الشخصية في قصة رماد شوزيت” لسليمان المعمري

https://aljeelaljadeed.in/

الشخصية في قصة “رماد شوزيت” لسليمان المعمري

 د. عيسى بن سعيد بن عيسى الحوقاني*

ملخص البحث

تقع قصة “رماد شوزيت” ضمن مجموعة قصصية موسومة بعنوان “كائنات الردة” لسليمان المعمري، وتبرز فيها شخصية “شوزيت” الرجل البنجلاديشي الذي قضى سنوات طويلة في عُمان، وتعد هذه الشخصية محورية إذ تدور حولها أحداث القصة وتحمل عنوانها. ولا شك في أنّ الوصول إلى ملامح الشخصية من خلال القصة القصيرة أصعب من الوصول إلى ملامح الشخصية من خلال الرواية؛ لأن اتساع الفضاء الروائي يتيح للشخصية مساحة أكبر للكشف عن نفسها بوضوح، ولهذا يستطيع الباحث تتبّع تطورها، والدخول في أعماقها وخفايا نفسها، والكشف عن مواطن ضعفها وقوتها، وهذا الأمر يكون أكثر صعوبة في القصة القصيرة.

 ومع هذا سعينا في هذه الدراسة إلى تناول الشخصية في قصة “رماد شوزيت” لسليمان المعمري والذي يسوّغ هذه الدراسة تنوع الشخصيات وبراعة الكاتب في توظيفها بالنص القصصي.

كلمات مفتاحية: رماد شوزيت، سليمان المعمري، الشخصية، القصة.

مقدمة

إن دراسة عنصر من عناصر السرد في قصة ما لا يعني قطع الصلة بينه وبين باقي عناصر السرد، إذ إنّ القصة لا تحقق النجاح إلا بتماسك عناصرها، فكلّ عنصر من عناصر السرد هو لبنة من لبنات بناء متكامل، فلا بدّ من أن تكون جميع لبنات هذا البناء قويةً متماسكةً؛ لأنّ ضعف أي عنصر من عناصر السرد يؤدي إلى اهتزاز في باقي العناصر، وهذا يؤدي إلى خلل في العمل القصصي كلّه.

وتُعدُّ الشخصية من أبرز عناصر البنية السردية وأهمها، إذ إنّها بمثابة النقطة أو البؤرة الأساسية التي يرتكز عليها العمل السردي، فالشخصيّة هي “المجموع المتكامل المترابط للعلاقات الداخلية الممتزجة بواسطة كلّ المؤثرات الخارجية”[1] ولهذا لا يمكن تصور قصة ـعلى سبيل المثالـ بلا أحداث، ولا يمكن تصور أحداث بلا شخصيات[2] وقد تكون شخصيات القصص واقعية وقد تكون خياليّة وهذه الشخصيّات هي المحور الذي تدور حولها أحداث القصة، ولا شكّ في أنّه “من الخطأ الفصل أو التفرقة بين الشخصيّة وبين الحدث؛ لأنّ الحدث هو الشخصيّة فهي تعمل أو هي الفاعل وهو يفعل”[3].

والشخصية هي “كل مشارك في أحداث الحبكة سلبًا وإيجابًا، أمّا من لا يشارك في الحدث فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءًا من الوصف، فالشخصية عنصر مصنوع، مخترع، ككل عناصر الحكاية، فهي تتكون من مجموع الكلام الذي يصفها ويصور أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها”[4].

والشخصية عالم مليء بالتعقيدات، لذا لا يستطيع فهمها وسبر أغوارها إلاّ من يغوص في أعماق العمل القصصي، ويصفها عبد الملك مرتاض بأنها “هذا العالم المعقّد الشديد التركيب، المتباين التنوّع”[5].

والشخصية في نظر رولان بارت (Roland Barthes) “ناتج تركيبي يمكن أنْ يتكوّن من مجموعة من السمات التي يمكن أنْ تتكرر فتكوّن تركيبة قادرة أو تركيبة معقدة عندما تضم علامات متناسقة أو متنافرة، وهذا التعقيد أوالتعدد هو ما يحدد شخصية الشخصية”[6].

ويمكن أن يتعرف الباحث في النصوص القصصية على الشخصيّة من خلال أقوالها وأفعالها الواردة في النص، وذلك بالنظر في الملفوظات التي أنجزتها الشخصية عن نفسها أو أنجزها الراوي عنها للتعبير عن مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها، وهذا ما يؤكده فيليب هامون (Philippe Hamon) إذ يعرّف الشخصيّة بأنّها “وحدة دلالية… تولد من وحدات المعنى … ولا تبنى إلا من خلال جمل تتلفظ بها أو يُتلفّظ بها عنها”[7].

وللشخصيّة أهميتها الكبرى في العمل القصصي سواء أكانت إنسانيّة أو غير إنسانيّة، إلاّ أنّ الشخصيّة الإنسانيّة تبقى الأكثر تأثيرًا في ذهن المتلقي، إذ إنّها مستمدة من الواقع، ولهذا يكون تصويرها في ذهن المتلقي أكثر وضوحًا من الشخصيّات غير الإنسانيّة، وهذا ما يؤكده كل من محمد يوسف نجم، وعبد الله رضوان، وحسين قبّاني، إذ يقول الأول: “تُعدّ الشخصيات من أهم عناصر القصة، كما تُعدّ القصة التي تكون السيادة فيها للشخصيات الإنسانية أعلى من مستوى غيرها من القصص التي تكون فيها السيادة للحادثة مثلاً”[8].

ويقول الثاني: “تشكل الشخصية في القصة بديلا منبها للشخصية الواقعية تعكسها وتتجاوزها، بل إنها تعبر عنها ليس كشخصية فقط وإنّما كفئة بل كوظيفة، حيث إنها تساعدنا على قراءة العام وفهمه من خلال الخاص”[9].

ويقول الثالث: “يجب على القاص ألا يغفل أهمية الشخصية والكيفية التي يرسم بها تلك الشخصيات، وذلك أن العجزعن رسمها بوضوح في ذهن القارئ يجعلها باهتة وضعيفة، وكأنه أتى بها من عالم آخر”[10].

ولا يعني ذلك أنّ الكاتب يرسم شخصيّات عمله القصصي كما هي في الواقع، إذ لا بدّ له من أن يجعل لخياله دورًا أساسيًّا في رسم تلك الشخصيّات، ولا يتحقق له ذلك إلاّ بفهم الشخصيّة التي يريد رسمها، وبالقدرة على تصوير السلوكات التي تصدر عنها.

إنّ جميع شخصيّات قصة (رماد شوزيت) التي نتناولها في هذه الدراسة شخصيّات إنسانية، برع الكاتب سليمان المعمري في رسم ملامحها على الرغم من تعددها واختلاف أعراقها، ولغاتها، وطباعها وهذا ما يعطي الموضوع أهميّة وطرافة. 

