • عبد المنعم، انتصار، الأبيض لا يليق بكم.. رسالة خالدة وبشر زائلون https://news
  • مستشفى السلام الدولي، الكويت، وثيقة حقوق الأطفال

http://sih-kw.com/Children_Bills_of_Rights_Ar.cms

  • مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان

www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CRC.aspx

مصادر أجنبية:

  • Anderson, William and Groff, Patrick, 1972, A New Look at Children’s Literature California: Belmont Wadsworth Publishing Company.
  • Betzner, Sean, 1956, Exploring Literature With Children, New York. Teachers College, Columbia University.
  • Huch, Charllots, 1976, Children’s Literature in the Elementary School. New York: Holt, Rinhart and Winston.