المحور الأول: أبعاد الشخصية في قصة “رماد شوزيت” وطرائق تقديمها

لقد أولى النقّاد اهتمامًا كبيرًا بأبعاد الشخصية وبطرائق تقديمها في الأعمال السردية؛ إذ إنّ للشخصيّة القصصية أهميةً بالغةً، فهي الأصعب في الدراسات والمناقشات، والأكثر تنوعًا في طرائق تقديمها للمتلقي، وتمتاز بتعدد أنماطها وطرائق تناول تلك الأنماط بالدراسة والتحليل[11].

إنّ رسم أبعاد الشخصيّات وكيفيّة تقديمها من أهم ما يفكر به القاص إذ إنّ الشخصّية مفتاح العمل السرديّ، ولا شكّ في أنّ القاص يضع المتلقي نصب عينيه، فهو حاضر في كل تساؤلاته: كيف يقنعه بشخصيّات على الورق؟ وكيف ينقله من عالمه إلى عالم القصة؟ هذه الحيرة الإبداعيّة تقوده إلى إسباغ الصفات الجسمية والاجتماعية والنفسية على شخصيّات قصته ليجعلها مؤهلة للقيام بالدور الذي ستضطلع به في النص السرديّ من ناحية، ومقنعة للمتلقي من ناحية أخرى، ولهذا يصف القاص الشخصيات قصته من حيث أبعادها وملابسها وسنها وهواجسها وآلامها[12].

وأبعاد الشخصية في رأي رولان بارت هي “الامتداد الذي يمكن قياسه”[13] وهذا الامتداد يشمل الأبعاد الجسميّة المتمثلة في كل ما يتعلق بالهيئة الجسمانية الخارجية للشخصية كطولها، ووزنها، ولون بشرتها، ولون شعرها، وكلّ ما يتصل بالعيوب الخَلقيّة والعاهات، وما يتصل بوصف ملابسها، وغير ذلك من الصفات الجسميّة، أمّا الأبعاد الاجتماعية؛ فتتمثل في كلّ ما يتصل بوصف الحياة الاجتماعية للشخصية، ووضعها الاجتماعي من فقر وغنى، ومستواها الاجتماعي في محيطها، ويمكن ضم البعد الثقافي إلى الأبعاد الاجتماعية لشدة الترابط بينهما في الغالب، وأمّا الأبعاد النفسيّة فتتمثّل في كلّ ما له علاقة بمشاعر الشخصيّة وانفعالاتها وأخلاقها وطباعها.

وبما أنّ هذه الأبعاد (الجسمية والاجتماعيّة والنفسية) تكون كلها في الشخصية؛ فهي شديدة الارتباط ببعضها البعض، إذ يؤثر كلٌّ منها في الآخر.   

ويوظف الروائيون لتقديم الشخصيات طرائق متعددة، والمقصود بطرائق تقديم الشخصية هو عملية خلق الشخصية (Characterization)، إذ إنها “منهج يقدم به المؤلف شخصيةً ما في القصة أو المسرحية، وهذا المنهج يكون عادة بإحدى الطريقتين: إما أن يصف المؤلف الشخصية وصفًا دقيقًا، وإما أن تظهر الشخصية من خلال أحداث الرواية نفسها، وتفاعل الشخصية نفسها”[14].

ويلجأ الكتّاب في رسم شخصيات قصصهم إلى طريقتين لكلٍّ منهما وسائله، فالأولى هي الطريقة المباشرة ويطلق عليها طريقة الإخبار، والثانية هي الطريقة غير المباشرة ويطلق عليها طريقة الإظهار أو الكشف، ولكلتا الطريقتين حضوره في قصة “رماد شوزيت”.

وقد آثرنا في دراستنا تناول أبعاد الشخصيّة وطرائق تقديمها في آن دون الحاجة للفصل بينها لشدة الارتباط بينهما ولتيسير الاشتغال على الجانبين، والبعد عن تكرار النماذج.  

الأبعاد الجسمانية

اتبع سليمان المعمري وسائل مختلفة لتقديم شخصيات قصته “رماد شوزيت” بطريقة مباشرة ومن هذه الوسائل الوصف الخارجي للشخصية المتمثل في الوصف الجسدي وما يتصل به، وهذه الوسيلة من وسائل تقديم الشخصيّة تشعر المتلقي بأنّه يرى الشخصيّة ماثلة أمام عينية وأنّه يعايشها في الواقع.

ففي قصة “رماد شوزيت” يصف سليمان المعمري شخصية (شوزيت) الحلاق البنجاليّ وصفًا جسديّا محاولاً بذلك تصوير الوضع الذي آل إليه (شوزيت) إذ يقول واصفًا لهذه الشخصيّة: “أمّا في أيامه الأخيرة فكان واضحًا اعتماده على زملائه الأربعة مكتفيًا بفضيلة الإشراف والمتابعة”[15].

ويسهب المعمري في وصفه الجسديّ لشخصيّة (شوزيت) لتصوير حالته الصحيّة إذ يقول: “كان باديا عليه الإنهاك والتعب، ومسترخيًا في كرسيّه ويكتفي بإطلاق تعليق هنا أو عبارة هناك”[16] ويستمر المعمريّ في تأكيد هذا الوضع الصحي لـ(شوزيت) وكأنه بذلك يريد للمتلقي معايشة هذا الواقع الصحيّ إذ يقول: “لكني لم أشأ أن ألح عليه بعد ما رأيته من شحوب وجهه”[17].

ويحدد المعمريّ سنَّ (شوزيت) وسبب وفاته إذ يقول: “مات شوزيت إذن وبالسكتة القلبيّة وهو – نسبيّا- في عزّ شبابه، إلا إذا اعتبرنا الخمسين أرذل العمر”[18].

ومن مظاهر الوصف الجسميّ ما نجده في وصف الكاتب لجملة من الشخصيّات الثانويّة التي تمثل رفاق (شوزيت) بطل القصة إذ يقول: “البناؤون محدودبو الظهور، والحلاقون منفوشو الشعر”[19] ويواصل وصف رفاق شوزيت وقد تجمعوا حول جثمانه إذ يقول: “والروائح التي تنبعث من أجسادهم الكليلة ما كنتَ لتتغاضى عنها لولا هيبة الموت”[20].

ولا شكّ في أنّ هذا الوصف يجعل المتلقي وجهًا لوجه أمام هذه الشخصيّات إذ إنّ الكاتب وصف (شوزيت) وصفًا يشمل المظهر الخارجيّ للشخصيّة، عمرها وحرفتها، ومهارتها، ووضعها الصحي، وسبب وفاتها، كما وصف المظهر الخارجيّ لرفاق شوزيت بين محدودب ظهرٍ ومنفوش شعرٍ، أجساد كليلة تنبعث منها الروائح، وكلّ هذا الوصف من شأنه أنْ يجعل المتلقي يتخيّل تلك الشخصيّات الورقيّة على أرض الواقع. 

فوصف القاص للشخصيّة وصفًا جسديًّا يشعرنا بأنّها نابضةٌ بالحياة، وكلّما زادت دقة الوصف وتركّزت على الجزئيّات الدقيقة مع الاقتران بالحركة زاد هذا الشعور، فتصبح الشخصيّة ماثلةً أمام المتلقي بلحمها ودمها، إذ إنّ الشخصيّة “هي محور الفكر الإنسانيّ، ومدار قضايا البشرية ومشكلاتها، فهي تحيا مع هذه القضايا والمشكلات، وتمثل قيم المجتمع ومواصفاته، وتجسد واقعه وتصوّر بيئته”[21].

وتجدر الإشارة إلى أنّ الوصف الجسديّ للشخصيّات في قصة “رماد شوزيت” تم تقديمه -غالبًا- بواسطة الراوي الذي بدوره كان شخصيّة من شخصيّات القصة، وتبدو هذه الطريقة مباشرةً في تقديم الشخصيّة إذ ترتكز -غالبًا- على الإخبار.

الأبعاد الاجتماعية

وتتعلق هذه الصفات بالوضع الاجتماعيّ للشخصيّة وإيديولوجيتها، وعلاقاتها ومكانتها الاجتماعيّة، وهذه الصفات تظهر جليّة في قصة (رماد شوزيت) إذ برع الكاتب في رسم ملاح شخصيّاتها اجتماعيًّا، إذ يبدو الحلاق (شوزيت) في القصة ثرثارًا معتادًا على الثرثرة وهذا ما يظهر في وصف الراوي له: “كنتُ على مقعد الحلاقة بين يدي شوزيت الذي يحلقني ويثرثر كعادته”[22].

ويواصل الكاتب تصوير البعد الاجتماعيّ لشخصيّة (شوزيت) فيبدو شخصًا بذيء اللسان وهذا ما يظهر من رده على ناصر بن خميس، يقول الراوي متحدثًا عن شوزيت: “فقال لناصر بطريقة عفوية: (…) توقعت لحظتها أنْ تُغضب تلك الكلمة العمانيّة النابية التي لا يقولها إلا رَدِّيٌّ [من الردة] قح”[23] وبما أنّه تفوّه بكلمة عمانيّة نابية فهذا يعني أنّ شوزيت قد اندمج نسبيًا مع محيطه الاجتماعيّ، وما يزال تقديم الشخصيّة هنا يتم بواسطة الراوي الذي يروي لنا ما دار بين ناصر بن خميس وشوزيت.

ونجد الكاتب يقدم الشخصيّة بواسطتها، إذ يذكر لنا حوارًا دار بينه وبين شوزيت بعد طول انقطاع عن ارتياد صالون الحلاقة: “يخاطبني بود: “خوين إنته سوليمن؟” (أي أين أنت سليمان)”[24] فقد جعل الكاتب الشخصيّة تقدم نفسها من خلال أقوالها، إذ كشف لنا هذا الحوار الخارجي بالإضافة إلى جانب العلاقات الاجتماعية التي يحاول شوزيت تكوينها مع زبائنه أنّ شوزيت على الرغم من إقامته سبعةً وعشرين عامًا في سلطنة عمان، وكثرة ثرثرته مع زبائنه فإنّه يتكلم اللغة العربيّة مكسرةً.

ولا يغفل الكاتب عن الإشارة إلى جنسيّة (شوزيت)، وإلى فقره وعصاميّته، وإلى علاقاته بأهل القرية (الردة) يقول: “لا يمكن أنْ تكون قاطنًا في الردة ولم تحنِ رأسك مرةً واحدةً على الأقل لهذا البنغاليَ العصاميَ الذي عرف الردة فعرفته”[25].

كما وصف الكاتب فقر (شوزيت) وعصامَيته وصف كذلك تغيّر حاله قبل سنة من وفاته يقول: “قبل سنة من وفاته لم يكن محل شوزيت كبيرًا، ولكأنه أراد بتوسعته قبل أنْ يموت أنْ يوفر ظروف عملٍ جيدةٍ لزملائه الأربعة”[26].

 ويبدو أن الملامح الاجتماعية لشخصية (شوزيت) لا تكتمل في ذهن المتلقي إلا يذكر أيديولوجيته، إذ يصرح الكاتب بديانته فيقول واصفًا سلوكه عند سماعه الأذان: “يطلب من زملائه خفض صوت الأغنية الهندية في التلفاز بمجرد أنْ يتناهى إلى أذنه صوت الأذان، وهو الرجل الـ”بانيان”[27] ولا شكْ في أهميّة التصريح بدين (شوزيت) لبيان “التفاصيل التي تجبر المرء على حب شوزيت واحترامه”[28].

وتجدر الإشارة إلى أنّ تقديم الوصف الاجتماعيّ للشخصيّات في قصة “رماد شوزيت” اعتمد على الإخبار بواسطة الراوي تارةً أو عن طريق الشخصيّة نفسها بأقوالها تارةً وبأفعالها تارةً أخرى. ولا شكّ في أنّ القاص في هذه الطريقة قد منح الشخصيّة حريةً أكثر للتعبير عن نفسها.

 الأبعاد النفسية (السيكولوجية)

وتتعلق الصفات السيكولوجية بالجوانب الداخلية للشخصية كالأفكار والمشاعر والانفعالات المختلفة، وقد يتم تقديم البعد السيكولوجي للشخصية بطريقةٍ مباشرةٍ أو بطريقةٍ غير مباشرةٍ، وغالبًا ما تكون الطريقة المباشرة بالإخبار، ولا شك في أنّ القاص يقدم بالإخبار وجهة نظره، بل يفرضها على المتلقي ويتدخل بشكلٍ مباشرٍ في تقديم الشخصيّة للمتلقي.

فقد لجأ القاص إلى الإخبار عن أفعال أصحاب شوزيت بعد وفاته إذ يقول: “هناك تحلقوا حول الجثمان زرافات: فلاحون، وبناؤون، وحلاقون، يترنمون في دواخلهم: “أنت السابق يا شوزيت ونحن اللاحقون”[29] وهنا لم يكتفِ القاص بالإخبار عن ردّات فعل أصحاب شوزيت، بل إنّه لم يتح للمتلقي فرصة استنتاج مشاعرهم، فأخبر كذلك بما يترنمون به في دواخلهم “أنت السابق يا شوزيت ونحن اللاحقون” وهنا ينغلق الباب أمام المتلقي في تأويل ما تكنّه دواخل أصحاب (شوزيت).

وقدم القاص لنا شعور (شوزيت) بالحنين إلى ابنته بطريقةٍ مباشرةٍ دون أنْ يتيح للمتلقي فرصة تأويل تلك المشاعر واستنتاجها إذ يقول: “بل إنّ شوزيت سيحكي لك عنك إذ يحكي عن نفس “سيحكي عن حنينه لابنته”[30] ولا يختلف اثنان في أنّ القاص لم يترك للشخصيّة حريّة تقديم مشاعرها إلى المتلقي بأقوالها أو أفعالها، بل لجأ إلى الإخبار المباشر عن تلك المشاعر.

ولا شك في أنّ الطريقة غير المباشرة أكثر تأثيرًا في المتلقي إذ يمنح القاص للشخصيّة حريةً أكثر للتعبير عن نفسها، وعن كلّ ما يختلج بداخلها من أفكار وعواطف وميول، وهنا تتنحّى شخصيّة القاص جانبًا لتترك المجال مشرعًا للشخصيّة القصصيّة لتقوم بوظيفتها النفسيّة عن التأثيرات[31]، ففي هذه الطريقة يتيح القاص المجال للشخصيّة لتعبر عن نفسها من ناحية، ويتيح للمتلقي الفرصة للكشف عن أبعاد الشخصيّة وصفاتها النفسيّة من ناحية أخرى.

ويفضل النقد الحديث استخدام الطريقة غير المباشرة في تقديم الشخصية، لأنها تكشف الشخصية من داخلها إلى خارجها، ولا شك في أن هذا أقوى تأثيرًا من الوصف الخارجي، ولا يلجأ القاص إلى الطريقة التحليليّة المباشرة إلا حين يعجز في حبكته القصصية عن تهيئة الظروف التي تمنح الشخصيّات الفرصة لتقديم نفسها بالطريقة غير المباشرة[32].

ففي الطريقة غير المباشرة لا يعطينا القاص صفات الشخصيّة بشكلٍ مباشرٍ، وإنّما على المتلقي الاعتماد على وجهة نظره من ناحية، وإعمال إمكانيّاته التأويليّة من ناحية أخرى ليصل إلى صفات الشخصيّة من خلال سبره لأغوار النصّ القصصيّ من داخله.

ولا يذكر القاص في هذه الطريقة غير المباشرة تعريفات جاهزة لشخصياته، بل يترك للمتلقي مجالاً لسبر أغوار النص القصصي واستنتاج صفات تلك الشخصيات سواء من خلال أقوالها أو سلوكها أو أفعالها أو ردّات أفعالها أو أقوال الشخصيات الأخرى عنها.

ويمكن لمن يسبر أغوار قصة (رماد شوزيت) أنّ يجد الصفات السيكولوجيّة للشخصيّات بطريقةٍ غير مباشرةٍ ومن ذلك ما أورده القاص عند ذكر فعل عمار بن هلال ذي السنوات الثلاث وردة فعل كل من والده (هلال) والحلاق (شوزيت) إذ يقول: “بيد أنّ عمارًا ما إنْ رأى زبون شوزيت يترجل من الكرسيّ حتى وثب بسرعةٍ وجلس مكانه وطلب من شوزيت أنْ يحلقه، رغم أنّه ـأي عمارـ لم يفعل هذا الأمر عندما شغرت مقاعد زملاء شوزيت. نظر هذا الأخير لهلال الذي رشق شوزيت بغمزة ففهمها وهي طائرة، قام برش الماء على رأس عمار وهو يداعبه ومشط شعره، وأمسك بالمقص وطفق يحلق الهواء، فيما يبتسم عمار المسكين بالحلاقة الوهميّة”[33].

ففي النص السابق قدم لنا القاص مشاعر الشخصيّات وأحاسيسها من خلال الأفعال وردّات الأفعال، فوثوب عمارٍ إلى كرسيّ شوزيت دون غيره من الحلاقين قد يدل على حسن تعامل (شوزيت) مع الأطفال، وغمزة (هلال) لـ(شوزيت) وفهم الأخير لدلالتها تدل على ذكاء (شوزيت) وسرعة بديهته، وتصرف الأب (هلال) يدل على حنان الأب الذي لا يريد كسر خاطر الطفل (عمار).

ولا شكّ في أنّ هذا التأويل للصفات قد يتغيّر من متلقٍ إلى متلقٍ آخر، إذ منح القاص للمتلقي هذه المساحة للكشف عن الصفات من خلال تأويل الأفعال وردّات الأفعال.

ويذكر القاص ردة فعل (شوزيت) عند سماعه الأذان إذ يقول: “يطلب من زملائه خفض صوت الأغنية الهندية في التلفاز بمجرد أن يتناهى إلى أذنه صوت الأذان، وهو الرجل الـ”بانيان”[34] فلم يذكر القاص وصفًا صريحًا ولا تعريفًا جاهزًا لشخصيّة (شوزيت)، بل أفسح المجال للشخصيّة لتعبر عن نفسها بأفعالها وسلوكها، وأتاح للمتلقي الفرصة للكشف عن أبعاد هذه الشخصيّة وصفتها النفسيّة، ولا شكّ في أنّ أفق توقّع الصفات النفسية سيكون واسعًا أمام المتلقي. 

ويلجأ المعمريّ إلى المزاوجة بين المباشرة وغير المباشرة في تقديم الصفات السيكولوجيّة لشخصيّات قصته؛ وذلك بذكر الصفة لا على سبيل الجزم بها بل على سبيل التوقّع دون فرضها على المتلقي، وهذا ما نجده في ذكر ثرثرة (ناصر بن خميس) وردة فعل (شوزيت) من مضمون تلك الثرثرة، وكذلك ردة فعل (ناصر بن خميس على ردة فعل (شوزيت)، يقول: “كنت على مقعد الحلاقة بين يدي شوزيت الذي يحلقني ويثرثر كعادته. كان ناصر بن خميس ينتظر دوره في الحلاقة ويثرثر هو الآخر عندما قال شيئًا لم أعد أذكره الآن ولكنًه بدا غير معقولٍ أو قابلٍ للتصديق من قبل شوزيت فقال لناصر بطريقةٍ عفوية: (…) توقعت لحظتها أنْ تغضب تلك الكلمة العمانيّة النابية التي لا يقولها إلا ردّي [من الردة] قح ناصرًا وتجعله يثب من مقعده ليمسك بخناق الحلاق لكنّ شيئًا من ذلك لم يحدث!. ربما لأنّ ناصرًا حليمٌ، وربما لأنّه معتادٌ على بذاءات الحلاقين”[35].

ولا شك في أنّ القاص حين ذكر ردة فعل (شوزيت) دون أنْ يكشف عن الصفة ويصرح بها قد ترك للمتلقي فرصة الكشف عن تلك الصفة، بينما لم يفعل ذلك في شخصيّة (ناصر بن خميس) إذ ذكر الصفة “ربما لأن ناصرًا حليمٌ، وربما لأنّه معتادٌ على بذاءات الحلاقين” ولكنّه ذكرها على سبيل الاحتمال بين الصفتين دون الجزم بهما، ولا بترجيح واحدةٍ على الأخرى، وهذا يعني ظاهريًّا أنّ القاص لم يفرض الصفة على المتلقي، وإنّما وضع توقعين قابلين لمزيد من التوقعات، ولكنّ الأغلب أنْ يبقى المتلقي أسير هذين الاحتمالين في رسم ملامح شخصيّة (ناصر بن خميس).

ويظهر جليًا أنّ سليمان المعمري قد اعتنى في رسم شخصيّات قصته بالبعد الجسمي المادي وبالبعد الاجتماعي وبالبعد النفسي، وقد نوّع في طرائق تقديم هذه الشخصيات بين المباشرة وغير المباشرة، وتبدو طريقة تقديم الشخصيّة بواسطة الراوي الأكثر شيوعًا في هذه القصة، إلاّ أنّ لتقديم الشخصيّة بواسطة شخصيّة أخرى وبواسطة الشخصيّة نفسها كان له حضوره كذلك؛ إذ ظهر تقديم الشخصيّات عن طريق أقوالها تارةً، وعن طريق أفعالها وردّات أفعالها تارةً أخرى. 

المحور الثاني: أنماط الشخصية في قصة رماد شوزيت

يختلف تصنيف الشخصيات في العمل القصصي حسب الخصائص التي تحدد وظيفتها في النص إلا أنّ كثرة التصنيفات ترجع إلى اختلاف المعايير التي يتبعها كلّ تصنيف، فوفق المعايير تتحدد الأنماط “ومن أهم تلك التحديدات خاصيّة الثبات أو التغيّر التي تتميّز بها الشخصيّة والتي تتيح لنا توزيع الشخصيّات إلى سكونيّة Statques، وهي التي تظل ثابتة لا تتغير طوال السرد، وديناميّة Dynamiques، وتمتاز بالتحولات المفاجئة التي تطرأ عليها داخل البنية الحكائية الواحدة”[36].

وهكذا تتعدد تصنيفات الدارسين للشخصيّة في الأعمال القصصية كل حسب الزاوية التي ينظر منها إلى الشخصيّة، فهناك من يصنف الشخصيات حسب الدور الذي تقوم به في العمل القصصي، وهناك من يصنف الشخصيّات على أساس البناء الفنيّ، فالشخصيّة من حيث الدور تنقسم إلى: محورية، ورئيسة، وثانوية، وهناك من يرى تقسيمها إلى: مركزيّة، وثانويّة، وخالية من الاعتبار، وأمّا من حيث البناء الفنيّ فتنقسم إلى: نامية (مدوّرة)، وثابتة (مسطحة)[37].

ولسنا في مقام مناقشة تقسيمات أنماط الشخصيّة وإنما في مقام تطبيق ما نراه ينسجم مع نصنا المتمثل في قصة “رماد شوزيت” لذا رأينا أن نقسم الشخصيات إلى: محوريّة، وثانويّة.

الشخصية المحورية

وقد يطلق عليها الشخصية المركزية أو الرئيسة، وهي “مركز ثقل رؤية العمل الفنيّ الرمزيّة، باعتبارها الشخصيّة الاعتباريّة”[38] وهذه شخصيّة تسيطر على مجرى سير الأحداث والأزمنة وتتفاعل معها، وبها يتحرك الكاتب ليظهر غايته من العمل القصصيّ، فيلازمها ملازمة مطلقة، ويتمحور حول الشخصية المحورية الخطاب السردي، فهي عموده الفقري الذي ترتكز عليه[39].

ويرى محمد بوعزة أنّ الشخصية الرئيسة هي الشخصية “المعقدة المركّبة، الدينامية، الغامضة، لها القدرة على الإدهاش، والإقناع، كما تقوم بأدوار حاسمة في مجرى الحكي، تستأثر دائمًا بالاهتمام، ويتوقف عليها فهم العمل الروائيّ، ولا يمكن الاستغناء عنها”[40].

ويعتمد تحديد الشخصية المحورية على أساسين وهما: كثافة ظهور الشخصيّة في سرد الأحدث، وأهميّة الدور الذي تقوم به، وعند تتبّع هذين الأساسين في قصة (رماد شوزيت) نجد أنّ (شوزيت) خير من يمثل هذين الأساسين، وهذا ما يظهر للوهلة الأولى من عنوان القصة، فهو محور القصة كلّها.

ومما يؤكد على أن (شوزيت) هو الشخصيّة المحوريّة لجوء الكاتب إلى تقديم مقاطع وصفيّة في بداية نصه السرديّ تتعلق برسم ملامح شخصيّة (شوزيت) وإبراز طباعها سواء بواسطة الراوي أو بواسطة شخصيّات أخرى في القصة، أو بترك الشخصية نفسها تقوم بذلك، ومن ناحية أخرى فإنّ أهمية الدور الذي قامت به شخصية (شوزيت) في بناء الحدث وتطوّره تؤكد على أنّها الشخصية المحورية.

لقد قدم الكاتب مقاطع وصفيّة كثيرة لهذه الشخصيّة المحوريّة في بداية النصّ وأول ما يطالعنا من هذه المقاطع قوله في بداية القصة: “البارحة أحرقوا شوزيت في بنغلاديش فتناثر رماد ذكراه في الردة التي لا أظنني مبالغًا إذا قلت إنّ جميع رجالها وأطفالها يعرفون شوزيت”[41] ويقول في وصفه: “هذا البنغاليّ العصامي الذي عرف الرَّدة فعرفته، وكلّمها بقلبه فأسكتته، مات شوزيت إذن وبالسكتة القلبية وهو ـ نسبيًّا ـ في عزّ شبابه، إلاّ إذا اعتبرنا الخمسين عاما أرذل العمر”[42].

وهكذا يستمر الكاتب في وصف (شوزيت) الشخصيّة المحوريّة في هذه القصة، ويرسم ملامحها بأبعادها المختلفة لتتجلّى للمتلقي شخصيّة (شوزيت) الشاب البنغاليّ العصاميّ الذي قدم إلى سلطنة عمان للعمل في مهنة الحلاقة، بدأ أجيرًا وقضى من عمره سبعةً وعشرين عامًا في سلطنة عمان؛ ليصبح صاحب محل حلاقة كبير، “لا يمكن أنْ نقول إنّ شوزيت البنغالي ليس عمانيًّا وهو الذي قضى في الردة أكثر من نصف عمره (سبعة وعشرين عامًا) بدأها كحلاقٍ أجيرٍ لا حول له ولا قوة ولا مشط له ولا مقص، وختمها كصاحب محل حلاقةٍ كبيرٍ يعمل تحت إمرته ـ وبالإشارة من مقصه ـ عددٌ من أبناء جلدته”[43].

وتمتاز شخصية (شوزيت) بارتباطها بأحداث القصة،وزمانها ومكانها وتفاعلها مع باقي الشخصيات، وكذلك تمازجها مع كافة عناصر العمل السرديّ لتسهم في بنائه بصورةٍ متماسكةٍ ورصينةٍ، وترتفع شخصية (شوزيت) لتأخذ دور البطولة، فهو في البداية “أجير لا حول له ولا قوة ولا مشط له ولا مقص”[44] ليصبح “صاحب محل حلاقةٍ كبيرٍ يعمل تحت إمرته ـ وبالإشارة من مقصه ـ عددٌ من أبناء جلدته”[45].

وشخصيّة (شوزيت) في القصة كانت بمثابة القائد الذي يسيطر على الأحداث، ويمسك بدفة توجيهها، ويبدو أنّ الكاتب قد أولى هذه الشخصيّة أهمية قصوى، فهي شخصيّة نامية تتطوّر وتسهم في تطوّر الشخصيّات الأخرى، والمتمعن في شخصيّة (شوزيت) يدرك دون كبير عناء أهميتها إذ ظل “لأفعالها حضورٌ مركزيٌ، ودورٌ حيويٌّ في تطور العمليّة الحكائيّة وتحوّلاتها المختلفة”[46].

وقد ظهر على شخصيّة (شوزيت) التفرّد إذ جمع بين المتناقضات فعلى الرغم من كونه ثرثارًا فإنّه محبوبٌ، وعلى الرغم من استعماله للكلمات النابية فإنّه مقبولٌ عند أغلب الناس ولا يثير غضبهم، وعلى الرغم من كونه من البانيان؛ فإنّه يطلب من زملائه خفض صوت الأغنية الهندية عند سماع الأذان، وعلى الرغم من أنّه مستثمرٌ يرغب في جني الأرباح؛ فإنه يرفض تجاوز أدوار الآخرين من أي زبونٍ مهما كان. 

ونلاحظ أنّ الكاتب في تقديم هذه الشخصية المحورية (شوزيت) يعدد ملامحها فيصفها وصفًا مباشرًا، ولا يتيح لها ـإلاّ نادرًاـ الفرصة لتتكشف عن صفاتها من خلال أقوالها أو أفعالها، وهو بذلك لا يدع فرصة للمتلقي أنْ يعرف ملامح الشخصيّة من خلال الإشارات والتلميحات التي تتكشف عادةً باستنطاق النص.

الشخصيات الثانوية

هي الشخصية التي تؤدي دورًا ثانويًا في العمل القصصي، ويكون حضورها على قدر الدور الذي تؤديه، فهذه الشخصيّة تختفي ـغالباـ من العمل القصصيّ بعد انتهاء دورها، فوظيفتها مرحليّة؛ ولهذا لا يُعنى الكاتب بتفصيلات حياتها، ولا يقدم من أبعادها إلا بالقدر الذي يخدم الفكرة الجوهريّة، ويساعد على إضاءة ما يخدم النصّ من ملامح هذه الشخصيّة، ولا شكّ في أنّ هذا لا يقلل من أهميّة هذه الشخصيّة والدور الذي تضطلع به في العمل القصصيّ.

وقد تكون الشخصيات الثانوية عامل تفسيرٍ للأحداث في العمل القصصيّ من ناحية، وتقوم بتعميق الرمز المعنوي والدلالة الفكريّة للشخصية المحورية من ناحية أخرى؛ إذ إن الأفكار الأساسيّة في العمل القصصيّ قد لا تظهر ولا تتشكل إلا من خلال الروابط والعلاقات بين الشخصيات المحورية والشخصيات الثانوية، بل قد تسهم تلك الشخصيات الثانوية في إبراز المحيط الاجتماعي للرواية، وقد تؤثر على الشخصيّة الرئيسة فتغيّر مسار حياتها.

وهناك من يقسم الشخصيّات الثانويّة إلى: شخصيّات ثانوية نامية، وشخصيات ثانوية ثابتة، إلا أنّ هذا التقسيم -حسب ما نراه- لا يتناسب مع شخصيّات قصة (رماد شوزيت) إذ إن الشخصيات الثانوية النامية تتطور من موقف إلى موقف حسب تطور الأحداث، ولا يكتمل تكوينها حتى تكتمل القصة[47]، وهذا النمط من الشخصيّات لا نرى له حضورا يذكر في قصة (رماد شوزيت) عدا في الشخصية المحوريّة، فعلى الرغم من كثافة الشخصيّات الثانويّة في قصة (رماد شوزيت) فإنّها شخصيّات ثابتة بقيت على حالها من بداية القصة إلى نهايتها فلم تتطور، مع تفاوت كثافة حضورها، وأهمية أدوارها، ودرجات تأثيرها.

ولا يتسع المقام لتناول جميع الشخصيّات الثانويّة لكثافتها؛ ولهذا نكتفي بنماذج نرى أنّ ذكرها يغني عن ذكر سواها.

الحلاقون الأربعة الذين يعملون في محل (شوزيت) وهم: (بيدان)، و(أوديب)، و(ميتول)، و(كوشوم)، وقد كان ظهور كل من (بيدان)، و(ميتول) مقتصرًا على مرةٍ واحدةٍ وعلى لسان الراوي، أمّا (كوشوم) فقد ذكر الراوي أنَّ أخاه (محمود) يفضل حلاقته على حلاقة شوزيت، “…وكوشوم ابن أخيه الذي يفضل أخي محمود حلاقته على حلاقة شوزيت زاعمًا أن هذا الأخير لا تظهر المضاعفان السلبية لحلاقته إلا بعد يومين”[48] وشخصية (محمود) لم يكن لها ظهور عدا هذا الظهور، فقد أدّت دورها واختفت، أمّا شخصيّة (أوديب) فقد ظهرت مرة ًأخرى عندما وصف الراوي ضعف (شوزيت) وعدم قدرته على الحلاقة يقول: “وعندما حان دوري أسلمني لزميله أوديب”[49] ولم يعد لشخصيّة (أوديب) دورٌ بعد هذا الدور.

شخصيّة الحلاق (راجو): حضرت هذه الشخصيّة الثانويّة حين قارن الراوي بين حلاقة (شوزيت) وحلاقة (راجو) إذ يقول: “فمنذ أنْ بدأ يحلقني لا أذكر أن شوزيت جرحني بعكس راجو الجبان، الذي لا يكتفي بجرح زبونه، بل ينهره أيضًا كإجراء احترازي يستبق به الثورة العارمة التي قد تصدر عن هذا الزبون… هذا التصرف الجبان ما كان ليقترفه شوزيت”[50] بعدها تختفي شخصيّة (راجو) عن الظهور، ولا شك في أن لهذه الشخصية أهمية بالغة في رسم ملامح الشخصية المحورية (شوزيت).

شخصية عمار وأبيه هلال: و(عمار) طفل صغير عمره ثلاث سنواتٍ، وهو ابن أخت الراوي يذهب برفقة أبيه (هلال) إلى صالون (شوزيت)، ويجلس على مقاعد المنتظرين بينما أبوه يحلق، ويبقى (عمار) على مقاعد المنتظرين ولا يتحرك على الرغم من شغور كراسي زملاء (شوزيت) ولكنه “ما إنْ رأى زبون شوزيت يترجل من الكرسي حتى وثب بسرعةٍ وجلس مكانه وطلب من شوزيت أن يحلقه” وبما أنّه لم يمض على حلاقة (عمار) أسبوعٌ على يد شوزيت “نظر هذا الأخير لهلال الذي رشق شوزيت بغمزة ففهمها وهي طائرة، قام برش الماء على رأس عمار وهو يداعبه ومشط شعره، وأمسك بالمقص وطفق يحلق الهوا، فيما يبتسم عمار المسكين بالحلاقة الوهميّة”[51] وتختفي شخصية (عمار) و شخصية (هلال) بعد أن أدت كل واحدةٍ من الشخصيتين دورها، ولا شك في أن هاتين الشخصيتين الثانويتين قد اضطلعتا بدورٍ بالغٍ في الأهمية أسهم في رسم الأبعاد الاجتماعية والنفسية للشخصية المحورية (شوزيت)، فهو لطيفٌ في التعامل مع الأطفال، وذكيٌّ فهم ما أراده (هلال) بغمزة العين.

شخصية ناصر بن خميس: وهو رجل عماني اعتاد على الحلاقة في صالون (شوزيت) وتبدو شخصيّة (ناصر بن خميس) من النوع الذي يحب الثرثرة ويقول ما لا يقبله العقل وهنا تظهر ردة فعل (شوزيت) “فقال لناصر “بطريقةٍ عفويةٍ (…) توقعت لحظتها أن تغضب تلك الكلمة العمانية النابية التي لا يقولها إلا رديّ [من الرّدة] قح ناصرا وتجعله يثب من مقعده ليمسك بخناق الحلاق لكن شيئًا من ذلك لم يحدث!. ربما لأنّ ناصرًا حليمٌ، وربما لأنّه معتاد على بذاءات الحلاقين”[52] وهنا تتجلّى أهميّة هذه الشخصية الثانوية على الرغم من اختفائها بعد هذا الدور، فقد أسهمت في رسم الملامح النفسية للشخصية المحورية من ناحية وفي رسم ملامح المجتمع المحيط بها.

وهناك شخصيّات ثانويّة كثيرة جاء ذكرها في القصة ذكرًا عابرًا، واضطلعت بأدوارٍ تتفاوت في أهميتها وإنْ كانت لا تمثل تحوّلا في مسار الأحداث، كشخصيّة الحلاق (دلال)، والحلاق الباكستاني (فهيم).

وهناك شخصيات قد تكون خالية من الاعتبار، أو ما تسمى بالشخصيات الهامشية وهي تلك الشخصيات التي تكمل المشهد أو الصورة التي يرسمها القاص، وتمكنه من سد الفراغات في حدود المكان “فهي شخصيّات لا نكاد نتبين منها شيئًا من ملامحها، ولا نرى لها دورًا بارزًا … وإنّما هي أشبه بالخلفية للمشهد، أو هي جزء من البيئة التي تجري فيها الأحداث”[53].

وهذا النمط من الشخصيات نجده في قصة (رماد شوزيت) وأغلبها لم تذكر بالاسم كشخصية ابنة شوزيت وشخصيّة البنغاليّ الذي تبرع بصندوق لجثة شوزيت، وشخصيات ذكرت بحرفها كالبنائين والحلاقين والفلاحين، فهذه الشخصيّات وإنْ كانت هامشية إلاّ أن كل واحدة منها أدّت دورًا في سدّ فجوات وملءِ ثغرات، ولا شكّ في أنّ هذا يستلزمه تصوير الحدث بكامل أبعاده.

خاتمة البحث

وبعد هذا التطواف في دراسة الشخصية في قصة (رماد شوزيت) يمكننا القول بأنّ الكاتب قد رسم الشخصيات بطريقتين: الطريقة المباشرة (طريقة الإخبار)، والطريقة غير المباشرة (الكشف) وإنْ كانت الطريقة المباشرة هي الأبرز.

ويلجأ المعمري إلى المزاوجة بين الطريقة المباشرة والطريقة غير المباشرة في تقديم الصفات الاجتماعيّة، والصفات السيكولوجيّة لشخصيّات قصته إذ اعتمد على الإخبار بواسطة الراوي أو عن طريق الشخصيّة نفسها، بأقوالها تارةً وبأفعالها تارةً أخرى.

حرص المعمري على تقديم الشخصية المحورية في قصته (شوزيت) تقديمًا كاملاً بكافة أبعادها الجسمية والنفسية والاجتماعية، أما الشخصيات الثانوية فقد جاءت على نمطين: شخصيّات ثانويّة ذكر المؤلف بعض أبعادها، وشخصيّات ثانويّة سعى إلى تجريدها من كلّ سماتها حتى الاسم.

*أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة نزوى، سلطنة عمان.

[1] إبراهيم، نبيلة. فن القصة بين النظرية والتطبيق. القاهرة: دار غريب، 1980م، ص:28.

[2] حماش، جويدة. بناء الشخصية في حكاية عبدو والجماجم لمصطفى فاسي، مقاربة في السيميائيات. منشورات الأوراس، 2007م، ص:96.

[3] رشدي، رشاد. فن القصة القصيرة، ط2. بيروت: دار العودة، 1975م، ص:31.

[4] زيتوني، لطيف. معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت: مكتبة لبنان، 2002م، ص:113-114.

[5] مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد). الكويت: عالم الفكر، 1998م، ص:73.

[6] بارت، رولان. مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، تر: منذر عياش. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1993م، ص:72.

[7] هامون، فيليب. سيميولوجية الشخصيات الروائية، تر: سعيد بنكراد. الجزائر: دار كرم الله، 2012م، ص:34.

[8] نجم، محمد يوسف. فن القصة. بيروت: دار الثقافة، 1966م، ص:51.

[9] رضوان، عبد الله. النموذج وقضايا أخرى: دراسة نقدية للقصة القصيرة في الأردن 19701980م. عمّان: رابطة الكتاب الأردنيين، 1983م، ص:47.

[10] قباني، حسين. فن كتابة القصة. بيروت: دار الجيل، 1997م، ص:68.

[11] لودج، ديفيد. الفن الروائي، تر: ماهر البطوطي، ط1، ع288. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، ص:78.

[12] فتاح، علي عبد الرحمن. “تقنيات بناء الشخصية في رواية “ثرثرة فوق النيل“، مجلة كلية الآداب، جامعة صلاح الدين، ع102، ص:48-49.

[13] بارت، رولان. التحليل النصي، تر: عبد الكريم الشرقاوي. سوريا: دار التكوين والتأليف والترجمة والنشر، 2009م، ص:202.

[14] وهبة، مجدي وكامل المهندس. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ط2. بيروت: مكتبة لبنان، 1984م، ص:162.

[15] المعمري، سليمان. كائنات الردة، كتاب مجلة نزوى، الإصدار الثامن والثلاثين. عمان: مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان، 2018م، ص:18.

[16] المصدر نفسه، ص:18.

[17] المصدر نفسه، ص:19.

[18] المصدر نفسه، ص:15.

[19] المصدر نفسه، ص:23.

[20] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[21] عمر، مصطفى علي. القصة القصيرة في الأدب المصري الحديث، ط3. الإسكندرية: دار المعارف، 1986م، ص:125.

[22] المعمري، سليمان. كائنات الردة. ص:20.

[23] المصدر نفسه، ص:21.

[24] المصدر نفسه، ص:22.

[25] المصدر نفسه، ص:15.

[26] المصدر نفسه، ص:17.

[27] المصدر نفسه، ص:23.

[28] المصدر نفسه، ص:23.

[29] المصدر نفسه، ص:23.

[30] المصدر نفسه، ص:22.

[31] شريبط، أحمد شريبط. تطور البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 1947ـ1985م. الجزائر: اتحاد الكتاب العرب، 1991م، ص:29.

[32] أبو جاموس، محمود هلال محمد. البناء الفني للقصة القصيرة الأردنية (2000ـ2014م)، (أطروحة الدكتوراه). جامعة اليرموك، الأردن، 2017م -2018م، ص:77.

[33] المعمري، سليمان. كائنات الردة. ص:19-20.

[34] المصدر نفسه، ص:23.

[35] المصدر نفسه، ص:20-21.

[36] بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي، (الفضاء، الزمن، الشخصية)، ط1. لبنان: المركز الثقافي العربي، 1990م، ص:215.

[37] مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد). 1998م، ص:87.

[38] المرجع نفسه، ص:87.

[39] أبو جاموس، محمود هلال محمد. البناء الفني للقصة القصيرة الأردنية (2000م ـ 2014م)، ص:86.

[40] بوعزة، محمد. تحليل النص السردي، (تقنيات ومفاهيم)، ط1. الرباط: دار الأمان، 2010م، ص:58.

[41] المعمري، سليمان. كائنات الردة. ص:15.

[42] المصدر نفسه، ص:15.

[43] المصدر نفسه، ص:16.

[44] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[45] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[46] يقطين، سعيد. قال الراوي (البنية الحكائية في السيرة الشعبية)، ط1. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1997م، ص:110.

[47] شريبط،أحمد شريبط. تطور البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة. ص:33.

[48] المعمري، سليمان. كائنات الردة. ص:17.

[49] المصدر نفسه، ص:18-19.

[50] المصدر نفسه، ص:17-18.

[51] المصدر نفسه، ص:19-20.

[52] المصدر نفسه، ص:20-21.

[53] جروان، عبد العزيز. رسم الشخصية في النص المسرحي المقدم للطفل، ط1. الأردن: دار جليس الزمان، 2017م، ص:44.

المصادر والمراجع:

  • إبراهيم، نبيلة. فن القصة بين النظرية والتطبيق. القاهرة: دار غريب، 1980م.
  • أبو جاموس، محمود هلال محمد. البناء الفني للقصة القصيرة الأردنية (2000م2014م)، (أطروحة الدكتوراه). جامعة اليرموك، الأردن، 2017م -2018م.
  • بارت، رولان. التحليل النصي، تر: عبد الكريم الشرقاوي. سوريا: دار التكوين والتأليف والترجمة والنشر، 2009م.
  • بارت، رولان. مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، تر: منذر عياش. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1993م.
  • بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي، (الفضاء، الزمن، الشخصية)، ط1. لبنان: المركز الثقافي العربي، 1990م.
  • بوعزة، محمد. تحليل النص السردي، (تقنيات ومفاهيم)، ط1. الرباط: دار الأمان، 2010م.
  • جروان، عبد العزيز. رسم الشخصية في النص المسرحي المقدم للطفل، ط1. الأردن: دار جليس الزمان، 2017م.
  • حماش، جويدة. بناء الشخصية في حكاية عبدو والجماجم لمصطفى فاسي، مقاربة في السيميائيات. منشورات الأوراس، 2007م.
  • رشدي، رشاد. فن القصة القصيرة، ط2. بيروت: دار العودة، 1975م.
  • رضوان، عبد الله. النموذج وقضايا أخرى: دراسة نقدية للقصة القصيرة في الأردن 19701980م. عمّان: رابطة الكتاب الأردنيين، 1983م.
  • زيتوني، لطيف. معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت: مكتبة لبنان، 2002م.
  • شريبط، أحمد شريبط. تطور البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 19471985م. الجزائر: اتحاد الكتاب العرب، 1991م.
  • عمر، مصطفى علي. القصة القصيرة في الأدب المصري الحديث، ط3. الإسكندرية: دار المعارف، 1986م.
  • فتاح، علي عبد الرحمن. “تقنيات بناء الشخصية في رواية “ثرثرة فوق النيل“، مجلة كلية الآداب، جامعة صلاح الدين، ع102.
  • قباني، حسين. فن كتابة القصة. بيروت: دار الجيل، 1997م.
  • لودج، ديفيد. الفن الروائي، تر: ماهر البطوطي، ط1، ع288. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002م.
  • مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد). الكويت: عالم الفكر، 1998م.
  • المعمري، سليمان. كائنات الردة، كتاب مجلة نزوى، الإصدار الثامن والثلاثين. عمان: مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان، 2018م.
  • نجم، محمد يوسف. فن القصة. بيروت: دار الثقافة، 1966م.
  • هامون، فيليب. سيميولوجية الشخصيات الروائية، تر: سعيد بنكراد. الجزائر: دار كرم الله، 2012م.
  • وهبة، مجدي وكامل المهندس. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ط2. بيروت: مكتبة لبنان، 1984م.
  • يقطين، سعيد. قال الراوي (البنية الحكائية في السيرة الشعبية)، ط1. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1997م.

    تحميل المقالة